أمين الزاوي:
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال يوميات المثقفين التي تعكسها منشوراتهم المتواصلة، مرآة حقيقية لحزمة من الأمراض الثقافية والفكرية التي تدفع المجتمع الثقافي والأدبي والجامعي إلى الانحطاط وحكم الغوغاء.
لقد أصبح لكل كاتب أو جامعي يتمتع بنوع من الحضور الملغوم على المستوى البيداغوجي الجامعي أو الإعلامي مجموعة من الرواد أو الزبائن، ومن خلال علاقة المد والجزر بينه وبين متتبعيه، تنتج عملية تلاقح خطيرة تتميز في كيفية أن المجموعة تصنع المثقف على هواها، والمثقف يؤطّر المجموعة بحسب رغبتها. فالعامة من المتتبعين للمناشير يضغطون بشكل رمزي، فيستجيب الكاتب أو الجامعي لذلك كي يحافظ على رأسمال من المتابعين "الزبائن"، وفي الوقت ذاته، تمارس مجموعة "المتابعين أي الزبائن" صناعة رمزهم وإغراقه أكثر فأكثر في التسطيحية والابتعاد عن العقل.
الموت كشاف الأحياء الموتى
كلما فقدت الساحة الفكرية والفلسفية والأدبية اسماً وازناً تتحرك بشكل هائج ومباشر وسائل التواصل الاجتماعي حيال هذا الفقد، إذ لا يتأخر الكتّاب والجامعيون والإعلاميون عن التعبير عن أحاسيسهم التي تكشف أيضاً عن مواقفهم من هذا الراحل أو ذاك.
لقد أثار انتباهي ما خلّفه رحيل ثلاث شخصيات فكرية في رواد وسائل التواصل الاجتماعي، بخاصة من فئة الجامعيين والكتاب، هذا الأثر يمكّننا من قراءة سيكولوجية "إبستمولوجية" للمثقف العربي والمغاربي وتفكيك العطب البنيوي الذي يعاني منه.
أولاً: رحيل الفيلسوف والباحث الدكتور حسن حنفي في 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، صاحب "مقدمة في علم الاستغراب" و"التراث والتجديد" (4 مجلدات)، و"من النقل إلى الإبداع" (9 مجلدات)، و"اليمين واليسار في الفكر الديني" وغيرها من الكتب التي خلّفت ردود أفعال كثيرة على المستوى الجامعي والعمومي. مع رحيل المفكر حسن حنفي، خرج علينا فجأة ومن دون سابق إنذار!! مئات الجامعيين للحديث عن المنجز الفكري والفلسفي لهذا المفكر، وقد كال الجميع له مدحاً كثيراً وأشادوا بأعماله في تعبيرات غامضة وعمومية في غالبيتها، تشبه تأبين الفقهاء للعجائز، ونشر المئات منهم صوراً معه تعبيراً عن الوفاء له ولفكره، وهم في ذلك يريدون إقناع القارئ لمنشوراتهم بأنهم ينتسبون لدائرة تفكيره، كل هذا الأمر جيد وإيجابي.
ثانياً: على الوتيرة ذاتها من الحماسة والإشادة من قبل فيلق الجامعيين، كانت الحال مع رحيل المفكر التونسي الكبير هشام جعيط الذي غادرنا في الأول من يونيو (حزيران) 2021، صاحب "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، و"في السيرة النبوية" (3 مجلدات)، و"أزمة الثقافة الإسلامية" وغيرها من الكتب الإشكالية التي حرّكت الأسئلة وأثارت الجدل بين الباحثين وبين القراء أيضاً. فبمجرد الإعلان عن وفاته، تحرّكت الشبكة الزرقاء بوابل من المديح لما قدمه هشام جعيط إلى الفكر الإنساني والعربي، وبالثناء على مقارباته النقدية العقلانية. ومرة أخرى نكتشف من دون سابق إنذار!! المئات من الجامعيين "العقلانيين" العرب والمغاربيين وهم يكتبون في توديع هشام جعيط، أحد العقلانيين العرب والمغاربيين المتميزين.
ثالثاً: الذكرى السنوية لوفاة الإسلامولوجي البروفيسور محمد أركون، توفي في 14 سبتمبر (أيلول) 2010، صاحب "تاريخية الفكر العربي الإسلامي أو نقد العقل الإسلامي"، و"الإسلام والسياسة"، و"العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب"، و"نزعة الأنسنة في الفكر العربي"، و"قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الإسلام اليوم؟" وغيرها من العناوين التي حققت أثراً كبيراً في القراءة الغربية أساساً لأنها كُتبت بالفرنسية، في حين ظلت قراءته نخبوية ومجتزأة في الأوساط العربية والمعربة. كلما حلّت ذكرى وفاته، تمتلئ الشبكة العنكبوتية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عنه وعن بعض عناوينه والعودة إلى الحديث عن علاقته المتوترة مع رموز "الإخوان المسلمين"، وبالأساس مع الشيخين محمد الغزالي ويوسف القرضاوي خلال سنوات إقامتهما في الجزائر، والحرب التي شنّاها ضده، والجدل أيضاً حول اختياره المغرب تراباً لدفنه، دُفن في الدار البيضاء. ومع كل مناسبة، يتحدث الجامعيون عن معركته الفكرية الشرسة ضد ما أطلق عليه مصطلح "الجهل المؤسس"، ويعني به تغييب العقل وحجره في العالم العربي بطريقة ممنهجة ومخطط لها من خلال نظام التعليم بكل مراحله من الابتدائي إلى الجامعي.
كل هذا ولكن...
لكن الأمر غريب ومتناقض في واقعنا الجامعي والثقافي، فكلما حلت جنازة مفكر عقلاني، إلا وسمعنا وقرأنا تدخلات كثيرين من الجامعيين والكتّاب والإعلاميين، ومن خلال هذه الكتابات والشهادات والإشادات نعتقد بأن العالم العربي والمغاربي أصبح بقعة للتنوير والأنوار والعقلانية، وأن مؤسساتنا الجامعية والتعليمية والإعلامية التي يديرها هؤلاء هي فضاء للفكر المتعدد والحرّ والعقلاني، لكن بمجرد انتهاء العزاء، ومرور هذه الساعة، ساعة الدفن أو ذكرى الرحيل، يعود هؤلاء الجامعيون والكتّاب والإعلاميون، في غالبيتهم، إلى الكتابات اليومية التلفيقية، فنكتشف الكارثة المعرفية التي يُبنى عليها مجتمعنا الثقافي والسياسي والتربوي والجامعي. نتفاجأ إذ نجد أنفسنا أمام منشورات تدعو إلى تمجيد الخرافة والدجل وتعميم النفاق الفكري ودعوات يوم الجمعة، وهم الذين كانوا قبل أيام يشيدون بالعقل والتنوير عند محمد أركون وهشام جعيط وحسن حنفي.
أمام هذه الحالة "الباطولوجية الشيزوفرينية" التي تكشف عن "جامعي" يكرّس الدجل ويغازل الغوغاء بحثاً عن "نجومية" الدعاة، يتأكد أن الفكر الظلامي لا يزال "العلف" الثقافي والفكري السائد والوفير والمتوافر والشعبوي في مجتمعنا الثقافي والجامعي والإعلامي.