السجالات والمناظرات الأيديولوجية الكبيرة التي كانت رائجة في الغرب خلال القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، من قبيل تلك التي كانت تدور حول أيهما أصلح؛ الرأسمالية أم الاشتراكية، الديمقراطية أم السلطوية؟ باتت اليوم تبدو مستهلكة وعقيمة وشيئاً من الماضي البعيد؛ كما أضحت العولمة كلمة ذات دلالة سلبية في خطاب السياسيين المتمردين الذين يستغلون استياء الطبقة المتوسطة، سواء في اليمين وفي اليسار. وفي الأثناء، تبدو النخبة السياسة التقليدية على جانبي الأطلسي متفاجئة من حجم رد الفعل الشعبي؛ التصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، ونجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية في أميركا، وتنامي مشاعر الاستياء الشعبي.. وحائرة بشأن الطريقة المناسبة للرد على ذلك.
وفي وقت عزّت فيه الأصوات الحكيمة التي يمكن أن تشير على السياسيين بآراء وأفكار وتدلهم على المخرج من حالة الأزمة هذه، سواء في واشنطن وفي العواصم الغربية مثل بروكسيل، يبدو أن الديمقراطية نفسها صارت محل تشكيك، وخاصة مع المآل الذي آل إليه «الربيع العربي». بعبارة أخرى، يمكن القول إن الغرب صار مفتقراً إلى البوصلة إيديولوجياً. وليس مفاجئاً، والحالة هذه، أن الفراغ في الأفكار، في المجال السياسي، أخذ يملأ بنزعات قديمة كان يُعتقد أنها قد رحلت إلى غير رجعة، من قبيل التعصب القومي اليميني والعنصرية ومعاداة الأجانب.
الجواب الذي يقترحه جونثان تبرمان لهذه اللوحة القاتمة يكمن في خطوة عملاقة إلى الوراء بعيداً عن النقاش العقيم. وفي كتابه الجديد «الحل: كيف تصمد الدول وتزدهر في عالم آخذ في التراجع»، يطرح تبرمان الأفكار والأيديولوجيات الكبيرة والفضفاضة جانباً ويقترح بدلاً منها طائفة متنوعة من الأفكار والحلول «الصغيرة» والمبتكرة التي أثبتت نجاحها في البلدان التي جُربت فيها، من البرازيل إلى بوتسوانا إلى نيويورك.
تبرمان، مدير تحرير مجلة «فورين أفيرز» الأميركية، يقدم ما يسميها «حججاً مدعومة بالبيانات من أجل التفاؤل» في وقت «أخذ يخلص فيه الجميع إلى أن حكوماتنا أضحت منكسرة ومشاكلنا الداخلية والدولية أصعب من أن تحل»؛ ويقسّم كتابه إلى فصول وفق ما يصفه بالمشاكل «العشر العويصة» وهي: التفاوت الاجتماعي، والهجرة، والتنظيمات الإسلامية المتطرفة، والحرب الأهلية، والفساد، و«لعنة الموارد»، والطاقة، و«فخ الدخل المتوسط» (صعوبة الانتقال من النجاح التنموي إلى وضع الدول الغنية)، ونوعان من أنواع الشلل السياسي: عالمي وأميركي. ثم يسافر بنا إلى 10 أماكن عبر العالم لإبراز حلول محلية نجت في التغلب على هذه المشاكل.
إنها قصص براجماتية سياسية شجاعة وناجحة وسط الأزمة، قصص يرى المؤلف أنها تنطوي على دروس وعبر لبقية العالم، وهي مبادرات صدرت عن زعماء يتصفون بالحصافة وبعد النظر والتحرر من «القيود الأيديولوجية». ففي البرازيل، مثلاً، شعر رجال المال والأعمال وخبراء الاقتصاد بالقلق في البداية عندما انتُخب «لولا دا سيلفا»، النقابي الذي عاش الفقر المدقع حين كان طفلاً، لرئاسة البلاد؛ لكن السياسي «المهيّج للجماهير» سرعان ما تحول إلى حمامة سلام تسعى وراء التصالح والطمأنينة وبناء الثقة. ولمعالجة مشكلة التفاوت الكبير في الدخل، المستشرية في البرازيل، تفتقت عبقرية «لولا» عن «بولسا فاميليا»، وهو برنامج مبتكر لمحاربة الفقر لم يكن يمنح الفقراء المساعدة المالية فحسب ولكنه كان ينص أيضاً على مسؤوليات وواجبات على عاتق المستفيدين، ومن ذلك شرط حكومي باستعمال بعض المال لإرسال أطفال الأسر المستفيدة إلى المدرسة، والحرص على تلقيهم التطعيمات، والخضوع لعمليات كشف طبية بشكل دوري إلى جانب أمهاتهم. وفي النهاية، تمكن «لولا» من كسب دعم فئات عريضة من البرازيليين، بمن فيهم المحافظين، ونجح في تقليص الفقر في بلاده بشكل كبير.
تبرمان يسرد قصص نجاح أخرى لا تنال نصيبها العادل من التغطية الإعلامية، وكثيراً ما تمر عليها وسائل الإعلام مرور الكرام، مقدماً تقييماً غير تقليدي لحلول مبتكرة؛ حيث يسلط الضوء على مبادرات حكومية ناجحة أخرى مثل: حملة إندونيسيا ضد التنظيمات الدينية المتطرفة، وتبني كندا الناجح للتعددية الثقافية، وجهود عمدة نيويورك السابق مايكل بلومبيرج لتجنب هجوم إرهابي جديد على شاكلة الـ11 من سبتمبر.
«تبرمان» جاب العالم ليؤلف هذا الكتاب، وأجرى عشرات المقابلات مع مبتكرين ورؤساء دول من أجل سرد قصص النجاح غير المتوقعة هذه. وصوله إلى هؤلاء الزعماء وخبرته ككاتب وصحفي يجعلان من كتاب «الحل» عملاً قيّماً يركز على الأشخاص ودروس الزعامة وراء تلك السياسات الناجحة. ولا شك أنه كتاب قيّم بالنسبة إلى المسؤولين عبر العالم، إذ يقدم نماذج ناجحة وملهمة يمكن الاستفادة منها والاستئناس بها، وترياقاً مهماً للجدل الطويل حول الاتجاه الذي ينبغي سلكه، ومع التنبؤات القاتمة التي باتت تهيمن على الأخبار حالياً، يقدم حججاً مدعومة بالبيانات من أجل التفاؤل في وقت يطغى فيه التشاؤم.
محمد وقيف
الكتاب: الحل.. كيف تصمد الدول وتزدهر في عالم آخذ في التراجع
المؤلف: جونثان تبرمان
الناشر: تيم دوجان بوكس
تاريخ النشر: 2016
نقلا عن صحيفة الاتحاد