محمد المحمود:
يَتكّون خطاب التنوير العقلاني من بُنْيَة ذهنية أو ثقافية تنتظم فيها المفردات الأساسية على نحو تعاضدي تضامني. يحدث هذا على مستوى إنتاج الخطاب؛ كما على مستوى استهلاكه أو تلقّيه.
ما يعني أنه لا يُمْكن فصل أو تحييد مفردة من هذه المفردات الأساسية دون أن يكون لذلك أثر سلبي على بقية المفردات، سواء من ناحية إضعاف درجة فعاليتها، أو من ناحية تشويهها وتزييفها، وبالتالي تحويلها إلى مفردة فاعلة في الاتجاه المضاد للمقصد الغائي أو الإنساني لخطاب التنوير العقلاني.
العقلانية التي هي الحاضنة الرؤوم للمكونات الأساسية للتنوير، لا يمكن تصوّرها بدون الحرية. و"الحرية بالعموم" لا يمكن تصوّرها بدون "الحرية الدينية بالخصوص"، والعكس صحيح. والتسامح، كأحد دوافع ومسارات ومخرجات العقلانية، لا يمكن تصوّره دون الحرية الدينية.
كما أن هذه الحرية الدينية لا يمكن تصورها دون توفر عقلانية محايدة مستضيفة للجدل حول الأديان والمذاهب، نشأةً وتطورًا وتحوّلًا وتفرّعًا. كما أن نبذ الطائفية، والتصدي للإقصاء القائم على أساس ديني لا يمكن أن يكون بمعزل عن القراءة العقلانية للدين.
إذاً، هي بُنْيَة ذِهنية متكاملة للمسار التنويري العقلاني التقدمي. وبالمقابل، هي التي تكشف، بصورة ما، عن البُنْية الذّهنية المتكاملة للخطاب المضاد للتنوير: الخطاب التقليدي أو السلفي، اللاّعقلاني، المتعصب، الإقصائي، الطائفي، العنصري، المنحاز للرؤى والقناعات والأعراف القائمة على تصورات خرافية، والمعادي، بالضرورة، ولو على نحو خَفّي أو مُتَخفٍّ، للمسار العلمي المتفائل بقدرات العقل الإنساني، قدر تفاؤله بالدور الحاسم لإرادة الإنسان.
في العالمين، العربي والإسلامي، تزدهر شعارات الإصلاح الديني منذ قرنين تقريبا. يكثر صخبها، وتأخذ أحيانا شكل "موضات" للتسويق الشخصي أو المؤسسي. لكن، لا شيء جديد في هذا الفضاء الثقافي أو الديني المأزوم، لا شيء جديد يُحدِث أثرا نوعيا وكبيرا في الوعي الجمعي.
وفي تصوري أن عدم الفاعلية مَردّه أن دعوات الإصلاح الديني كانت دائما ما تسير في اتجاهين تنعدم جدواهما في الجرد النهائي للتأثر الإصلاحي.
أولهما، اتجاه تكون فيه دعاوى الإصلاح مجرد إعادة تدوير أو إخراج لمنتجات الأسلاف في ثوب جديد (بل ومحاولة للالتفاف على التغيير الحقيقي: العقلاني)، في "دِيكور دعوي" ليس أكثر من محض شعار زائف، وهذا الاتجاه هو الذي توفّر على استجابة جماهيرية واسعة النطاق، لأنه ينطلق من مسلمات الوعي الجماهيري وعود إليها.
واتجاه ثانٍ تكون فيه دعاوى الإصلاح إصلاحا حقيقيا جذريا قائما على المبادئ الأساسية لخطاب التنوير(وبالتالي، مصادمة لوعي الجماهير). ولكن، للأسف، فإن هذا الاتجاه الثاني بقي معزولا ومحدود التأثير، بل ومَحلَّ هجوم عدائي بالتكفير والتخوين من قبل دعاة الاتجاه الأول، الإصلاح الشعاراتي. وهكذا، فالمؤثرون لا يُصْلِحون حقيقة، والمُصلِحون حقيقة لا يُؤثِّرون!
إننا كثيرا ما نسمع رجال الدين في العالم الإسلامي يُؤكِّدون على رؤيتهم الإصلاحية، ومن خلالها يُؤكِّدون تسامحهم، وهم يَعقدون لذلك المؤتمرات والندوات والبرامج الفضائية، ويؤلفون في تأكيده الكتب والمقالات.
ولكن يبقى المحك الحقيقي الذي يكشف الصادق من الكاذب، معروضًا على المختبر العملي الواقعي لِمفردتين أساسيتين مُتَلازمتين، وهما: "الحرية الدينية" و"المنزع الطائفي". فهنا، وهنا بالذات، تنكشف الأوراق، إذ لا يُؤمن، حقيقةً، رافعو لواء الإصلاح والتجديد الديني بالتسامح حقا، من حيث هم لا يؤمنون بالحرية الدينية. وبما أنهم لا يؤمنون في أعماقهم بالحرية الدينية، فبالضرورة هم واقعون تحت سيطرة المنزع الطائفي.
بل قد يُبالِغ دعاة التسامح الطائفي إلى درجة نفي الاختلاف الطائفي أو تهميشه وتهوينه، إلى درجة ادعاء التطابق أحيانا. ولكنهم، وبعد كل صور المبالغة، يسقطون في أول اختبار، بل يسقطون باختيارهم دون أن يكونوا بحاجة لاختبار أصلا.
مثلا، عندما يُؤكد كبار رجال الدين السنة، كشيوخ الأزهر ومن يقترب من مكانتهم تأثيرا، أن الشيعة إخواننا، وأنهم مسلمون مثلنا. وفي المقابل، عندما يُؤكد مراجعُ الشيعة مثل هذا أيضا، فإن هؤلاء وهؤلاء يسقطون عند أول اختبار عملي على مسار الحرية الدينية.
فهؤلاء "المتسامحون جدا" من الطرفين لا يكفّون، حتى وهم يُؤكِّدون صحة إسلام الآخر ووحدة المصير و...إلخ الكلام الجميل، عن التأكيد على وجوب التزام الطرف الآخر بعدم التبشير بمذهبه في النطاق الحيوي لمذهبهم الخاص!
هنا، لا يَتنكّرون فقط للحرية الدينية التي يضطرهم التقدمُ المدني المطالب بالتسامح الديني لإعلان تبنّيهم لها، بل يتنكرون للتسامح الديني ذاته صراحة، بل هم يَتحصّنون بطائفية مُتعصِّبة أشد ما يكون التعصب، في الوقت الذي يُؤكِّدون فيه عدم التعصب.
وفي الوقت الذي يُبالغون فيه في ادعاء التسامح ونبذ الطائفية، يقرّون هامشية الفروق بين الطوائف، بين الطوائف ذاتها التي يرون أن اعتناق أحد أبناء مذهبهم لها عدوان فكري، وعدوان ديني عليهم؛ مُسْتَتبعٌ بـ"أنواع العدوان".
هكذا نجد أن الشيخ السني التقليدي الذي يزعم أنه "غير طائفي"، وأنه "متسامح جدا"، وأنه مؤمن بـ"الحرية الدينية"، يخرج عن صوابه غضبا، إذا ما عرف أن شيعيا يشرح مذهبه للسنة، ويحاول اجتذابهم إليه، أو عرف أن سُنّيا تشيّع.
وفي المقابل، نجد الشيخ الشيعي التقليدي الذي يزعم أنه "غير طائفي"، وأنه "متسامح جدا"، وأنه مؤمن بـ"الحرية الدينية"، يخرج أيضا عن صوابه غضبا، إذا ما عرف أن سنيا يشرح مذهبه للشيعة، ويحاول اجتذابهم إليه، أو عرف أن شيعيا تَسَنّن.
هذا وذاك، كلٌّ منهما يشعر أن ثمة عدوانا صارخا على "الحقيقة المطلقة" التي يحتكرها بكل تفاصيلها، كما يشعر، وهنا المعنى أو الدافع الخفي، أن الآخر يستقطع من أرضية نفوذه المجتمعي المبني على نفوذ مذهبه الخاص!
كل هذا الاضطراب، كل هذه المراوحة بين الادعاء قولا وتكذيبه عملا، ناتج عن كون "حالة التديّن" في أصلها حالة محض وجدانية، وليست عقلانية بأي حال. ومعنى كونها حالة وجدانية أو عاطفية أن تعمّقها وتحكّمها مرتبط بأعراف مجتمعية، وتقاليد متوارثة، أسهمت، وَهْمًا وتَوْهِيمًا، في صنع تصوّر عقائدي يتلبّس المعرفة ويدّعيها ويَتزيّن بها، بل ويُحَاول أن "يَتَعَقلن"؛ فيما هو، بمكوناته الأساسية، مُناقِضٌ، بل ومُنَاهِضٌ لمبادئ التفكير العقلاني.
هكذا نجد أن "الحرية الدينية" و"التسامح" و"اللاّطائفية"، التي ذكرت في بداية المقال علاقتها العضوية بـ"العقلانية التنويرية"، يستحيل أن يتبنّاها المُتديّنون التقليديون، الذين هم، في البداية والنهاية، مجرد مُفْرزَات عاطفية وجدانية لمواضيع أو عقائد أو تصوّرات قائمة على أساس وجداني خالص، مهما ادعت هذه العقائد والتصورات الاندراجَ في خطاب معرفي.
وسواء شعر هؤلاء المتدينون بطبيعة البنية الذهنية أو الوجدانية التي تَتَلبَّسهم أم لم يَشعروا، وسواء كان وَاعِين بتحيّزاتهم العاطفية ذات الطابع العدواني أم لم يعوا، وسواء أدركوا أنهم دُعَاة تخلّف وتعصّب وحجر عثرة في طريق أي تقدم حقيقي أم لم يدركوا، وسواء عَلِموا بحجم التناقض الذي يقع بين ادعاءاتهم الشعاراتية التسامحية من جهة، ودعواتهم الصريحة للاحتراب الطائفي أم لم يعلموا، ففي الاستحقاق النهائي المؤثر بعمق في حياة مئات الملايين من العرب والمسلمين، يصبح هؤلاء "المتدينون" أشد وأخطر عناصر التدمير المستديم للحاضر والمستقبل