عصام الزهيري:
هو قاضٍ وكاتب ومفكر مصري، تولى رئاسة محكمة استئناف القاهرة، ومحكمة الجنايات، ومحكمة أمن الدولة العليا، وكتب عدداً وافراً من المؤلفات المرجعية المهمة، وحاضر في أصول الدين والشريعة والقانون في أكبر وأعرق جامعات العالم، كالسوربون في فرنسا، وتوبنغن في ألمانيا، وأوبسالا في السويد، وهارفارد وبرنستون في الولايات المتحدة، ومعهد الدراسات الشرقية في روسيا، والجامعة الأمريكية في القاهرة وغيرها... هو المستشار محمد سعيد العشماوي.
ويبقى العشماوي أحد أشرس المقاتلين في تاريخ الفكر المصري ضد ظاهرة الإسلام السياسي، إذ كان من أوائل الناقضين لأفكار الجماعات الدينية في مصر، وممن حفروا بعمق حول جذورها التاريخية في فكر الخوارج، ورأى في شعار "الإسلام دين ودولة" تجلياً حداثياً لشعار الخوارج "إن الحكم إلا لله".
العشماوي كان كذلك أول راصد لواقعة اقتباس جماعة الإخوان المسلمين لشعار "الإسلام دين ودولة" عن مقال كتبه المستشار عبد الرزاق السنهوري (1895-1971)، سنة 1929، في مجلة "المحاماة الشرعية". واستهدف السنهوري وقتها مبايعة الملك "فؤاد" (1868-1936) خليفةً للمسلمين. وكانت جماعة الإخوان في بواكير نشأتها تبحث عن شعار تعمل تحت غطائه.
أيضاً، هو أول من أطلق مصطلح "الإسلام السياسي" على فكر الجماعات الدينية، ليتوسع بعد ذلك استخدامه في كتابات عربية وأجنبية، ويصير اصطلاحاً شائعاً.
بوابته الذهبية إلى عالم الفكر
وُلد العشماوي سنة 1932 في القاهرة، ونشأ، كما يحكي عن نفسه، نشأة دينية صوفية، وكان دائم التردد على مساجد السيدة زينب والسيدة نفيسة ومسجد الحسين، وكثير الاحتكاك بروّادها من المتصوفة والمنشدين وعشاق آل البيت.
وفي السنوات الأولى من خمسينيات القرن الماضي، تخرّج من كلية الحقوق في جامعة القاهرة، ثم استكمل دراسته في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، ليتدرج بعدها في سلك الوظائف القضائية بدءاً من وظيفة وكيل النائب العام.
ارتبط العشماوي بصداقة وثيقة مع الأديب الكبير توفيق الحكيم (1898–1987). كان التشابه بين الكاتبين في التكوين القانوني والمسار الفكري والميول الفنية يؤدي إلى تقاربهما، فقد بدأ الحكيم حياته أيضاً وكيلاً للنائب العام قبل أن ينتقل إلى وزارة المعارف ثم يستقيل من وظيفته ويتفرّغ للكتابة.
في مقال له، في شباط/ فبراير 2009، وهو حلقة من سلسلة مقالات كتبها عن حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967، يصف علاقته بالحكيم بقوله: "كانت علاقتي بتوفيق الحكيم قد توطدت منذ الستينيات، وهذا ما يظهر جلياً وبوضوح من التقديم الذى أصَرّ على تحريره ونشره في كتابي الرابع ‘حصاد العقل’ وفيه يذكر أن محمد سعيد العشماوي أصبح واحداً منّا. وقد واصلت هذه العلاقة وعمّقتها أحاديثنا المتصلة في القاهرة وفي الإسكندرية وفي باريس. وكنت أتوجه إلى مكتبه كثيراً – بناء على رغبته – ثم أصحبه في سيارتي إلى مسكني كل يوم خميس حيث نتناول طعام الغداء، ونستمع إلى الموسيقى الكلاسيكية، ونواصل أحاديثنا التي كان الحكيم يُسَرّ منها ويسعد بها".
غير أن علاقة العشماوي بالكتابة تعود إلى ما قبل لقائه بالحكيم، فقد بدأ التأليف بعد تخرجه من كلية الحقوق بسنوات قليلة، مع كتابه الفلسفي "رسالة الوجود" الذي أصدره سنة 1959، ليتابع نتاجه مع كتب "تاريخ الوجود في الفكر البشري" (1963)، و"ضمير العصر" (1968)، و"روح العدالة" (1970)، و"حصاد العقل" (1973)، قبل أن يتفرّغ لاحقاً للكتابة في موضوع الإسلام والإسلام السياسي.
المفكر والرئيس
في تلك الآونة، كان يتضح تدريجياً ميل نظام الرئيس المصري أنور السادات (1918-1981) إلى توظيف جماعات الإسلام السياسي لتوطيد حكمه وشرعنة سياساته في الشارع المصري. لم يكن في وسع السادات ورجاله أن يروا عواقب سياستهم الدينية الخطرة، والتي دفع في النهاية حياته ثمناً لها، حين قامت خلية عسكرية من الإسلاميين باغتياله أمام منصة الاحتفال بنصر تشرين الأول/ أكتوبر.
لكن آخرين، من بينهم العشماوي، كانوا قادرين على رؤية العواقب بوضوح منذ البداية المبكرة. ودفعه ذلك إلى صدام متعدد الأبعاد مع مؤسسات الدولة ورجال النظام.
كان القاضي والمفكر المستنير أحد الذين تمكنوا من إقناع السادات بالتراجع عن دعاوى تطبيق الشريعة على طريقة الإسلام السياسي، بعد أن طلب الرئيس المصري لقاءه في أعقاب صدور كتابه "أصول الشريعة" الذي أصدره سنة 1979.
خلال اللقاء، شرح المفكر ضرورة التفرقة بين الدين والشريعة، وبين الشريعة والفقه، فالشريعة من عمل الله، وهي الطريق الذي رسمه الدين للاهتداء إلى الله، أما الفقه فهو عمل الناس في شرح النصوص، وطرقهم المتباينة في تطبيق القواعد وتخريج المسائل. والفرق شاسع بين النصوص التشريعية المحدودة بالمكان والزمان، وبين الفكر الاجتهادي في شرح النصوص وفقاً للسياق الزماني والمكاني وأسباب النزول. وعليه، فإن شعارات تطبيق الشريعة التي رفعها تيار الإسلام السياسي ليست حقيقية ولا واقعية من كل الوجوه، ولا تساير الأصول التي تقوم عليها الشريعة ذاتها.
وذكر العشماوي في لقاء تلفزيوني في برنامج "هنا العاصمة"، في أيار/ مايو 2013، أن الرئيس اقتنع برأيه فعدل عن الموافقة على القوانين التي وُضعت بدعوى أنها تقديس للشريعة في حين أنها تقنين للفقه. لكنه يروي كذلك أنه التقى بالسادات خلال المحاكمات التي تلت أحداث "انتفاضة الخبز"، في كانون الثاني/ يناير 1977، حين خرج المصريون إلى الشوارع بعشرات الآلاف احتجاجاً على قرار الحكومة رفع الأسعار، فسأله السادات: كيف تفرج عن الشيوعيين؟! أليسوا هم مَن حرّضوا على أحداث يناير؟! فأجاب العشماوي: "بلى، ولكن المتهمين الذين قُدّموا للمحاكمة لم تدنهم أدلة كافية".
قاضي البراءة
منذ منتصف الثمانينيات، حظي العشماوي بشهرة "قاضي البراءة"، عندما أصدر حكماً ببراءة أفراد من الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد سنة 1984، قُدّموا للمحاكمة في ظروف المواجهات بين الدولة وجماعات العنف الديني في تلك الفترة. ورغم الاختلاف الجذري بين آراء العشماوي وآراء الجماعات الدينية، وهو اختلاف تجاوز حدود تكفير القاضي المفكر إلى الدعوة العلنية لاغتياله، استند حكم براءة المتهمين إلى ضعف تحريات الشرطة، وإلى أن تقرير مصلحة الأدلة الجنائية لا يرقى إلى مستوى الأدلة القانونية التي تدين بريئاً، وإلى ما تعرّض له المتهمون من تعذيب وحشي لانتزاع اعترافاتهم.
دفع العشماوي ثمن أحكامه العادلة إقصاءه عن منصة القضاء. وفي العام 1994، منحته "لجنة المحامين الدولية" جائزة بسبب هذه الأحكام التي أكدت سيادة القانون واحترام الحقوق، وحوّلت ترسانة القوانين المقيِّدة للحريات إلى حبر على ورق.
ضد "الإسلام السياسي"
منذ سنة 1979، بدأ العشماوي نضاله الفكري ضد توحش ظاهرة الإسلام السياسي، بإصدار كتابه "أصول الشريعة". وأعقبه بكتاب "جوهر الإسلام" (1984) الذي فنّد فيه تأويل أنصار عودة الخلافة إلى الآيات القرآنية لدعم مطلبهم وبيّن تدليس قراءتهم لها.
وسنة 1987، أصدر كتابه المرجعي في تحليل ظاهرة الإسلام السياسي، وحمل عنوان "الإسلام السياسي"، وهو عمل وصفه بأنه "يصادم تجارة جائرة، ويقوض فكراً مختلاً، ويقدّم أبنية فكرية صحيحة".
بعد ذلك صدر له كتابان: "الربا والفائدة في الإسلام"، و"الشريعة الإسلامية والقانون المصري" سنة 1988، وكتاب "معالم الإسلام" سنة 1989، ثم أصدر كتابه "الخلافة الإسلامية" سنة 1990، وتصدى فيه للخلط بين الإسلام وتاريخ الإسلام، مذكراً بأن الخلافة ليست الإسلام، ولم تخدم الإسلام حقيقة، بل أضرّت به حين ربطت العقيدة بالسياسة والشريعة بالحكم، ثم جعلت الحكم وراثياً وصيّرته مطلقاً مستبداً.
وفي سنة 2004، صدرت له طبعات لثلاثة كتب هي: "الإسلام والسياسة"، و"العقل في الإسلام"، و"حقيقة الحجاب وحجية الحديث". وأثار الأخير سجالاً دينياً وفكرياً عاصفاً، دفع مفتى الديار المصرية والإمام الأكبر للأزهر في ما بعد محمد سيد طنطاوي (1928-2010) إلى وضع كتاب للرد عليه بلغ حجمه ضعف صفحات كتاب العشماوي.
في "حقيقة الحجاب"، فنّد العشماوي تأويل الأصوليين لما يسمى بـ"آيات الحجاب" في القرآن مبرهناً على وقوعهم في أخطاء إهدار السياق. ثم استعرض نصوص الحديث التي يحتجون بها وانتقدها متناً وسنداً، متوصلاً إلى القول بأن الحجاب ليس أكثر من شعار سياسي تستخدمه جماعات الإسلام السياسي للتمييز بين النساء المنضويات تحت لوائها وبين غيرهن من المسلمات وغير المسلمات. ولا يزال هذا الكتاب حجة مرجعية لدى أصحاب الرأي القائل بأن الحجاب ليس فريضة إسلامية.
المفكر الحر والمؤسسة الرسمية
سنة 1992، توجهت لجنة من "مجمع البحوث الإسلامية" التابع لمؤسسة الأزهر الشريف إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب، وصادرت خمسة من كتب العشماوي هي: "الخلافة الإسلامية" و"أصول الشريعة"، و"الإسلام السياسي"، و"الربا والفائدة في الإسلام"، و"معالم الإسلام".
قوبل قرار المصادرة غير المسبوق بعاصفة من غضب المثقفين المصريين، خاصةً أن مصادرة الكتب لم تكن من صميم عمل الأزهر أو مجمع البحوث، وهو الأمر الذي دفع مؤسسة الرئاسة إلى إصدار قرار رئاسي "بإلغاء المصادرة إعمالاً لصحيح القانون الذي لا يعطي الأزهر أي حق في المصادرة". وهو قرار التزم به الأزهر بعد ذلك.
لم يدّخر العشماوي جهداً في تصحيح المفاهيم الدينية الخاطئة وأدى به ذلك إلى أن يخوض بقلمه أشرس المعارك، عندما ردّ عبر جريدة الراية القطرية على فتوى نشرتها مجلة الأزهر عام 1996، وصم فيها شيخ الأزهر السابق جاد الحق علي جاد الحق (1917-1996) الأقباط واليهود بأنه يصدق عليهم وصف الكفار ووصف المشركين. كان رأي المفكر المستنير أن "كل مَن آمن بالله إيماناً صحيحاً واستقام في خلقه فهو عند الله، وبلفظ القرآن، مسلم لا خوف عليه ولا حزن"، مستشهداً بآية {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} (سورة البقرة/ 62).
عندئذ، قامت جريدتان بحملة هجوم شرس ضد المفكر بعناوين ومقالات وألفاظ تكفيرية مقذعة، وهما جريدة "الأخبار" الحكومية الرسمية، وجريدة "الشعب" الحزبية التي كانت تسيطر عليها حينذاك جماعة الإخوان المسلمين. وشاطرتهما الحملة جرائد عربية رسمية أيضاً بينها "الشرق الأوسط" السعودية. وانزلقت الحملة التكفيرية الصارخة إلى إهدار دم العشماوي والتحريض على قتله. فلم يجد المفكر، وهو يقف كمقاتل أعزل يتلقى الطعنات من كل صوب، غير أن يخاطب رئيس الجمهورية طالباً منه التدخل لحمايته. وبالفعل، جرت وساطات ساهمت في توقف الحملة.
لم تكن تلك كل المضايقات التي تعرّض لها العشماوي في مسيرته الطويلة المثيرة، فقد ضُيّق عليه في الظهور الإعلامي، وفي الكتابة الحرة في المنابر الصحافية المختلفة. حتى أنه بوغت في كانون الثاني/ يناير 2004 برفع الحراسة الأمنية الممنوحة له منذ عام 1980 عن منزله، وهي مضايقات وصفها بأنها مزايدة من الحكومة على الموقف التكفيري من قبل الجماعات الدينية ضده.