محمد المحمود:
قبل أن نطرح هذا السؤال الإشكالي على أنفسنا، علينا أن نحاول تحديد ما إذا كان تصورنا عن الأخلاق هو التصور الصحيح، أو ـ على الأقل ـ هو التصور الذي يُمثّل وجهة النظر الأعم الأشمل من زاوية المشترك الأخلاقي العالمي. الأخلاق، من حيث كونها أنظمة معنوية تحكم مسار علاقتنا بالآخرين، وتعود ـ وفق طبيعتها إيجابا وسلبا ـ بأفعال متعدية الأثر؛ ليست هي التصور السائد في المجتمع الإسلامي. ففي هذا المجتمع يُدخلون في الأخلاق حتى السلوكيات اللازمة/ غير المتعدية، كما يُدخلون السلوكيات التوافقية التي تتم عن طريق التراضي، بينما يُخْرجون منها ـ أو لا تُشكِّل لديهم كبير اهتمام أخلاقي ـ تلك الأفعال المرتبطة بأكثر الأفعال ضررا متعديا، كالعنف السلطوي ـ أُسَريّا ومجتمعيا ـ، والغش التجاري، والاختلاس، والرشوة، والمحسوبيات... والقائمة تطول.
المجتمعات الإسلامية ـ من حيث أنظمة علاقاتها البَيْنِيّة ـ هي مجتمعات تقليدية، بل تقترب ـ في وعيها ـ من الحالة البدائية. وفي هذه المجتمعات تتمحور التصورات الأخلاقية في مجملها حول العلاقات ذات الطابع الجنسي. ولهذا، تأتي المرأة هنا لتُشكّل رمزية بالغة الدلالة والأثر، فتصوراتنا عن "الشرف" تكاد لا تتعدى المرأة وما يتعلق بالمرأة، وتحديدا ما يتعلق بالسلوكيات التي تتبعها في علاقتها بالرجال.
عندما تريد تحقيق نهضة ما، عليك أن تعرف نفسك أولا
المرأة قد تحتال، قد تسرق، قد تختلس، قد تهمل عملها الوظيفي، قد تُحَابي في سلطتها الوظيفية، بل قد تسيء معاملة العاملة المنزلية التي تقع تحت سلطتها، وقد تصل هذه الإساءة إلى درجة الحرمان من الأجر، وربما الاعتداء اللفظي والجسدي، ومع هذا لا يضعها المجتمع التقليدي المسلم على قائمة الساقطين أخلاقيا، بينما لو ظهرت في وضع وُدّي مع رجل ليس من محارمها في فضاء عام؛ لأصبحت مستهدفة بتُهَم لا حدود لها، أقلّها كفيل بوضعها في أقصى درجات السقوط الأخلاقي.
لهذا، فالمجتمع الإسلامي يتصور نفسها أخلاقيا؛ من حيث هو يسعى إلى ترميم وجوده من هذه الناحية بالذات. يتصور نفسه أخلاقيا؛ من حيث هو يتطهر في مثل هذه العلاقات التي حمل عليها المنطق الأخلاقي قسرا وحصرا؛ بينما هو في الحقيقة غير أخلاقي. ولو كان أخلاقيا لكانت حاله غير هذه الحال.
والأهم أنه رغم تشديده على هذه الناحية المرتبطة بعلاقة الرجل بالمرأة )المسألة الجنسية) إلا أنه ليس أكثر المجتمعات نقاء حتى في هذا الجانب، بل وحتى في مفهومه المحدود للأخلاق فيها. فما يجري في الخفاء غير ما يُرَاد له أن يبدو في العلن. وطبعا، هو يريد الحفاظ على هذا المستوى العلني من النقاء الذي يتصوره أخلاقيا؛ لأن المسألة لديه ليست مجرد قناعات ذاتية، بل هي دعوى اجتماعية عامة، يُريد لها أن تقيم توازنا نفسيا مع حالة التخلف الفظيع الذي لا يزال غارقا فيه.
واضح أن ما يُريده المجتمع المسلم ـ على المستوى اللاّواعي لأفراده ـ هو تضميد الجُرح النرجسي الذي أحدثه التفوق الغربي الكاسح عليه في كل المجالات، وبصورة تصل إلى درجة الإذلال؛ غير المقصود طبعا. يريد المسلم أن يجد شيئا ـ ولو وَهْما ـ يجابه به انسحاقه الحضاري أمام هذه التفوق الغربي الكاسح. لا يستطيع مغالطة الوقائع المادية العينية في هذا الجانب؛ لأنها تملأ عليه مدى سمعه وبصره. ولهذا، يهرب إلى تقسيم الحضارة إلى جانبين: مادي وروحي/ معنوي؛ ليعلن تفوقه الروحي ـ المزعوم!ـ على الغرب، بينما يعترف ـ بتلعثم وخجل وتردد واستثناءات واسترجاعات تاريخية ـ بتفوق الغرب عليه ماديا. يريد الظفر بعالم الفكر والروح؛ لإدراكه ضرورة التسليم للخصم بعالم المادة؛ زاعما إمكانية الفصل بين المعنوي/ الأخلاقي من جهة، والمادي التنموي من جهة أخرى، بينما كل إنسان واعٍ يدرك أن هذا الفصل غير ممكن، إذ "لم يكن نمو الازدهار الاقتصادي والإنتاج الرأسمالي ليستمر لو لم يكن مدعوما بأرضية فكرية وعقائدية بررت وجوده ومهدت له الطريق وأقرت مشروعية البحث عن الكسب والعمل المربح" (ملحمة التطور البشري، سعد الصويان، ص 341 و342(.
ومع الأخذ في الاعتبار أن مثل هذا الفصل غير ممكن، وأن الواقع الأخلاقي للمجتمع المسلم ـ حتى على افتراض إمكانية هذا الفصل ـ لا يساعد على توصيفه بأنه مجتمع أخلاقي، وأن الواقع الأخلاقي للمجتمع الغربي لا يستعد على توصيفه بأنه مجتمع غير أخلاقي، إلا أننا نجد "المودودي مثلا يبجل واقع المسلمين الأخلاقي من خلال الإحالة إلى القرآن، فيما يبلور رؤية عن الغرب من خلال النزعات المادية المتطرفة التي اعتبرت تناقضات في تجربته الداخلية" (جدل الدين والحداثة، صلاح سالم، ص538). إنه يقارن بين نظرية مثالية هنا، واستثناءات منبوذة أو شبه منبوذة في الواقع هناك، يُحيل إلى القرآن، المتن الأخلاقي المثالي، ولا يُحيل إلى واقع مجتمع المسلمين؛ لأنه يدرك تماما أنه مجتمع غير أخلاقي، وأن استحضاره عند المقارنة لن يكون لصالح المسلمين.
هذه المحاولة اليائسة لإعلان التفوق الأخلاقي للمجتمعات الإسلامية على المجتمعات الغربية وإن بدت ـ للمفكرين وللمثقفين ذوي الأفق الواسع ـ أشبه بالكوميديا الساخرة، إلا أنها تحوّلت إلى مقولة مركزية في أدبيات الخطاب الأيديولوجي للمتأسلمين. فـ"الخطاب الإسلامي المعاصر يهاجم بشدة ماديّة الغرب ولا أخلاقيته المزعومة، ويركز على أهمية التعاليم الروحانية والأخلاقية في الإسلام. وهكذا يقدم الإسلام نفسه بصفته نموذجا للعمل التاريخي الأكثر تفوقا وعلوا وكفاءة من نموذج الغرب بكثير. ويفتخر الأصوليون والمحافظون بذلك مستهزئين بالغرب وإباحيته وماديته وخلوه من كل روحانية... إن المسلمين الحركيين الذين يناضلون في هذا الاتجاه يجهلون أو يتجاهلون أن هناك تيارا أصوليا مسيحيا في الغرب ذاته (أي في أوروبا وأميركا الشمالية). وهذا التيار يطالب أيضا بالعودة إلى القيم الدينية المنسية أو المجحودة أو المهملة بدون حق من قبل الحضارة المادية. (نزعة الأنسنة في الفكر العربي، محمد أركون، ص31(.
إذن، المجتمع الإسلامي لا ينتج صورة مغلوطة عن الآخر فحسب، من حيث تصويره كمجتمع غير أخلاقي: انحلالي، متفكك، جرائمي، وإنما ينتج أيضا صورة مغلوطة عن الأنا، من حيث تصويره لنفسه كمجتمع أخلاقي: محافظ، متلاحم، متراحم، غير جرائمي، مع أنها ـ كصورة مغلوطة ـ لا علاقة لها بالواقع؛ بقدر ما هي طموح يجمح في التخيّل؛ حتى ليتوهم أن ما هو في التنظير المثالي المأمول، هو ذاته ما في الواقع المتعيّن.
والمشكلة أن مثل هذا الوهم ليس وَهْم جماهير جاهلة، غائبة أو مغيبة، بل هو وَهْمٌ شارك فيه مفكرون عرب كبار؛ وإن كانوا في الغالب من اليسار، أو ممن لم يتحلل بعد من بقايا ثقافة اليسار. فهذا عبدالوهاب المسيري يقول ـ صراحة ـ: "إن ما تم إنجازه في الحضارة الغربية الحديثة هو القضاء على الشخصية ذات الولاء لِمُطلقٍ خُلقي ثابت يتجاوز عالم المادية والتاريخ " )دفاع عن الإنسان، عبدالوهاب المسيري، ص184). والمسيري هنا، وبخلفيته اليسارية، ورغم موسوعيته الثقافية، لا يختلف كثيرا عن الإسلاموي المنغلق الذي يؤكد دائما على الانهيار الأخلاقي في المجتمع الغربي. فقط، يختلف المسيري عن الإسلاموي هنا في أن الأول يؤكد أنه تم القضاء على المطلق الخلقي الثابت، بينما لا ينفي ـ في الوقت نفسه ـ وجود مستوى من الخلقي النسبي والظرفي المرهون بتطورات المادة/ التاريخ، وهذا ما لا يستطيع الإسلاموي الحركي تمييزه حتى في إبان تماهيه مع مقولات المسيري في هذا الموضوع.
عندما تريد تحقيق نهضة ما، عليك أن تعرف نفسك أولا. وعندما تريد أن تعرف نفسك/ مجتمعك عليك أن تقرأ نفسك/ مجتمعك في عيون الآخرين. صورتك عن نفسك ليست بالضرورة هي الصورة الصادقة، أو ليست هي الصادقة تماما. فإذا كنت ترى مجتمعك رمزا للمحافظة والأخلاقية الطهرانية، فإن الآخرين قد لا يرونك كذلك، أو قد يرونك عكس ذلك تماما، فصورة الشرق لدى الغرب ـ بصرف النظر عن مصداقيتها ـ ليست خالية من ملامح انحلالية باذخة الإغراء، ليس على مستوى الواقع الإسلامي في الماضي والحاضر فحسب، وإنما حتى على مستوى نصوص الإسلام المتعالية، أي في تعاليمه الأساسية كدين. "وكان ماكس فيبر/ عالم الاجتماع والاقتصاد المشهور، قد نظر إلى الإسلام باعتباره دينا يتعارض مع المذهب الطهري ـ البيوريتاني، الذي يقوم على الفضيلة" (النظام الأبوي، إبراهيم الحيدري، ص330(
,إن التمسك المبالغ فيه بزعم التفوق الأخلاقي للمجتمع المسلم قد يكون ناتجا عن وعي جارح بأن هذا التفوق لم يتحقق واقعا في أي فترة من فترات التاريخ. ويدعم هذا الظن أن محاولات تشويه الغرب/ تشويه المجتمعات الغربية قد وصلت إلى مستويات مَرَضَية؛ حتى وصل الأمر بالمفكر الإخواني الكبير/ محمد قطب إلى أن يُحاول تجريح الديمقراطية في أميركا وأوروبا الغربية بقوله على سبيل الجزم القاطع: "المعسكر الرأسمالي الذي يملك الرأسماليون ناصية الأمر فيه، ويستعبدون الكادحين ـ على الرغم من مسرحية الديمقراطية الجميلة" (رؤية إسلامية لأحوال العالم المعاصر، محمد قطب، ص38و39). إنه يصف العملية الديمقراطية (التي هي ملتقى خيوط النظام الأخلاقي الغربي، هي تجليّه الأمثل، هي تعبيره الأشمل، هي مركز كثافته، هي قمة ازدهاره) بأنها مسرحية كاذبة؛ ليستطيع القول ـ ضمنيا ـ إن أجمل وأرقى الأخلاق الغربية؛ كما تتجلى في صورتها المكثفة: الديمقراطية، ليست زائفة فقط، بل هي تعبير عن رداءة أخلاقية؛ لأنها في الحقيقة (الحقيقة بزعمه طبعا) مجرد خداع الرأسماليين الاستغلاليين للضعفاء الكادحين.