ميسون أبو الحب
يختلف كل من الديمقراطية والليبرالية من حقبة تاريخية إلى أخرى ومن مكان إلى آخر حول العالم. ورغم تباين المفهومين إلا أناسًَا كثيرين لا يزالون حتى يومنا يخلطون بينهما.
إيلاف: يتفق عدد كبير من المفكرين والخبراء على أن الديمقراطية الليبرالية تمر حاليًا بأزمة تهدد وجودها نفسه. ففي أماكن عديدة من العالم تزدهر الديمقراطية وتجري انتخابات لمسؤولين يتحدثون عن مبادئ ليبرالية ثم ينتهكون حكم القانون، ويحرمون مواطنيهم من حرياتهم وحقوقهم الأساسية، وهناك أيضًا خلط واضح بين الليبرالية والديمقراطية لدى الكثيرين. فما هي الليبرالية وكيف نشأت وتطورت وبما تختلف عن الديمقراطية؟
خلط سائد
زارت المؤرخة هيلين روزنبلات عصورًا سابقة، وبحثت عن أصل الليبرالية مفهومًا وتعبيرًا، وأصدرت كتابًا يحمل عنوان "تاريخ الليبرالية المنسي من روما القديمة إلى القرن الحادي والعشرين". الكاتبة أستاذة في جامعة مدينة نيويورك، ولها مؤلفات سابقة عديدة، منها "القيم الليبرالية: بنجامان كونستانت وسياسات الدين" و"التفكير مع روسو: من ميكافيللي إلى شمت".
ترى روزنبلات أن الليبرالية مفهوم غامض بعض الشيء، رغم وجود دراسات وكتب عديدة جدًا عنها. كما تلاحظ أن غالبية المهتمين بهذا المجال لا تتفق على تعريف موحد وواضح له، بل يخلط الكثيرون بين الديمقراطية والليبرالية.
الأصل
ظهر تعبير الديمقراطية في زمن الحضارة الإغريقية للإشارة إلى "حكم الشعب"، ويعني ذلك حسب البعض مشاركة جميع المواطنين الذكور في السياسة وبشكل مباشر، فيما مال آخرون إلى الإكتفاء بنظام تمثيلي قائم على حق التصويت لجميع المواطنين الذكور.
أيضًا ظهر تعبير الليبرالية لدى الإغريق، لكنه استخدم أكثر في الحضارة الرومانية، وكان يحمل معنى حقوق الفرد المواطن. وبعد ذلك نسي تقريبًا إلى حين عودته إلى مسرح الأحداث إبان الثورة الفرنسية، بعدها تبناه الألمان، وأدخلوا تغييرات على فحواه، قبل أن ينتقل إلى العالم الجديد، ليحمل معنى حديثًا ومختلفًا بعض الشيء عمّا هو في أوروبا.
الثورة الفرنسية
تعود الكاتبة إلى عصر الثورة الفرنسية بالتحديد عندما برز هذا التعبير بعد المآسي التي رافقت تلك المرحلة والرؤوس التي طاحت تحت حد المقصلة، والدماء الغزيرة التي أريقت. وهي مآسٍ حسبت على ما يدعى بحكم الغوغاء أو... حكم الديمقراطية.
يعني ذلك بالحرف الواحد أن الليبرالية جاءت لتحتوي حكم الرعاع ولتسيطر عليه. وكان الليبراليون في ذلك الزمان أشخاص يتحلون بأخلاق عالية، ولديهم معايير اجتماعية راسخة، وكانوا يؤمنون بقدرة الدين على إصلاح المجتمع، ويؤكدون على قدسية الأسرة، ولم يكونوا يتحدثون عن حقوق الأفراد وواجباتهم على الإطلاق.
أشهر ليبراليي ذلك العصر هو بنجامان كونستانت، الذي كان يصر على ضرورة أن تكون للمواطن أملاك عقارية وقدرات مالية جيدة، وأن يكون رجلًا بالطبع، كي يتمتع بحق الإنتخاب، أو تسلم منصب في الدولة. وكان يعتقد أن الشعب غير مؤهل لامتلاك حقوق سياسية، وأنه عادة ما يتصرف بطريقة لا عقلانية، ويميل أفراده إلى ممارسة العنف. وتشير الكاتبة هنا إلى أن أكثر فترات الثورة الفرنسية ديمقراطية كانت الأكثر دموية.
بعد الثورة وتدحرج مئات الرؤوس، برز نجم نابليون بونابرت وحكمه الاستبدادي، الذي كان مدعومًا بنتائج استفتاءات شعبية عديدة يشارك فيها الرجال فقط، وهو ما رسخ مخاوف الليبراليين من الديمقراطية. وفي تلك الفترة تحدث بعض المفكرين عن حب المواطنين الفرنسيين لقادة متسلطين وعن سهولة التأثير عليهم بالكلام والخطب الرنانة، كما برزت تعابير جديدة لوصف حكم بونابرت مثل "الاستبداد الديمقراطي" أو "البونابرتية" أو "القيصرية".
يعتقد كونستانت أن هذا النوع من القادة عادة ما يغتصب السلطة، ويلجأ إلى الكذب وتبريرات غير صحيحة لدعم مواقفه وقراراته ويتحالف مع السلطات الدينية لكسب مساندتهم، كما يجر بلده إلى حروب عديمة الجدوى، لصرف انتباه الناس إلى أمور أخرى، ثم يقوم عادة بتعزيز سلطاته بشتى الوسائل وإغناء نفسه والمحيطين به، ثم إفساد الشعب لقدرته على إقناعه بأكاذيبه، وجعله شريكًا فيها.
من جانب آخر، تلاحظ الكاتبة أن مؤيدي الحكم الملكي والرومان الكاثوليك في أوروبا في بداية القرن التاسع عشر استخدموا تعبير ليبرالي للإشارة إلى معارضي الملكية وسلطة الكنيسة. ثم تشير إلى مفكر آخر هو أليكسيس دو توكفيل الذي شعر بإحباط شديد مع أحداث 1830 و1848 في فرنسا، والتي أكدت له أن الشعب مجرد فريسة سهلة للديموغاجيين والحكام المستبدين المحتملين الذين يخاطبون غرائز الناس قبل عقولهم. وكان ينبذ تعبير ديمقراطية، لأنها كانت تعني بالنسبة إليه التركيز على الفردية المطلقة أو الأنانية.
العالم الجديد
انتقل تعبيرا ديمقراطية وليبرالية إلى الولايات المتحدة ليحملا معاني تختلف عنها في أوروبا. وتلاحظ الكاتبة أن الليبرالية بالنسبة إلى الفرنسي مثلًا تعني مساواة بين البشر ومعارضة وجود دولة قوية، فيما تعني بالنسبة إلى الأميركي حماية حقوق الفرد مع وجود دولة قوية وضرورة بناء مثل هذه الدولة، مع التركيز على واجبات الفرد تجاه بلده.
وتحوّلت الليبرالية إلى أيديولوجية تعني الحريات الفردية بشكل خاص خلال الحرب الباردة بالتحديد، ومع تنامي هيمنة الولايات المتحدة في العالم. ثم ما لبثت أن أضيفت معاني أخرى إلى النسخة الأنغلو-أميركية، لتتضمن إشارة إلى الرأسمالية الحرة مع التشديد على الحرية الفردية.
تلاحظ الكاتبة أيضًا أن السياسيين الأميركيين راحوا يتجنبون اعتبارًا من تسعينات القرن الماضي استخدام كلمة ليبرالي، لأنها تحوّلت إلى ما شتيمة إلى حد ما. يعود السبب في ذلك إلى تغير مغزاها وتضمنها بعدًا اجتماعيًا يدعو إلى حرية فردية تتجاوز الأخلاق المحافظة وإلى ما يسمّيه البعض التحلل الاجتماعي، وهي أمور مرفوضة داخل المجتمع الأميركي، رغم وجود من يمارس هذه الأمور بالتأكيد.
وتشير الكاتبة أيضًا في مختلف فصول الكتاب إلى وجود نقائض عديدة ضمن تعبير ليبرالية، مثل الحديث عن المساواة بين البشر، ثم ممارسة العنصرية والتمييز الجنسي وتمجيد حق تقرير المصير مع تأييد الإمبريالية، ثم التركيز على السوق الحرة، والتأكيد في الوقت نفسه على ضرورة التحكم بالأسواق، إضافة إلى رفض مساعدة المحتاجين والفقراء، بحجة أنها ستؤدي إلى قتل الحوافز لدى الأفراد.