دانية الزعيمي:
بعدما تابعنا في الجزأين الأول والثاني، فضائع الأمويين وسيرة العباسيين في التعذيب السياسي، ثم في الجزء الثالث، أنواع التعذيب التي وجهت لأهداف غير سياسية، في هذا الجزء الرابع، نجرد أكثر وسائل التعذيب شيوعا في حقبة دولة الإسلام تلك.
كان التعذيب غير مألوف في “الجاهلية” نظرا لقيم البداوة التي كانت تناهض التنكيل.
بيد أن بوادره لاحت في المدن التجارية، ضد العبيد أساسا، ثم في مكة مع ظهور الإسلام، حيث لجأ تجار قريش إلى إرهاب عبيدهم ومواليهم الذين أسلموا، ليرجعوا عن الإسلام.
وسيلة هؤلاء كانت التشميس: كانوا يكتّفون الضحية ويلبسونها أدرعا حديدية، ثم يلقونها في الشمس، وتترك لحالها تحتها ما دامت ساطعة في السماء.
هذه الوسيلة برزت في بداية الإسلام أيضا، لتعذيب من يتمنعون عن دفع الخراج، ومن ثم فهي أقدم وسائل التعذيب، وهي مشتركة بين “الجاهلية” والإسلام، كما يذكر المفكر العراقي هادي العلوي في “فصول من تاريخ الإسلام السياسي”.
حمل الرؤوس المقطوعة
ظهرت هذه الممارسة في زمن معاوية، وتدخل في باب المُثلة بالميت… يقال إن أول رأس حمل في الإسلام، كان رأس عمرو بن الحَمَق، أحد أتباع علي، وقد قتله زياد بن أبيه.
من الحوادث المشهورة في هذا الصدد، حمل رؤوس الحسين وأصحابه بعد معركة كربلاء، حيث سير بها إلى الكوفة وقدمت لحاكمها عبيد الله بن زياد.
هذه المُثلة لم تتكرر كثيرا أيام العباسيين، بيد أنها انتشرت في الأندلس أيام ملوك الطوائف، وأكثر من اشتهر بها، صاحب إشبيلية، المعتمد بن عباد، الذي أقام في قصره حديقة لزرع الرؤوس المقطوعة.
بالمناسبة، المعتمد بن عباد كان شاعرا!
الضرب والجلد
سواء باليد أو السوط أو الهراوة أو المقرعة، وكان شكلا معتادا في تعذيب الاعتراف، كما استعمل في التأديب والانتقام السياسي.
الضرب باليد صفعا لم يكن يرمي إلى الإيلام أساسا، إنما إلى الإهانة. أما الضرب بالهراوة فكان على الكتفين والظهر والأرداف، بينما وجهت المقرعة للرأس وهي أشد إيلاما.
المقرعة هذه كانت عصا خفيفة، اشتهر بها عمر بن الخطاب، الذي كان يحملها ويطوف بها الأسواق والدروب، يقرع بها من يخالف تعليماته.
السوط، من جهته، كان يستخدم في الجلد، وقد يتم دفعة واحدة في الغالب أو على دفعات.
من أمثلته، جلد أبو حنيفة مائة سوط، بأمر من حاكم العراق الأموي، عمر بن هُبيرة، لرفضه أن يكون قاضيا في إدارته، كما يذكر البغدادي في “تاريخ بغداد”.
نال أبو حنيفة حينذاك 10 أسواط كل يوم، لأمل ابن هبيرة في أن يتراجع ويقبل بالمنصب المعروض عليه.
تقطيع الأوصال
يشمل قطع اليدين والرجلين واللسان وصلم الآذان وجدع الأنف وجبّ المذاكير (الأعضاء التناسلية للرجل).
في الشريعة، قطع اليد عقوبة وجهت للسارق، وقطع اليدين والرجلين لقطاع الطرق. لكن حكام المسلمين بعد الراشدين، توسعوا في هذه الوسيلة دون التقيد بالجرائم المنصوص عليها، وقد طبقت أساسا على “الجرائم السياسية”.
كان المقطوع أحيانا يترك حتى يموت من تلقائه، فإذا لم يمت قطعوا رأسه… أقدم مثال عن هذه الطريقة، قتل عبد الرحمن بن ملجم، قاتل علي.
سلخ الجلود
من أشنع صنوف التعذيب، سلخ الجلد، ويتطلب الإقدام عليه نزعة سادية كبيرة، لذلك لم يتكرر كثيرا، يشير هادي العلوي.
من أمثلة ذلك، يذكر ابن الأثير في “الكامل في التاريخ” أن قائدا من الخوارج، يدعى محمد بن عبادة، أسر في أيام المعتضد بالله فسلخ جلده كما تسلخ الشاة.
ابن الأثير يورد حادثا آخر كان ضحيته أحمد بن عبد الملك بن عطاش صاحب قلعة أصفهان الإسماعيلية، وكان السلاجقة قد حاصروا قلعته وأسروه بقيادة السلطان محمد بن ملكشاه.
يقول ابن الأثير: “فسلخ جلده حتى مات ثم حشي جلده تبنا”. كان الغرض من حشوه، عرضه بعد ذلك قصد التشهير والإرهاب.
الإعدام حرقا
فرضه أبو بكر الصديق على رجل يدعى الفُجاءة السُّلمى، إذ تقول بعض المصادر، “انتهى إليه أنه يؤتى من دبره كما تؤتى النساء، وكان أمرا لم يتعوده عرب “الجاهلية” وصدر الإسلام”.
الطبري يورد كتابين لأبي بكر في حروب الردة، تضمنت تعليمات لقادة الجيوش التي أرسلها لمحاربة المرتدين بالإحراق.
البلاذري، في “فتوح البلدان”، يذكر أن خالد بن الوليد أحرق بعض المرتدين بعد أسرهم، وأن الصحابة قدموا اعتراضا لأبي بكر ضد هذا الإجراء، فردهم قائلا: “لا أشيم سيفا سله الله على الكفار” (يقصد خالد).
بعض ولاة الأمويين، أيضا، استعملوا الحرق ضد من ثاروا عليهم. من أمثلة ذلك، إحراق المغيرة بن سعيد العجلي حيا، بأمر من خالد القسري، حاكم العراق.
ثم في أيام العباسيين الأولى، أعدم عبد الله بن المقفع حرقا، بأمر من سفيان بن معاوية، أحد ولاة أبي جعفر المنصور.
العباسيون لاحقا طوروا هذا التعذيب إلى… شيّ الضحايا فوق نار هادئة.
ذاك ما فعله المعتضد مثلا، يذكر الطبري، في حق أحد قادة الزنج في البصرة. كان قد أعطاه الأمان، ثم اكتشف أنه يواصل نشاطه المعادي سرا، فأمر بإيقاد النار، ثم شده على خشبة، وأدير عليها كما يدار الشواء حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه.
تعذيب متعدد الوسائل
ضمت هذه الطريقة عدة أشكال من التعذيب ضد ضحية واحدة. من أمثلته، يذكر الطبري، تعذيب الحسين بن زكرويه، وكان قائدا للقرامطة أسر مع عدد من أصحابه، وجيء بهم إلى بغداد ليعدموا.
ضرب يومها مائة سوط، وقطعت يداه ورجلاه، وكوي بالنار فغشي عليه، فأُخذ الخشب وأضرمت فيه نار، ووضع في خواصره وبطنه، فجعل يفتح عينيه ثم يغمضهما، فلما خافوا أن يموت ضربوا عنقه.
حين رفع رأسه على خشبة، كبر الجلادون وتبعهم سائر الناس بالتكبير، وعادة التكبير هذه، يقول هادي العلوي، لم تجر إلا حين يكون الرأس المقطوع لعدو خطر، كما فعل الأمويون عند قطع رأس الحسين.
في الجزء الخامس نتابع… حين تفنن الحكام في التعذيب وابتكروا وسائل جديدة…