خطة الشيطان - مقالات
أحدث المقالات

خطة الشيطان

خطة الشيطان

د. وجدى ثابت غبريال

هكذا انتهى حديث طويل للزميل أستاذ الفلسفة الأوربيّة، قال: إنني لا أفهم كيف يتبع المسيحيّون شخصًا مصلوبًا مضروبًا، موبّخًا مهانًا، لا قوة له ولا حيلة. كان من الأولى والأعقل أن يتبعوا القادر الحاكم ذا البأس والسلطان، لأنه من المنطقي أن نتبع الأقوى ولا نتبع الضعيف. من المنطقي أن نتبع من يجتذب العالم أجمع وهو قادر على إخضاع كثيرين، من الأدهى أن نتبع عبقريًا داهية من أن نتبع شخصًا بسيطًا مذلولًا يُبصق عليه الجميع ويضربونه. فأصدقاؤه يتخلّون عنه؛ الواحد ينكره تمامًا والآخر يسلّمه للصلب، هذا إن صدّقنا من الأساس رواية الإنجيل. باختصار لا أفهم كيف تكون أستاذًا جامعيًا في فرنسا العلمانية وتعتقد في هذا العبث! أليس من الأولى بك أن تعبد الشيطان؛ فهو أكثر قوة وفعالية وكبرياء ونفوذًا وجاذبية من جميع قديسي الكنيسة الّتي تنتمى إليها؟ أليس من المنطقي أن تتبع الأكثر نجاحًا لا الأكثر انهزامًا؟ ساد صمتٌ طويل ثم أجبتُ: كجامعي -وليس كمؤمن- سأجيبك. إنّ مشكلتي الوحيدة مع الشيطان ليست في التقسيم الديني بين الخير والشر، ولا حتى في كونه شريرًا بالإرادة والاختيار، و إنما في عدم واقعيته المفرطة! ففي خياله المفرط المريض، وفي تصوره الساذج عن ذاته، يناقض واقع الأمور في كلّ شئ؛ في كل نية وفي كل فعل! أنا لا أطالب الشيطان أن يعرف فضيلة الاتضاع الّتي يعرفها القديسون، وإنما أطالبه بأن يكون واقعيًا حتى يمكن أن أتبعه في الحياه العملية!

ردّ الزميل باستعجاب ودهشة رافعًا حاجبيْه: ماذا تقول؟ أتمزح؟ عن أي واقعية تتكلم؟ الشيطان غير واقعي؟ لا أفهم !

أجبتُ: لو كان الشيطان واقعيًا لعرف قدر نفسه: إنه عاجز قاصر الرؤية بينما يظن نفسه نافذ البصر! إنه ذات منتفخة بكبرياء لا تتناسب البتة مع قدراته الحقيقية الّتي هي أدنى بكثير من قدرات أي كائن آخر في الوجود، فلكل إنسان قدرة طبيعية على الاحتمال والاحتواء وحب الغير، أو تقبل الضعف البشري، ما عدا الشيطان! إنه عاجز ومعوَّق بإرادته عن ذلك لأنه يحتقر الضعف البشري وهذا تحديدًا ما أحتقره فيه؛ الكبرياء البائس! إن شيطانك أضعف من أن يمد يده ليسند جريحًا أو لينصر مظلومًا أو حتى ليقدّم عملًا واحدًا مجانيًا من أعمال البر بشرفٍ وإخلاص. ثم إنه غير ناضج؛ فهو شديد الزهو بذاته وهذه الصفة من علامات غياب النضوج التام، لأنه لو دقّق النظر لرأى العديد من الأمور المخزية فيه. ثم إن أهم مشكلة عندي بخصوصه أنه لا يعرف الاتضاع العلمي (ذلك الذى يعرفه كل باحث حائر يقول في نفسه لا أعرف كذا وكذا)، ولا يعرف حتى الاتضاع الإنساني الذي يسمح له بالاعتراف بقدر من هو أقوى منه !

باختصار، مشكلتي الوحيدة مع الشيطان تتلخّص في كلمتيْن: إنه يريد أن يكون إلهًا أو مساويًا لله دون أن يكون له ملكات الله. لقد ظن أن الألوهية تجبُّر وطغيان وسطوة.  كذلك فالشيطان لا يمتلك أي شئ من خصائص الله؛ لا يعرف العدل ولا الاتضاع ولا الرحمة ولا الحب ولا البصيرة ولا الحكمة ولا شئ مطلقًا من القيم! كيف يتأتى أن تنصب شخصًا ما عميدًا لكلية وهو لا يعرف أولويات المعرفة العلميّة الّتي تُدَرَّس بكليته! هذا هراء! آسف لا أستطيع أن أتبع ولا أن أؤمن بشخص لمجرّد أنه يشتهى أن يكون عميدًا ولكنه لا يؤتمن حتى على وظيفة مساعد مدرس. إنّ الذي يدعوني للسخرية من الشيطان أنه يريد أن يكون مثل الله بينما لا يمتلك خصائص الله ولا قدراته. إنه يقضي وقته في تغذية عقول الناس بأفكار مريضه تشقيهم و تتعسهم، ولا يجول يصنع خيرًا كسيدي، وإنما يجول يصنع إثمًا وكوارث في ربوع الأرض كلها !

ردّ صديقي ضاحكًا: أتريد للشيطان أن يكون بارًا متضعًا؟!

بل أريد أن يكون واقعيًا ويعرف قدر نفسه، ويخضع هو أيضا لما أقول في رضى وتسليم، بدلًا من محاولاته الفاشلة لإخضاع الناس: أن يعرف قدر نفسه وأن يعرف الفرق بينه وبين غيره، وبالتحديد من هو أسمى منه من جميع الوجوه! وبدلًا من اشتهاء المستحيل (مركز ضابط الكل والمهيمن الأعلى) أقترحُ عليه أن يسجد في اتضاع أمام الأقوى منه مذلولًا نادمًا معترفًا بأن الكبرياء الأبله والزهو الزائف كانا نوعًا من الهطل يستوجب الندم. ولكنني أعلم سلفًا مثل الجميع أنه لن يعترف بأي خطأ لأنه متعجرف ومتكبر وهذه سقطته الأولى؛ انتفاخ الذات. وهذا كاف لاحتقاره في قانوني أنا. كيف يمكن لي أن أتبع مريضًا نفسيًا مثله؟

أجاب صديقي قائلًا: أنت تضع شروطًا تعجيزية للشيطان!

أجبتُ: على العكس، أنا أضع شروطًا أولية حتى أتبعه، وأتحداه إذا نجح فيها "بمقبول"، أما بقية شروطي فستأتي بعد ذلك وهي أقسى بكثير من ذلك!

كاد ضحك الزميل أن يصل إلى آذان الطلاب المارين أمام استراحة الأساتذة بالدور الأول، ثم أردف بتهكم: وما هي إذن بقية بُنود كُراسة الشروط ؟

قلت له بمنتهى الجدية: ما لم يحتضن بؤس العالم كله بين ذراعيه، والضعف البشري في أحضانه لن أتبعه، فأنا لا أتبع شخصًا عاجزًا عن التحمّل والرحمة، مغلق الوجدان عن شقاء البشر، عديم الإحساس والضمير، انعدمت فيه حاسة العدالة! إن مخلوقًا مثله جديرٌ بالاحتقار ليس إلا! فما لم يقدّم ذاته من أجلى لن أؤمن به. كيف أتبع مخلوقا أنانيًا وضيعًا؟ إذا كان لا يفهم حتى فقره الأبدى ومحدوديته الأخلاقية فهو أعمى البصر والبصيرة، ما لم ير محدوديته فلن يكون مثلًا يُحتذى، ما لم ينحن مثل غيره ويغسل أقدامى فلن أتبعه.

 عندما وصلنا الى هذه النقطة الفيصليّة رد الزميل ببرود القبور وبصوت لم أسمع نظيره قط وكأنه يخرج من قاع الجحيم أنت تريد أن تكسب حتى الشيطان إلى حظيرة الله؟! أنت أخبث ممّا كنتُ أتصوّر بل أنت أخبث من الشيطان ذاته! 
وهنا سقط القناع وانكشف الحجاب وعلا صوته :أتريدني أن أذلَّ ذاتي لإلهك الضعيف أو لك؟ ماذا عن زهوي وقوتي وقدرتي على التأثير والتحدي وكبريائي وبأسي؟
ثم صارت كلمة النهاية مني: ما لم تنفّذ شروطي بالكامل في خضوع وإذعان وبلا مناقشة وتنحني فلن نلتقي مرّة أخرى، وستخرج من هنا مهزومًا كعادتك! هل عرفتَ الآن من منّا الأقوى، ولماذا لا أتبعك أنتَ وأمثالك من الحمقى؟

لقد عرف شروطي ولكنه وجد أن الثمن غال جدًا، فذهب يبحث له عن سوق آخر، ومضى حزينًا مهزومًا ولم أرَ وجهه مرّة أخرى. 

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث