بقلم محمد عبد اللـه
يحمل تعبير الإصلاح الدّينيّ أكبرَ عمليّة تزوير في التّاريخ! فالإصلاح الدّينيّ معناه -في أغلب الأحيان- أن لا تروي الحقائق كما هي بل كما يتناسب والبيئة الحاليّة، فالمُصلح الدّينيّ لا يأخذ دينَه عن المتقدّمين من الرّجال الّذين نهلوا الدّين من منابعه الأصليّة، بل ولا حتى عن السّواد الأعظم من المُتأخّرين المُعاصرين. إنّ المُصلح الدّينيّ شخص مُجتهدٌ يدّعي امتلاك الحقيقة، تماماً كما يدّعيها أندادُه، فالإصلاح الدّينيّ ما هو إلا دائِرة لامتناهية من الادّعاء والإقصاء.
وبما أن الإصلاح الدّينيّ لا يقوم على منهج أو علم بيّن لذلك لا يُمكن أن يتوصّل اثنان من المُصلحين إلى نتيجة واحدة، وعندما يموت المُصلح الدّيني يموت معه علمُه ولا يبقى منه إلا شرف المحاولة، في حين أنّ المذاهب التّقليديّة تُعتبر –بالمُقارنة- أكثر منهجيّة و صِدقًا ومُباشرةً في نقل الدّين، ولا يتمُّ التّأويل إلا فيما يحتاج إلى تأويل، ولا اختلاف إلا فيما ضعُف سندُه، أمّا النّص الواضح المُباشر فلا تزويق فيه أو فلسفة، ولا انتقائيّة فجّة في النّقل أو التّفسير أو التّشريع، لذلك استطاعت هذه المذاهب التّقليديّة ـ على عكس المُحاولات الإصلاحيّةـ تأسيسَ قواعد علميّة وجماهيريّة تمتد حتى زماننا هذا.
إنّ كُلّ مُصلحٍ له دائرة خاصّة به من المسموح والمرفوع، حيث يُعطي المُصلح لنفسه الحَقَّ بانتهاك دائرة المُقدَّس للسواد الأعظم من المُسلمين بسم الحُريّة الفكريّة والعلم، ثُمَّ يضع خُطوطه الحمراء كما يشتهي هو، مثال لذلك الأستاذ إسلام البحيري الّذي يكون في قمّة المنطقيّة والعقلانيّة وهو يدعو الجميع إلى اتّباع المنهج العِلميّ في البحث ومعرفة الدّين، ولكن بمُجرّد أن تأخذه خُيوط البحث إلى الصّحابة تتوقّف مطالبه بالبحث العلميّ والتّدقيق والتّمحيص! بينما لا يرى غيرُه من المُصلحين هذا الخط الأحمر حول الصّحابة، فالسّيد إياد جمال الدّين مثلاً لديه دائرة المسموح الّتي تتّسع لتشمل الصّحابة وعلى رأسهم أبو بكر الصّديق، في حين قد يتحوّل السّيد جمال الدّين إلى مُفكِّر "نرجسيّ" لو حاولت الاقتراب من دائِرة المرفوع لديه! إنّ هذا النّوع من الإصلاح لا يخلو من الطّائفيّة.
كما أن المُحاولات الإصلاحيّة، الّتي غالبًا ما تكون مُمعِنة وغارقة في النّص الدّينيّ، لا تعدو أن تكون جدلًا إسلاميًا-إسلاميًا، على شاكلة الجدل السُّنّي-الشّيعي، أو جدل الأشاعرة مع المُعتزلة، ذلك النّوع من الجدل الّذي لا يُفيد ولا ينتهي ولا يُقنع. ولعل أبرز الحجج الّتي تُؤكِّد أن الإصلاح الدّينيّ ما هو إلا مُحاولة تزوير للحقائق وتجيير للدين، هي القطيعة والمُعاداة للمدرسة السّلفيّة الّتي تقوم على فكرة الرُّجوع للدين الحقيقيّ من خلال السّلف، والعمل على تفريغ الدّين من الشّوائب والمُستجدات الّتي طرأت عليه، وهذا بطبيعة الحال يهدم كُل ما يبنيه المُصلحون الدّينيّون أو يسعوْا إليه. والسّؤال هُنا: ماذا ابتدعت السّلفيّة في الدّين؟ أو ماذا زوّرت في التّاريخ؟ هل اجتهدت لتخرج لنا بشيء جديد يُميِّزها وحدها هو الحُدود الإسلاميّة؟! أم أنّها أضافت للتاريخ الفتوحات والغزوات الّتي لم تكن موجودة من قبل؟! إنّ جلّ التّفاسير والمدارس الفقهيّة والأحكام الّتي لا تُعجب المُصلحين الدّينيّين كانت موجودة قبل أن تأتي السّلفيّة، بمعنى أن السّلفيّة لم تبتكرها، إلا أنّها ـ السّلفيّة ـ تبقى الحلقة الأضعف في سِلسلة المُقدَّس لكُل من لا يجرؤ على تسميّة الأشياء بمُسميّاتها الحقيقيّة.
إن مُحاولة الإصلاحيّين توظيف النّص الدّينيّ لصالح العلمانيّة تُشبه إلى حد كبير مُحاولة بعض وُعّاظ السّلاطين الادعاء بأنّ الشّيوعيّة مُنبثقة من الإسلام، أو أن الرّأسماليّة تجد جذورًا لها في الإسلام؛ كُلها إدعاءات تحكمُها الظُروف والبيئة إنّما يتعيّن علينا نقل الدّين كما هو بكُل أمانة أدبيّة وعلميّة، دُون إلباسه أيّ ثوب علمانيّ أو غير علمانيّ عُنوةً. إنَّ الحل ليس في انتظار سِجالات الإصلاح الدّينيّ كي تأتينا بمخرج من مآزقنا الفكريّة بل الحل يكمُن في إبعاد الدّين، بكُلّ مذاهبه وتفسيراته واجتهاداته، عن نواحي الحياة السّياسيّة والتّنظيميّة، عِلماً بأنّ إبعاد الدّين ليس فيه انتقاص منه ولا تقليل من أهميته، وهذا ما فطن إليه المسيحيّون واليهود وأصحاب باقي الدّيانات، فلم يتعثّر لديهم تأسيس الدّولة المدنيّة العصريّة، بل احتفظ الدّين بمكانته وقيمته الرُّوحيّة وبعدهُ الإنسانيّ، وأصبحت أخطاء الدّول تُنسب إلى الأنظمة لا إلى الدّين. إنَّ العلمانيّة نظام سِياسيّ دُنيويّ، لذلك لن تنجح ولن تزدهر التّجربة العلمانيّة إلا من خلال الإرادة السّياسيّة ونشاط المُجتمع المدنيّ، وليس من خلال النّصوص الدّينيّة، فمن يريد أن يُطبّق العلمانيّة بِناءً على تفسيره الدّينيّ فإنّه يجهل من الأساس جَوهر ورُوح العلمانيّة.