مترجم عن Global Trumpism
مروة عبدالله
يشرح «مارك بليث» أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة براون تساؤلًا: لماذا كان فوز ترامب عملية بدأت منذ ثلاثين عامًا، ولن تتوقف عند هذا الحد؟ في مقاله المنشور على موقع «فورين أفيرز»، وكيف أن الوضع الحالي من فوز ترامب وغيره من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا ما هو إلا تطور طبيعي في ضوء قانون جودهارت، وأن السياسات تنقض نفسها بمرور الوقت.
يقول «بليث» إن فوز ترامب كان متوقعًا ومتنبأ به، إلا أن ذلك لم يكن من خلال استطلاعات الرأي. إذ أخفقت الاستطلاعات مؤخرًا في التنبؤ بفوز الحزب المحافظ لديفيد كاميرون في الانتخابات العامة البريطانية، ثم في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والآن مع فوز ترامب. ويضيف أنه ربما يجادل البعض بشأن الطرق المتبعة في الاستطلاعات، لكن ما يفوق ذلك أهمية بشكل أساسي هو أن تلك الاستطلاعات تتعامل مع تلك الظواهر باعتبارها أحداثًا منفصلة ومعزولة، في حين أنها في الحقيقة نتاج مجموعة مشتركة من الأسباب تخلَّقت في غضون الأعوام الثلاثين الماضية.
يرى «بليث» أنه لتفسير تلك الظاهرة نحن بصدد قضيتين أساسيتين: معضلة «غالتون» وقانون «جودهارت». سُمِّيتْ معضلة غالتون تيمنًا بالسير فرانسيس غالتون الذي استنبط العديد من طرق الإحصاءات الحديثة. تتمثل معضلة غالتون في أننا عندما نتعامل مع الحالات باعتبارها حالات مستقلة منفصلة، على سبيل المثال الانتخابات البريطانية أو بريكسيت أو الانتخابات الأمريكية، قد لا تكون تلك الحالات في الحقيقة منفصلة أو مستقلة بذاتها، فمن المحتمل أن تكون هناك روابط بين تلك الحالات، ولعل ظهور نايجل فراج في مسيرات حملة دونالد ترامب أحدها، أو ربما تكون عدوى التقليد الأعمى، حيث تعدي المعلومات عن حالة الحالات الأخرى، فتتغير دينامية النظام كله. فالسؤال هنا كما يقول «بليث» هل من الممكن أن يكون هناك مجموعة أعلى من المحركات في الاقتصاد العالمي تدفع العالم في اتجاه حيث ترامب ما هو إلا جزء من نمط عالمي من الأحداث؟
بالنظر للأبواق التي انطلقت في العالم المتقدم كله سواء في اليمين أو اليسار، نجد أنه من ناحية فتَّت الأحزاب اليمينية المتمردة حصص تصويت أحزاب الوسط التقليدية في كل أوروبا.
على سبيل المثال، صار حزب الفنلنديون الحقيقيون، المناهض للاتحاد الأوروبي، ثاني أكبر حزب في البرلمان الفنلندي، وفي السويد، أصبح حزب ديمقراطيو السويد المؤيد للقومية مناهضًا للهجرة ثالث أكبر حزب في البرلمان، وفي المجر يحكم الحزب المدني المجري «فيدس» لرئيس الوزراء فيكتور أوربان وذلك بعد فوزه مرتين في الانتخابات، وفي الوقت نفسه، نجد في فرنسا الحزب السياسي الأكثر شعبية هو حزب الجبهة الوطنية، والذي يتوقع له الفوز في الجولة الأولى من التصويت في الانتخابات الرئاسية عام 2017. لكن عندما تتحد جميع الأحزاب الأخرى في فرنسا لمنع الجبهة الوطنية – اليمينية القومية – من الفوز في الجولة الثانية، فبالكاد يكون ذلك انتصارًا للديمقراطية. حتى في ألمانيا وفي ظل التهديد للاستقرار، حيث يهزم حزب «البديل من أجل ألمانيا» حزب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، فيتراجع الأخير للمرتبة الثانية.
إلا أن «بليث» يذكر أن هناك النسخة اليسارية من تلك الظاهرة، بالنظر للحزب الوطني الإسكتلندي الذي أقصى كل الأحزاب السياسية الأخرى في إسكتلندا، أو حزب «بوديموس» في إسبانيا والذي فاز بـ69 مقعدًا من أصل 350 مقعدًا في البرلمان الإسباني. وكذلك «سيريزا» الحزب اليساري المتصدر في اليونان الآن حتى وإن كان تحت وصاية الترويكا – اللجنة الثلاثية التي تقودها المفوضية الأوروبية مع البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي – في حل أزمة منطقة اليورو، وأيضًا الحزب اليساري الألماني «دي لينك» أحد الأحزاب اليسارية الأخرى التي تستنزف الحصة التصويتية الباقية للحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي كان مهيمنًا من قبل، لكن انهارت حصته التصويتية تمامًا.
يذكر «بليث» أنه بالطبع لكل من تلك الأحزاب مواقف سياسية مختلفة جدًا، فاليمين الجديد يفضل المواطنين على المهاجرين، وفي أحسن الأحوال يمكن وصف علاقته بالفهم الليبرالي لحقوق الإنسان بأنه «فضفاض»، بينما في المقابل نجد اليسار الجديد يفضل إعادة التوزيع من أعلى إلى أسفل، ويفضل نمو السياسات الشاملة على الاستبعادية. لكن يبدو أن الجناحين اليميني واليساري لديهما أمور مشتركة أكثر مما نظن؛ فكلاهما يؤيدان الرعاية الاجتماعية، ويناهضان العولمة، ولعل الأكثر أهمية هو موالاتهما الدولة، ومكافحة التمويل. ولمعرفة السبب في ذلك ربما علينا التعرف على القضية الثانية.
«كي نفهم الانتخابات التي فاز بها ترامب، علينا أن ننصت للأبواق التي تنفخ في كل أنحاء العالم في الدول المتقدمة المثقلة بالديون والناخبين الذين يصوتون لهم».
يقول «بليث» إنه في نهاية الحرب العالمية الثانية، قررت الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها أن البطالة الجماعية المستمرة تعد تهديدًا وجوديًا للرأسمالية، فكان واجبًا تجنبها بأي ثمن. وكاستجابة لذلك، استهدفت الحكومات في كل مكان
«التوظيف الكامل» باعتباره متغير السياسة الرئيسية، وفي محاولتها للوصول إلى معدل بطالة بنسبة 4% والحفاظ عليها، يكمن سبب فشلها؛ كانت المشكلة في تلك السياسة أنها بمرور الوقت كانت تمثل «استهدافَ متغيرٍ لفترة طويلة بما يكفي لتقويض قيمة المتغير نفسه»، وهي الظاهرة المعروفة بقانون «جودهارت».
قانون جودهارت
توصل «جودهارت» إلى أنه «عندما يصبح المدلول القياسي هو المستهدف، يتوقف عن كونه مقياسًا جيدًا».
وقبل «جودهارت» بفترة طويلة، توصل خبير اقتصادي يدعى «مايكل كاليتسكي» بالفعل لتلك النتيجة. جدير بالذكر أن «كاليتسكي» هو صاحب كتاب «Political Aspects of Full Employment» (الأوجه السياسية للتوظيف الكامل). ففي عام 1943 ناقش «كاليتسكي» أنه بمجرد أن تستهدف وتحافظ على التوظيف الكامل على مدى زمني طويل، فإنه يصبح – بشكل أساسي – انتقال العمالة من عمل لآخر بلا تكلفة. والأجور في مثل هذا العالم يجب أن ترتفع باستمرار كي تتمسك بالعمالة؛ وبالتالي تصبح زيادة الأسعار هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للأعمال استيعابها. ظهرت تلك الآلية وهي تضخم ارتفاع التكاليف – حيث تطارد الأسعار والأجور بعضهما بعضًا صعودًا – في السبعينيات من القرن الماضي. وباختصار النظام قوض نفسه كما تنبأ كل من جودهارت وكاليتسكي. وبينما حاولت الدول أكثر فأكثر استهداف التوظيف الكامل، كلما تصاعد بحدة التضخم وكلما انخفضت الأرباح.
وأصبحت بذلك السبعينيات فترة «جنة المدينين»؛ فبينما زاد التضخم، انخفضت الديون من حيث قيمتها الحقيقية، وارتفعت أسهم العمالة للدخل القومي إلى أعلى مستوياتها، بينما ظلت أرباح الشركات منخفضة وعصف التضخم بها؛ فقويت النقابات والاتحادات وعُصِفت اللامساواة وعدم التكافؤ.
بداية حقبة جديدة
«انتهاء حقبة النيوليبرالية، وبداية حقبة القومية الجديدة (النيوناشيوناليزم)».
ويقول «بليث» إنه لو كانت الفرصة جيدة ليكون الفرد مدينًا، فبالتأكيد كانت فترة سيئة ليكون دائنًا، إذ يعمل التضخم كضريبة على عوائد الاستثمار والإقراض، وكرد فعل غير مفاجئ، حشد كل من أصحاب الأعمال والدائنين ومولوا «ثورة صديقة للسوق»، إذ تم التخلي عن هدف التوظيف الكامل لصالح هدف جديد يتمثل في استقرار الأسعار المعروف بالتضخم، لاستعادة قيمة الديون وانضباط العمل من خلال البطالة. ويبدو أن ذلك نجح، وصار بذلك النظام العالمي الجديد هو«النيوليبرالية».
على مدى السنوات الثلاثين التالية، تحول العالم من كونه «جنة المدينين» إلى «جنة الدائنين» إذ ارتفعت حصة رأس المال من الدخل القومي لأعلى معدلاتها على الإطلاق، من حيث حصة العمل في ظل ركود الأجور. ارتفعت الإنتاجية بينما آلت كل العوائد لرأس المال، سُحقت النقابات في حين انهارت قدرة العمال على زيادة الأجور بسبب الصدمة المزدوجة للتشريعات المقيدة للإنتاج والعولمة. وبالتالي تراجعت البرلمانات لتصبح مجرد أسواق «للكلام» تثير التغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بينما سيطرت سياسات التكنوقراط والبنوك المركزية على الاقتصاد بعيدًا عن أولئك الذين انتخبوا للحكم بالأساس.
كل متغير مستهدف يقوض نفسه
«إلا أن قانون «جودهارت»لم يختفِ إطلاقًا؛ فمثلما قوض استهداف التوظيف الكامل نفسه، قوضت سياسة استهداف التضخم نفسها».
يقول «بليث» إنه منذ أزمة عام 2008، عندما ألقت/ ضخت البنوك المركزية العظمى في العالم بحوالي 12 تريليون دولار على الأقل في الاقتصاد العالمي، بالكاد نشأ تضخم في أي مكان. ويشرح ذلك بأنه تقريبًا ربع سندات دول أوروبا لديها عوائد سلبية، ومما لا يدعو للدهشة هنا، أن معدلات الفائدة انخفضت للحضيض، ولولا شراء البنك المركزي الأوروبي للأصول بكميات ضخمة في منطقة اليورو، لصار الركود الاقتصادي شاملًا. في المجمل، ربما نكون خلقنا عالمًا حيث الركود الاقتصادي وليس التضخم هو الوضع الطبيعي، وبالتأكيد يكون لذلك عواقب سياسية خطيرة؛ وهو ما يقودنا إلى فوز ترامب مجددًا.
ففي عالم انخفاض معدلات التضخم، يصبح الائتمان رخيصًا للغاية في حين يرتفع القطاع الخاص بشكل هائلٍ مصحوبًا بدين عائلي في فترة ما بعد الأزمة يبلغ حوالي 12.25 تريليون دولار في الولايات المتحدة الأمريكية فقط، وتلك هي القصة الشائعة. لدى الأُجراء الآن ديون كثيرة للغاية في بيئة حيث الأجور لا ترتفع بسرعة كافية لتقليل الديون أو الحد منها. وفي الوقت نفسه، يحدث في الركود الاقتصادي النقيض مما يحدث في التضخم، حيث قيمة الديون تزداد، فيما تنخفض القدرة على سداد الديون.
ومن هذا المنظور، يقول «بليث» إن ما نراه هو انعكاس للسلطة بين الدائنين والمدينين، إذ قوض النظام المناهض للتضخم على مدار الأعوام الثلاثين الماضية نفسه، وهو ما يمكننا أن نطلق عليه «ثأر جودهارت». ففي هذا العالم، تكدست العوائد واهتاج الدائنون حنقًا بسبب أرباحهم مطالبين بسداد الديون بأي تكلفة. ومن منطلق اقتصادي شامل، يجعل ذلك الوضع أكثر سوءًا؛ فالمدينون لا يمكنهم الدفع، لكن سياسيًا – وهو الأمر الحيوي – يمكن ذلك للمدينين، فهم لا يمكنهم الدفع، ولن يدفعوا، وفي نفس الوقت لا يزال لهم الحق في التصويت.
ويضيف «بليث» أن الأحزاب التقليدية من أحزاب وسط اليسار ووسط اليمين – بناة نظام مكافحة التضخم – تخبطت في مثل هذا العالم، لأن هؤلاء المدينين عرَّفوهم بشكل صحيح أنهم الداعمون السياسيون لمطالب السداد في نظام بالفعل غير متكافئ. ينتج ذلك تحالفات منتَظرة مكافِحة للدائنين وموالية للمدينين، إذ صارت تلك التحالفات ناضجة بدرجة كافية لتلتقط المتمردين من كلا الجناحين اليميني واليساري، وهو بالتحديد ما حدث.
ويختتم قائلًا إن «باختصار، كي نفهم الانتخابات التي فاز بها ترامب، علينا أن ننصت للأبواق التي تنفخ في كل أنحاء العالم في الدول المتقدمة المثقلة بالديون والناخبين الذين يصوتون لهم».
فالثورة العالمية على النخب لا يدفعها فقط الاشمئزاز والخسارة والعنصرية، إنما يدفعها أيضًا الاقتصاد العالمي نفسه، تعد تلك ظاهرة مميزة لشيء واحد قبل أي شيء: أن حقبة النيوليبرالية انتهت وبدأت حقبة – النيوناشيوناليزم – القومية الجديدة.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست
نقلا عن ساسة بوست