عاطف قبريانوس:
لنبدأ من العنوان، ما الفائدة من هذا العنوان المستفزّ لشعب لا يؤمن أغلبه بصلب المسيح؟ شعب يؤمن أن كلمة مسيح لقب فخري لشخص فاشل: فشل في دعوته فهرّبهُ الله إلى سماواته ورفعه. شخص فاشل وفشله تواصل حتّى بعد موته فقد فشل في حماية كتابه من التحريف وفشل في تدمير دين يحمل إسمه ويحرّف رسالته.
ما الغاية من إدراج إسم تونس في هذا العنوان الذي لا يمثل الأغلبية الساحقة من التونسيين "المسلمين جدّا"، ولا يمثّل مسيح القرآن الفاشل والذي تدارك فشله نبيّ جديد يدعى "محمّد"؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال وتبيان سبب الزجّ بإسم تونس في هذا العنوان علينا أن نجيب بعجالة عن سؤالين مهمين لأن الإجابة عنهما يشكلان المحور الأساسي للإجابة عن علاقة تونس بهذا العنوان.
أوّلا: هل عيسى هو يسوع؟ ثانيا من كان فاشلا يسوع أم عيسى؟
السؤال الأول لن يستحق إجابة مطوّلة: عيسى كلمة لا تحمل أي معنى بل هي الترجمة الحرفية لإسم المسيح المنطوق يونانيا "إيسوس" Ιησούς . عيسى يتكلم في المهد ومعجزاته تشبه فيما تشبه عروض "دافيد كوبرفيلد" أو "كريس أنجل" فهو يتكلم رضيعا ويصنع أشكال طيور من طين وينفخ فيها فتطير. لا شيء مميّز في حياته سوى أنّه دعى اليهود إلى وحدانية الله (مع العلم أن اليهود كانوا الشعب الوحيد الموحّد باللّه) وقد فشل في دعوة موحدين لتوحيد الله!! لقد فشل حتى في الموت من أجل مبادئه كسقراط أو شهداء الوطن أو حتّى بقية الأنبياء الذين قتلهم بني إسرائيل مثل زكريا بن برخيا وغيره. لقد هرب أو هرّبه إلهه إلى السماء تاركا فشلا على الأرض: لقد تفرّق أتباعه "الحقيقيون" من "الحواريين" وتحرّف مذهبه و كتابه... وبقي هو في سماوات إلهه ينظر إلى فشله على الأرض ويمتدح نجاح "الإسلام" ممنّيا نفسه بالعودة في آخر الأزمنة ليتدارك فشله المرير عبر التاريخ فيكسر الصليب ويقتل المسيحيّين ويكون بذلك قد هيئ الطريق لنجاح ٱخرَويّ للإسلام مثلما هيئ نجاح الدعوة المحمّديّة بفشل دعوته. هذا هو عيسى: شخصية بلا معنى، غارقة في الفشل على كلّ الأصعدة من رأسها حتى أخمص قدميها. شخصية تنتظر نزولها لكي تتدارك فشلها وتشهد لنبيّ آخر لتنقذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه.
من جهة أخرى نرى شخصية يسوع في الإنجيل مختلفة تماما عن عيسى: وجوده سابق لولادته، يحمل إسما ككل الأسماء السّاميّة (العبريّة العربيّة الآراميّة و السّريانيّة) حامل للمعنى و الدلالة: يسوع ישׁועַַ (الله يخلّص/الله ينقذ). معجزاته دائما ما تكون ثلاثية الأبعاد:1/ تبيّن سلطته على المادّة والقوانين الطبيعية. 2/ تبيّن سلطته على حياة الإنسان وقدرته على تغيير واقع الفرد إذا ما تجاوب معه بالإيمان. 3/ قدرته على تغيير قلب الإنسان وسلطته على التّاريخ. يسوع المسيح منذ بداية حياته العلنيّة كان يتكلّم عن حتمية صلبه. كان يتكلّم عن الشرّ والظلمة وساعتها التي ستطبق عليه يوما ما. كان يعلّم أنّ إعادة التوازن للتاريخ البشري يمرّ حتما بالفداء إذ لا تحرير دون سفك دم. كان يعلّم أن سفك الدمّ سيكون دمه ودم أتباعه المخلصين من بعده. علّم أنه سيلقي سيفا على الأرض: لكنّه سيف عليه وعلى أتباعه وليس سيفا منه. لأن التحرير يأتي بالكلمة الشاهدة للحقيقة كما أن الخلق كان بالكلمة والحب يتمظهر بالكلمة والفعل ليس سوى كلمة ملموسة. يسوع لم يخف الصلب لأن الصلب هو عبور إلى القيامة عبر الموت. حياة يسوع لخصت لا فقط قوة الله الذي ظهر في المسيح لكن لخصت كل فلسفة التاريخ البشري: البلدان القوية والمزدهرة هي البلدان التي مرّت بصلب حضاري سفكت فيها الدماء من أجل التحرر. يسوع المسيح كان واقعيا: إذ إختار يهوذا الإسخريوطي الخائن منذ البداية وأعلن عن خيانته القادمة، بل وتحدث عن خيانة العديد من المسيحييّن في المستقبل له: لكن لا شيء من هذه الخيانات قادر على أن يزعزع الكنيسة من على الأرض، لا قوة ولا حتى قوّات الجحيم قادرة على زعزعة سيطرته على التاريخ الإنساني. إختبار الضعف الإنساني في الجسد جعل من يسوع يصلى من أجل صالبيه ويطلب لهم الغفران الإلهي. "قوتي في الضعف تكمل" إنّه يؤسّس للقوة من خلال الضعف. الضعف يصبح شرطا لبلوغ القوّة والخطأ شرطا لبلوغ الكمال والخطية شرط لبلوغ القداسة. مثل المسرح: تراكمات الأخطاء خلال التدريبات تجعل الممثل يتقدم أكثر في صقل موهبته وتأدية دوره بإحترافية.
فشل الصليب عاملّ أساسيّ وجوهريّ لبلوغ مجد القيامة. هنا نجد قاعدتين أساسيتين في الأنثروبولوجيا وفي الإبستيمولوجيا: المسيرة الإنسانية أنثروبولوجيا هي مسيرة تجاوز ضعف. وإبستيمولوجيا: تاريخ العلم هو تاريخ تصحيح أخطاء مثلما قال فيلسوف العلم ڨاستون باشلار. علينا أن نمرّ بالجهل وأن نعترف به لكي نصل إلى العلم عن طريق التضحيات... علينا أن نمرّ بالألم لكي نصل إلى الرّاحة.. علينا أن نمرّ بآلام المخاض لنتمتع بنور الحياة... علينا أن نمرّ بالصليب والقبر لنصل لمجد القيامة.
هذا هو الفرق الجوهري بين عيسى الفاشل ويسوع المخلص والمعبود من أكثر من ملياري نسمة ومملكته من الشمس إلى الشمس. يسوع أسس مملكته على الأرض لأنّه قبل الصليب والإهانة لكي يفتح للبشرية ولكل من يؤمن به باب الحياة و الحرية والإنفتاح الحق على الإله الحقّ... الإله الدي لا يتفرّج على العالم من سماواته بل الإله الذي تجسّد على الأرض ليشارك البشرية ألمها، حزنها مرارة الرفض وفظاعة الشعور بالظلم. الإله الذي حينما تجسّد لم يكن من بين الأغنياء لكن من بين الطبقات الأكثر فقرا وخصاصة..إبن النجار..إبن مريم...إبن الإنسان.. إبن الله.. الله الظاهر في الجسد. الله لا يهرب من الصليب.. لأنك كلّما حاولت قتله: قتلت نفسك. وكلّما حاولت طمس حضوره من التّاريخ إلّا وعاد بشدة ليحكم التاريخ. و لنا في صفحات التاريخ الشواهد الدامغة على صحة هذا القول (راجع تاريخ الإتحاد السوفياتي، ألبانيا، وحتى عودة الإيمان في بلدان الرأسمالية المتوحشة). "ربي كل ما تحب تقتله: يصبح حيّ".
بعد إجابتنا عن الأسئلة ورأينا فشل عيسى وقوة يسوع الإنجيل وتناغم رؤيته وحياته مع واقع الإنسان والقوانين التي تحكم التاريخ، علينا أن نعود للإجابة عن السؤال الأول: ما الفائدة من هذا العنوان المستفزّ لشعب لا يؤمن أغلبه بصلب المسيح؟
الإجابة في غاية البساطة والتعقيد في آن واحد: سواء آمن الشعب التونسي أو لم يؤمن بصلب المسيح، القوانين الأنثروبولوجية والتاريخية والروحية ستظلّ سارية المفعول. عدم إيمان الفرد بوجود الشمس لا يعني إختفاءها من السّماء وعدم إيمان المرء بوجود قانون الجاذبية لا يعني إنعدامه على أرض الواقع. المرور من مرحلة تاريخية قديمة إلى مرحلة جديدة يبقى غير ممكن دون سفك دم ودون تضحيات. المرور من دولة ديكتاتورية إلى دولة سيادية ديمقراطية حرة فاعلة في التاريخ يمرّ أساسا عبر الخيانات والهشاشة والتجهيل والتفقير. كما أن العالم الروحي تحكمه أيضا في جزء منه قوى ظلامية هدفها أن تثني الإنسان عن أن يكون صورة الله على الأرض وخليفة له تريد منه أن يبقى فقط (كما ينظّر لذلك أغلبية الملحدين) مجرّد حيوان يتمتع بقدر من الذكاء لا أكثر. هكذا التاريخ تحكمه في جزء منه قوى رجعية ظلامية وإنتهازية هدفها السيطرة على الشعوب وإعتبارها مجرّد قطعان بشرية وتغريبها عن حقيقتها والهائها عن إتمام واجباتها الوجودية وثنيها عن التقدّم خدمة لمصالحها. هؤلاء هم من صلبوا المسيح: تحالف رجال الدين والسياسة والغوغاء الجهلة. تحالف التعصب والإنتهازية والجهل. هؤلاء أيضا هم من يصلبون الشعوب ومن يصلبون تونس. لكن ينسون أنهم في كل مرة يصلبون فيها الشعب أنهم يكتبون نهايتهم ويزرعون دون علم منهم بذرة القيامة والتحرر والفداء. الجهل المستشري بين طبقات الشعب /الإنتهازية الغاشمة لطبقاته السياسية ورجال الأعمال وإعلاميّي التفاهة والسّفاهة/ التعصب الديني والمتاجرة بالعواطف الإيمانية: هؤلاء هم الذين يصلبون تونس لذلك نهايتهم ستكون قريبة مثلما كانت نهاية الفريسيين والرومان و كل من ساهم في صلب المسيح. على تونس أن تغوص أكثر في الآلام والدماء عليها أن تدخل نفق الموت التطهيري ليبزغ وعي مستنير ويدوّي الvolksgeist من جديد: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر. لأن يسوع المسيح سيد التاريخ ليس إلها يحكم العالم بأسطورة "القدر" اليونانية لكنه يحكم التاريخ بقوة القيامة بقوة النظام المنتصر على الفوضى، بقوة الحضارة المنتصرة على التوحش، بقوّة التاريخ المنتصر على حدود الجغرافيا بقدرة المحبّة المنتصرة على الكراهية، بقوة الحياة المنتصرة على الموت. تونس ستنتصر لأن هذا هو مسار التاريخ، هذي هي إرادة الله ليس إله القدر لكن إله المحبة المضحية والمتجليّة في يسوع المسيح.
تونس والبشريّة جمعاء تتوجّه نحو فجر جديد خالي من هيمنة السّوقة والأوغاد والمستكرشين والإنتهازيين وكلابهم البشريّة التي تحرسهم وتعينهم في قمع وتغييب وتغريب الإنسان.. هذا الفجر يشبه فيما يشبه فجر أحد القيامة.
لينغا