ماهر جبره:
"قيم الأسرة"؛ هذا المصطلح الذي طالما تكرر خلال الأشهر الماضية في مصر، عند توجيه اتهام لسيدة أو فتاة ظهرت بـ"ملابس متحررة"، بأنها تخالف "القيم المحافظة" للأسرة المصرية. هذا الاتهام العجيب الذي قلب مصر رأسا على عقب لأيام بعد جلسة تصوير عارضة الأزياء، سلمى الشيمي، في منطقة هرم سقارة، اختفى فجأة عند الحديث عن "سيدة الكرم".
فالمجني عليها، هذه المرة، سيدة سبعينية مسيحية فقيرة. هذه المسكينة، التي هي بعمر أمهاتنا أو جداتنا، تمت تعريتها وسحلها بغرض إذلالها وإهانتها، في الحادثة الشهيرة في مايو 2016. وبعد أكثر من 4 سنوات ونصف في المحاكم، وبعد بطولة غير عادية منها في محاولة لاستعادة حقها بالقانون، أصدرت المحكمة حكمها بتبرئة المتهمين الثلاثة في الواقعة.
الواقعة بدأت بإشاعة عن علاقة بين شاب مسيحي وهو أشرف عبده، ابن الست سعاد، وامرأة مسلمة مُطلقة حديثا. حاول طليق المرأة أن يلحق بها الأذى ويلحق الأذى بأقباط قرية الكرم في مركز أبو قرقاص بالمنيا، فأطلق هذه الشائعة. ورغم إن أشرف ذهب لضابط المباحث قبل الواقعة المذكورة بأيام، وقال له إنه ليس على علاقة بهذه السيدة، وطالبه بالتحقيق في الأمر، وبدورها نفت السيدة هذه المزاعم ذاتها، لكن هذا كله لم يمنع العقاب الجماعي لأقباط القرية.
فيوم الجمعة، 20 مايو 2016، تجمع مئات من سكان القرية وأحرقوا خمسة من بيوت الأقباط ونهبوا ممتلكاتها، ثم هجموا على بيت السيدة سعاد وجردوها من كل ملابسها وسحلوها عارية تماما في شوارع القرية.
هاجت الدنيا وماجت عندما تكلم الإعلام عما حدث. حتى أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، تحدث عن القضية موجها رسالة لهذه السيدة، قائلا "أرجو أن السيدة المصرية (سعاد) ماتاخدش على خاطرها"، وأكد أن القانون سيأخذ مجراه. ولكن للأسف الواقع لا يعكس هذه التصريحات. فالأقباط في الصعيد، وبالأخص في المنيا، كثيرا ما يدفعون ثمنا باهظا لغياب دور الدولة لصالح جلسات الصلح العرفي.
وعلى الرغم من أن قضية "الست سعاد" حظيت باهتمام إعلامي كبير حينها، على عكس قضايا أخرى كثيرة لوقائع تعدي على الأقباط بسبب شائعات مماثلة، إلا أن ذلك لم يحُل دون تبرئة الجناة. فكما يقول المثل، من آمن العقاب أساء الأدب. والذين يعتدون على الأقباط يدركون أنهم في الأغلب لن يتحملوا عواقب حقيقية لتصرفاتهم.
فما حدث بعد ذلك يعد مثالا صارخا على كيفية سحق الضحية لصالح الجاني. فقد تم حبس أشرف في "قضية زنا" حكمت فيها المحكمة سريعا عليه بالسجن سنتين. وبينما تم الحكم سريعا في هذه القضية، استمرت القضية الأساسية، وهي هتك عرض السيدة سعاد ثابت، منظورة لأربعة سنوات ونصف. كما اعتذر عدة قضاة عن النظر فيها لـ"استشعار الحرج". وحتى بعد أن حكمت المحكمة بسجن المتهمين الثلاثة في هذه القضية بعشرة سنوات، عادت محكمة الجنايات وبرأتهم.
سعاد السيدة البسيطة التي وثقت في القضاء حتى يرد لها حقها، تم سجن ابنها، وتدمير منزلها، وطردها من قريتها. هاجر أولادها خوفا من الانتقام، وأخيرا تمت تبرئة من انتهكوا عرضها وأذلوها، بعد 4 سنوات ونصف من إصرارها على حقها، حتى إنها كانت تبكي منهارة بعد أن عرفت بالحكم، وتحكي عن كيف تم تدمير حياتها بالكامل.
هذا الحكم الصادم يضعنا أمام أسئلة كثيرة، سأذكر منها أربعة. الأول: ما هو المطلوب من المسيحيين عندما يتعرضون لانتهاكات واعتداءات طائفية؟ وهنا نحن لا نتكلم عمن يعيشون في العاصمة ويعملون في وظائف مرموقة، ولكن عن البسطاء الذين لا يمتلكون شبكة العلاقات والمعارف التي من الممكن أن تحميهم عندما يتعرضون للانتهاك؟
الثاني: كيف تحصل المرأة المصرية على حقها بشكل قانوني عندما يتم التعدي عليها وانتهاك حرمة جسدها؟ وماذا إذا كانت امرأة سبعينية تم هتك عرضها على مرأى ومسمع مئات الأشخاص في وضح النهار؟ وهناك شهود عيان تحدثوا بوضوح عن الواقعة على شاشات التليفزيون، فضلا عن دعم الإعلام لها وتصريحات رئيس الدولة شخصيا عنها. ومع كل هذا انتهى بها الأمر بتبرئة المعتدين عليها، فأي رسالة ترسلها الدولة للضحايا؟
فالرسالة الوحيدة التي يفهمها أي عاقل من هذا الحكم هو أن على الضحايا أن يتحملوا الظلم في صمت ويخرسوا، فالقانون لن يساعدهم.
وربما قد يكون من المفارقات هو انتشار وسم #ادعم_بسنت وهي الفتاة التي تعرضت للتحرش الجماعي في ميت غمر خلال الأيام الماضية. فعلى قدر اختلاف الحالتين إلا أن صوت الانكسار والخوف والحسرة، هو ما سمعته في صوت السيدة سعاد وهي تتلقى خبر تبرئة من عروها، وهو أيضا ما سمعته في صوت بسنت وهي تستغيث بالإعلامية لميس الحديدي وهي تعبر عن خوفها ورعبها.
فقد اتصلت بسنت مستغيثة بلميس الحديدي مطالبة بالحماية من حملات التشهير والتهديدات بالقتل التي تتعرض لها من قِبَل أهالي المتهمين، بعد أن قدمت بلاغا بحادثة التحرش التي تعرضت لها.
قالت لها لميس: لا تخافي. ونصحتها ألا تتراجع، ولكن المؤسف والمخيف أن الحوادث السابقة المماثلة تشير إلى كيف يتخلى القانون عن الضحايا من النساء ويتساهل مع المنتهكين في معظم الأحيان.
السؤال الثالث: مع علم الدولة بانتشار جريمة التحرش بشكل وبائي في مصر، هل نتوقع من كل من تتعرض للتحرش أن تترك حياتها ومسؤولياتها وتحيا حياة المناضلات المقاتلات، وتقضي سنوات طويلة في المحاكم حتى تحصل على حقها في الأمان الجسدي؟ هل هذا معقول؟
أما السؤال الأخير الذي يتكرر في ذهني، منذ علمت بخبر الحكم فهو، ما هي طبيعة "قيم الأسرة المصرية" التي يتحدث عنها القانون وتنتفض لها الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها الإعلامية، التي تُستنفر بالكامل بسبب صور عارضة أزياء في حين تتخاذل وتتجاهل تعرية وسحل سيدة صعيدية مُسنة أمام الجميع؟ وما هي هذه القيم التي تبرر التحرش تحت ذريعة "الملابس المتحررة،" فتبرئ المعتدي وتجعل من الضحية جانيا؟ كلمونا عنها أشرحوها لنا فربما نحن لا نفهمها!
فعلى الرغم من اختلاف المواقف اختلافا شديدا بين سيدة عجوز تم إخراجها من منزلها وتعريتها وسحلها بغرض إذلالها، وبين فتاة عشرينية تعرضت لتحرش جماعي وهي تسير في إحدى الشوارع بحجة "ملابسها،" بحسب وصف محامي المتهمين، إلا إن القاسم المشترك، هو أن حرمة جسد المرأة المصرية مُعرضة للانتهاك في أي لحظة في دولة يوجد فيها ألف مانع ومانع لتوفير مناخ آمن للنساء ولتحقيق العدالة!