ما أشبه اليوم بالأمس... أساليب القضاء على الثورات والتمردات في التاريخ الإسلامي - مقالات
أحدث المقالات

ما أشبه اليوم بالأمس... أساليب القضاء على الثورات والتمردات في التاريخ الإسلامي

ما أشبه اليوم بالأمس... أساليب القضاء على الثورات والتمردات في التاريخ الإسلامي

محمد شعبان:

 

تختلف أساليب مواجهة الحكام العرب للثورات والاحتجاجات التي تخرج ضدّهم. منذ الربيع العربي حتى الآن، شهدنا ظهور خيارات القمع والتنازل والتفاوض والعطايا وشق صفوف المعارضين واستخدام سلاحي الشائعات والفتاوي الدينية.

ويبدو أن يومنا كثير الشبه بأمسنا، فعبر مراحل التاريخ الإسلامي، تعددت أساليب الحكام للقضاء على الثورات التي اندلعت ضدهم، وعلى حالات العصيان والتمرد التي قادها ولاة وأمراء على حكمهم، وارتبط كل أسلوب بمعطيات الفترة التي شهدت الثورة أو التمرّد، وهو ما يمكن تبيانه من جولة سريعة عبر تاريخ مصر.

القمع العسكري... الخيار الأول

كان الحسم العسكري خيار الحكام الأول لقمع ثورات المصريين ضد الحكام. ففي العصر الأموي، قام المصريون بثورات عدة، منها واحدة عام 725 عندما ثار الوجه البحري ضد الوالي الحرّ بن يوسف بسبب زيادة الخراج، واشترك فيها الأقباط مع المسلمين، فأرسل ابن يوسف الجند إليهم وقضى على ثورتهم، يروي الدكتور محمود خلف في كتابه "ثورات المصريين في العصر الفاطمي/ 969-1035".

ولم تتوقف ثورات المصريين خلال الحقبة العباسية. ففي ولاية يزيد بن حاتم، سنة 767، ثار الأقباط في مدينة سخا (في محافظة كفر الشيخ شمال مصر حالياً) بسبب زيادة الخراج عليهم، فتوجه القائد نصر بن حبيب المهلبي بجيش للقضاء على الثورة.

وفي العصر الطولوني (868 – 905) خرج أحمد بن محمد بن طباطبا العلوي المعروف بـ"بغبا الأصغر" سنة 869 على أحمد بن طولون، لكن الأخير نجح في القضاء على الثورة عسكرياً، بحسب خلف.

واندلعت ثورة أخرى في نفس العام في صعيد مصر، عندما خرج إبراهيم بن محمد بن يحيى المعروف بـ"ابن الصوفي العلوي"، فبعث إليه ابن طولون قائده بهم بن الحسن ونجح في القضاء على الثورة، ثم حُمل ابن محمد إلى مصر قبل إطلاق سراحه بعد توبته، يروي خلف.

ولجأ محمد علي باشا إلى الحل العسكري لتثبيت حكمه والقضاء على الخارجين عليه. فعام 1824، انطلقت الانتفاضة المهدوية من الصعيد وشملت مناطق عدة منهز تزعم الحركة أحمد بن إدريس والتف حوله ساخطون وغاضبون على التجنيد في الجيش النظامي الذي كان الوالي يؤسسه، ووصل أتباعه إلى ثلاثين ألف رجل، إلا أن قوات تركية وبدوية سحقت الثورة وذبحت آلاف الفلاحين، وأعدمت ضباطاً وجنوداً ساندوا الانتفاضة، يروي الدكتور عمرو منير في كتابه "ثورات مصر الشعبية".

التهدئة والاستجابة لمطالب الثوار

في بعض الفترات، ولأسباب متباينة، كان السلاطين والحكام يلجأون إلى الاستجابة لمطالب الثوار حتى لا تتفاقم الأمور. ففي العصر العباسي ثار أهل الحوف الشرقي (الشرقية الآن) سنة 802 ضد الليث بن الفضل وامتنعوا عن دفع الخراج وساروا إلى الفسطاط، فخرج إليهم الليث بجيش ودارت معارك بين الطرفين انتصر فيها عليهم وجمع الخراج وأرسله إلى هارون الرشيد.

وعندما عاد الليث إلى مصر قام أهل الحوف بثورة أخرى، وامتنعوا عن أداء الخراج، ما جعله يذهب إلى الرشيد ويسأله إرسال جيش للقضاء على الثورة، غير أن الخليفة العباسي لم يجبه خوفاً من تفاقم الوضع، وأرسل محفوظ بن سليمان إلى مصر، فاستطاع جمع الخراج من غير ظلم ولا عقاب، فولاه الرشيد خراج مصر، ثم عزل الليث عن مصر وولى مكانه أحمد بن إسماعيل سنة 803، يروي خلف.

وتكرر استخدام هذا الأسلوب لامتصاص غضب الناس في عصور أخرى. عام 972، هزم الفاطميون القرامطة عندما حاولوا غزو مصر وطردوهم خارج القاهرة، وبعدها شرع الجنود الفاطميون (المغاربة) في الانتقام من المصريين، بسبب تأييد بعضهم للغزو القرمطي، وقاموا بعمليات سلب ونهب خاصة في مدينة الفسطاط.

وذكر خلف أن ذلك أشعل ثورة المصريين، فوقع قتال شديد بينهم وبين المغاربة، وعندما علم القائد جوهر الصقلي بذلك، عالج الأحداث بكياسة وذكاء، فأرسل قائده سعادة بن حيان وقدّر الخسائر التي لحقت بالمصريين، وعوّضهم عنها، ورد إليهم ما نُهب منهم، فخمدت الثورة.

وفي عصر الحاكم بأمر الله (996 – 1021)، الذي قامت سياسته في بداية خلافته على اضطهاد السنّة، أمر الخليفة بقطع صلاة التراويح والضحى، وأضاف على الآذان عبارة "محمد وعلياً خير البشر"، وبلغ التشدد أقصاه عندما أمر بسب أبي بكر وعمر وبعض الصحابة كطلحة والزبير وغيرهم.

ترتب على ذلك قيام المصريين بثورة كبرى في مدينة الفسطاط عام 1005، وأمام خشية الحاكم من تفاقم الأمور، أظهر ميله إلى أهل السنّة، وترك لهم حرية أداء شعائرهم، وأمر بمعاقبة مَن يسب الصحابة، روى خلف.

ولم يكن العصر المملوكي ببعيد عن تلك كثير الثورات التي استُخدمت فيها هذه الوسيلة. روت الدكتورة سماح السلاوي في دراستها "التدوينات الشعبية مصدراً للثورة والاحتجاج في مصر"، أن عام 1369 شهد احتجاج العامة على "شاد" (مسؤول) الدواوين ووالي القاهرة علاء الدين بن كيك بسبب الظلم الذي يتعرّضون له من قبل جامعي الضرائب، ووقفوا تحت قلعة الجبل ومنعوا الأمراء من الدخول وكذلك الوالي والحاجب ورشقوهم بالحجارة.

ولما أرسل السلطان الأشرف زين الدين شعبان بعض الأمراء إلى العامة ليفهم الأمر، طلب العامة منه تسليم ابن كيك، لكن السلطان لم يستجب، بل رماهم المماليك بالنشاب وقُبض على جمع منهم وقُتل آخرون، ولكن بعد فترة استجاب السلطان وأفرج عن المسجونين وأمر بعزل الوالي وولي الأمر حسين بن الكوراني وفتح الأسواق.

ومن أبرز الثورات التي شهدت الاستجابة لمطالب الثوار ما حدث عام 1804، عندما ثار المصريون على الوالي العثماني خورشيد باشا بسبب الضرائب الجديدة التي فرضها عليهم وسوء الأوضاع الاقتصادية، إذ اجتمع وكلاء الشعب من العلماء والزعماء مثل عبد الله الشرقاوي والزعيم عمر مكرم في دار المحكمة للتشاور، وطالبوا بعزل الوالي وتولية محمد علي باشا مكانه، ولم يملك السلطان العثماني سوى الاستجابة لمطالبهم، روى منير.

الترغيب لشق صفوف الثوار

شكّل الترغيب والتلويح بميزات اقتصادية وسياسية أسلوباً لإجهاض بعض الثورات، خاصة تلك التي استعصت على الحل العسكري، فكان الحكام يلجأون إلى البذخ والعطاء لبعض القوى لتحييدهم وإجهاض ثورتهم، وظهر ذلك واضحاً في العصر العثماني.

فعندما جوبه السلطان العثماني سليمان القانوني، عام 1521، بأعمال عصيان وتمرد في مصر تزعمها اثنان من قادة المماليك، هما أينال السيفي كاشف الغربية (تقع غرب الدلتا)، وجانم السيفي كاشف البهنسا والفيوم في مصر الوسطى، واتجها إلى منطقة الشرقية، وانضم إليهما الكثيرون من المماليك وبعض القبائل حتى بلغ عدد جنودهما نحو عشرين ألفاً.

وبحسب الدكتور أحمد حسين عبد والدكتور رائد سامي حميد في دراستهما "أعمال العصيان والتمرد التي واجهتها الدولة العثمانية في مصر ما بين عامي 1518 و1524"، قرر الوالي جوبان مصطفى باشا استمالة أمراء المماليك وأعيان العرب، فأرسل إليهم رسائل تحمل صيغ الترغيب والترهيب، ووعدهم بالأمن والأمان وخفض الضرائب بحال وقوفهم إلى جانبه، فنجح في تحييد الكثيرين من أتباع أينال وجانم، إذ ترك شيخ عرب المنطقة الشرقية أحمد بن بقر الأمراء وانضم إلى جيش مصطفى باشا في القاهرة، وكذلك فعل شيخ عرب المنطقة الغربية حسام الدين بن بغداد، فسهل القضاء على التمرد في معركة في الشرقية انتهت بمقتل جانم وهرب أينال باتجاه غزة.

واستُخدمت نفس الطريقة في العصر المملوكي لإجهاض الحركة الهمامية بقيادة همام بن يوسف، والذي استغل ضعف السلطة المركزية وسيطر على الصعيد وأقام حكماً إدارياً وكوّن جيشاً كبيراً من قبيلة الهوارة ومن المماليك الفارين إلى الصعيد، ذكر منير.

وأمام تنامي نفوذ همام وقع الصدام بين جيشه وجيش الحاكم المملوكي علي بك الكبير بقيادة محمد بك أبو الذهب الذي أغرى الشيخ إسماعيل الهواري، ابن عم همام، بخيانة همام واعداً إياه برئاسة الصعيد بدلاً منه إذا لم يقاتل ونشر فكر التخاذل بين الثوار. وحصل ذلك، وقصمت الخيانة ظهر الشيخ همام فتقهقر وخرج من مسقط رأسه وعاصمة نفوذه في قرية فرشوط، ومات مقهوراً قرب إسنا سنة 1769.

والغريب أن علي بك الكبير شرب من نفس الكأس عندما أراد الاستقلال عن الدولة العثمانية، وسك عملة جديدة نقش عليها اسمه، واعترفت الحجاز بسيادته على مصر، وامتدت دولته إلى الشام وحلب، إذ تعرّض للخيانة من جانب محمد بك أبو الذهب الذي اتفقت معه الدولة العثمانية على محاربة علي بك الكبير مقابل أن يحكم مصر كاملة، وتحقق له ما أراد عندما انتصر في معركة الصالحية سنة 1773.

سلاح الشائعات لتشويه السمعة

كان بث الشائعات ضمن أساليب القضاء على الثورات وحالات التمرد. منذ توليه ولاية مصر عام 1523، عمد الوالي أحمد باشا إلى اتخاذ تدابير عديدة لإعلان استقلاله بمصر عن الدولة العثمانية، وتحقق له ما أراد عام 1524، وأعلن نفسه سلطاناً باسم الملك المنصور أحمد خان، بحسب عبد وحميد.

ولمجابهة ذلك، بثت الدولة العثمانية شائعات بأن أحمد باشا على علاقة وطيدة بالصفويين في بلاد فارس، وبأنه تحوّل من المذهب السنّي إلى الشيعي وصار من أتباع الشاه إسماعيل الصفوي، وبذلك نجح العثمانيون في تشويه سمعته، فأعلن قضاة المذاهب الأربعة أنه كافر وخارج عن الدين، وحثوا الجيش على مقاتلته وقمع تمرده.

وترتب على ذلك انهيار قوة أحمد باشا بشكل مفاجئ، إذ حدث انقلاب مضاد خطط له القاضي محمد زاده الموالي للعثمانيين والذي حمل راية ونادى في القاهرة "مَن أطاع الله ورسوله والسلطان فليقف تحت هذه الراية"، فانضم إليه أمراء وقادة وجنود وناس كثيرون وهجموا على أحمد باشا أثناء وجوده في الحمام، ففرّ هارباً إلى الشرقية.

بعد ذلك، استجمع أحمد باشا قوته وأسس قوة عسكرية من العرب والمماليك وبعض الجنود العثمانيين الموالين له، لكن القوات العثمانية تمكنت بعد معركة صغيرة من إلقاء القبض عليه وقطع رأسه عام 1524، حسبما روى عبد وحميد.

استغلال رجال الدين لإصدار الفتاوي

في بعض الأحيان، كان الحكام يستعينون بفتاوي رجال الدين لإجهاض الثورات، ومن ذلك ما حدث في الدولة الإخشيدية وتحديداً في عهد الأمير محمد بن طغج الإخشيد سنة 938، عندما أذن للأقباط بتجديد كنيسة أبي شنودة فأفتى بعض الفقهاء بأحقية الأقباط في ذلك، بينما أنكره فريق آخر من الفقهاء، يروي خلف.

وأمام ذلك الموقف، ثار المسلمون وأرادوا إشعال النيران في منازل الفقهاء الذين قالوا بأحقية الأقباط في تجديد الكنيسة وتعميرها، وحاصروها، ما اضطر الإخشيد إلى التدخل لتهدئة الأمور فأرسل بجنده لصرف المتظاهرين، فرموهم بالحجارة.

وبحسب خلف، لم يجد الإخشيد بُداً من الاستعانة بالفقيه أبي بكر بن الحداد، وكان مسموع الكلمة، فأفتى ببقائها بدون تعمير، خوفاً من ثورة المصريين المسلمين.

في واقعة أخرى، استعان القائد الفاطمي جوهر الصقلي برجال الدين للقضاء على إحدى الثورات التي واجهته عند دخوله مصر سنة 969. فبعد الاستيلاء على الإسكندرية، تقدم الصقلي بجيشه إلى الفسطاط، واعتقد أن الطريق أصبح سهلاً، ولكن حدث ما لم يكون متوقعاً، إذ هبت جموع الجند الإخشيدية والكافورية تحت قيادة أحد الثائرين، ويُدعى نحرير الشويزاني، وبايعه الجند بالإمارة عليهم لمقاومة الفاطميين، فاستقر في الجيزة وأرسل بعض المراكب لمنع عبور الصقلي إلى الفسطاط.

في تلك الظروف، لجأ الصقلي إلى استصدار فتوى من القاضي أبي طاهر الذهلي بوجوب قتل الثوار على اعتبار أنهم يعيقون مجيء الصقلي إلى مصر للدفاع عنها ضد الروم، حسبما ذكر خلف.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*