عادل حكيم:
لم يأبه العربُ بالتدوين، واعتمدوا على الحفظ والتلقين، وأعلوا من شأن الرواية الشفاهية، وإذا أجهدنا أنفسنا بحثًا عن أي نوع من الكتابة في العصر الجاهلي، لم نكد نظفر بشيء، حتى البلدان المتحضرة المعروف عنها حرصها على تسجيل حياتها وَرَقيًا، مثل اليمن والحيرة وغسان، لم يصل إلينا منها أي كتبٍ، وبات تاريخها نسياً منسياً، باستثناء بعض المرويات المتناثرة، وجميعها تمّ تدوينها بعد قرون من ظهور الإسلام، وفقًا لما أورده الباحث حسين نصار في كتابه "نشأة التدوين التاريخي عند العرب".
والحديث عن أي مصادرة لفكر مسطور بين دفّتي كتاب في تلك الفترة يعدّ ضرباً من العبث، إذ ليس من المعقول أن تُصادر كلمات على الشفاه، أو تمزّق أفكاراً تدور في الصّدور. وفي صدر الإسلام لم يكن النبي وصحبه معنيين بالتأريخ اللحظي لدعوته، ففي رواية عبد الله بن عمر في "صحيح البخاري"، عن النبي، أنه قال: "إنا أمة أمّية لا نكتب ولا نحسب"، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في "سنن النسائي": "إنه كان ينهي عن كتابة العلم، وقال: إنّما ضلّ من كان قبلكم بالكتب."، وفي "سنن ابن ماجة" رواية عن أبي نضرة، قال: "قيل لأبي سعيد: لو أكتبتنا الحديث. فقال: لا نكتبكم، خذوا عنّا كما أخذنا عن نبيّنا."
حرق المصاحف... أول تأصيل شرعي للمصادرة عند العرب
لا ينفي ذلك وجود بوادر ضئيلة لتدوين العلوم في القراطيس، لكن "احتقار كتابة العلم بالقراطيس هو سمة عربية، وهو رأي جمعي عند العرب المتقدمين أورثوه لمسلمي صدر الإسلام"، بحسب ناصر الحزيمي في كتابه "حرق الكتب في التراث العربي"، الذي يروي فيه أن "الأصمعي قال: سمع يونس بن حبيب رجلًا يُنشد: استودع العلم قرطاسًا فضيّعه/ وبئس مستودع العلم القراطيس".
تلك البوادر الطفيفة للتدوين في صدر الإسلام، قوبلت بأول محاولة (رسمية) للمصادرة من قِبل الحاكم، وهو الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذي اهتدى إلى جمع القرآن في كتاب واحد، أطلق عليه لاحقاً "مصحف عثمان"، وعقب رحلة الجمع التي دامت خمس سنوات، نقلاً عن صُحُف السيدة حفصة بنت عمر، المعروفة (أي تلك الصّحف) في عدد من المرويات بـ"مصحف حفصة"، أرسل عثمان بنُسخ المصحف المجموع إلى الأمصار، ثم "أمر بما سِواه من القرآن في كلّ صحيفة أو مصحف أن يُحرق"، بحسب رواية "فتح الباري في شرح صحيح البخاري".
ويرجع ناصر الخزيمي ذلك التأصيل الشرعي لفكرة حرق الكتب المخالفة للرأي الجمعي، بقوله: "إننا مجتمعات أبوية، وعليه عزّز جانب الإجماع على أمر معين، مثل الإجماع على (مصحف الإمام) وإحراق ما عداه من المصاحف" مُنوهاً في كتابه المذكور، بأن "الإجماع في الشريعة الإسلامية، يمثل المصدر الثالث بعد القرآن الكريم والسنة عند جمهور علماء السنّة. فالإجماع على اتباع مصحف الإمام وإحراق ما عداه، يقاس عليه اتباع الكتاب والسنة، وإتلاف ما عداه من كُتب الرأي."ما فعله عثمان بن عفان يُعدّ الذّريعة الأولى التي بَنى عليها اللاحقون فكرة الحرق لأسباب شرعية، مثل الفتوى التي نقلها ابن قيم الجوزية في كتابه "الطرق الحكيمة في السياسة الشرعية" عن أحمد ابن حنبل، بقوله: "قال المروزي، قلت لأحمد: استعرت كتاباً فيه أشياء رديئة، ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال نعم".
الأمر ذاته تكرّر مع الأحاديث النبوية، إذ كثرت الروايات التي تؤكد نهي النبي نفسه عن كتابة أحاديثه، وروى الخطيب البغدادي في كتابه "تقييد العلم" العديد من المرويات في هذا الشأن، منها: "عن أبي سعيد قال: قال رسول الله لا تكتبوا عني شيئاً، فمَن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحِه"، وكذلك رواية أبي هريرة: "خرج علينا رسول الله ونحن نكتب الأحاديث، فقال: ما هذا الذي تكتبون؟ قلنا أحاديث نسمعها منك. قال: كتاب غير كتاب الله، أتدرون ما ضلّ الأمم قبلكم؟ ألا بما اكتتبوا من الكتب مع كتاب الله تعالى. قلنا: أنتحدّث عنك يا رسول الله؟ قال: حدّثوا عني ولا حرج، ومن كذب عنّي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. قلنا: فنتحدث عن بني إسرائيل؟ قال: حدثوا ولا حرج، فإنكم لم تحدثوا عنهم بشيء إلا وقد كان فيهم أعجب منه. قال أبو هريرة: فجمعناها في صعيد واحد فألقيناها في النار." وعلى نهجه سار عدد من الصحابة، مثل عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود.
طرق التخلّص من الكتب عند العرب
يقول ناصر الخزيمي، في كتابه آنف الذكر: "تعدّدت طرق إتلاف الكتب في تراثنا، إلا أنها لم تخرج عن أربع طرق معهودة، وهي: إتلاف الكتب بالحرق. وتعتبر هذه الطريقة من أشهر طرق إتلاف الكتب، وغالباً هي طريقة السّلطة في التعبير عن رفضها العلني لكتبٍ وأفكار معينة".
ويسرد الخزيمي بقية طرق الإتلاف عند العرب، بأن ثاني طرق الإتلاف، هي بالدّفن، وثالثها الغسل والإغراق، ويغلب على هاتين الطريقتين الإتلاف الفردي. أما الطريقة الرابعة والأخيرة فهي إتلاف الكتب عن طريق التقطيع، وهي وسيلة تتبعها السّلطة أيضاً.
ولعلّ أقدم تدخّل للسّلطة متخذةً من أهوائها الشخصية ذريعة لمحو كلّ ما يخالف رؤاها، كان عام 82 هـ، حسبما ذكره الزبير بن بكار في كتابه "الأخبار الموفقيات"، بأن سليمان بن عبد الملك مرّ حاجاً على المدينة، وكان حينها ولي عهد، وأمر أبانَ بن عثمان أن يكتب له سير النبي ومغازيه، "فقال له أبان: هي عندي، قد أخذتها مصححة ممّن أثق به (...) فلما نظر إليها وجد بها ذكر الأنصار في بدر، فقال: ما كنت أرى لهؤلاء القوم هذا الفضل. فأمر بذلك الكتاب فحرق."
ويروي الطبري في "تاريخ الأمم والملوك" قصة أشدّ غرابة، عن الخليفة المهدي، ثالث خلفاء بني العباس، بأنه عام 163 هـ "سلك في سفرته طريق الموصل، حتى انتهى إلى حلب، فأتته البشرى بها بمقتل المقنع (حكيم المقنع خرج على المهدي بخراسان) وبعث وهو بها عبدَ الجبار المحتسب لجلبِ مَن بتلك الناحية من الزّنادقة. ففعل، وأتاه بهم وهو بدابق، فقتل جماعة منهم وصلبهم، وأتى بكتبهم فقطعت بالسّكاكين."
وما من قرن هجري إلا وفيه أحداث مماثلة تدلّ على بطش السلطة على اختلاف مذاهبها بكل ما كُتِبَ على غير هواها، فمن أمويين إلى عباسيين، حتى دولة الأندلس، التي يحكي المقري التلمساني في كتابه "نفح الطيب عن غصن الأندلس الرّطيب" ما جرى لابن حزم على يد المعتضد بن عباد، بقوله: "فلما أحرق المعتضد كتب ابن حزم بأشبيلية، قال: دعوني من إحراق رقٍّ وكاغدٍ/ وقول بعلمٍ كي يرى الناس من يدري/ فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي/ تضمّنه القرطاس، بل هو في صدري/ يسير معي حيث استقلّت ركائبي/ وينزل إن أنزل ويدفن في صدري."
احرق كتابك... بيدي لا بيدي السلطان!
في المقابل، جنح العديد من علماء صدر الإسلام، إلى الرقابة الذّاتية، بأن تخلصوا من كتبهم بأنفسهم في نهاية حياتهم، أو أوصوا بالتخلّص منها بعد وفاتهم، منهم عبيدة بن عمرو السّلماني، القاضي الكوفي، الذي أسلم عام فتح مكة بأرض اليمن، وأخذ عن عليّ وابن مسعود، وابن الزّبير، لكنه بحسب رواية النعمان بن قيس "دعا بكتب عند موته فمحاها، وقال: أخشى أن تضعوها على غير موضعها."
ومن الحارقين لكتبهم أيضاً ابن العلاء التميمي، الذي حدث عنه لغويون كُثر، مثل الأصمعي، وحماد بن زيد، ويعلي بن عبيد، وقال عنه أبو عبيدة اللغوي: "كان أعلم الناس بالقراءات والعربية، والشّعر أيام العرب. كانت دفاتره ملء بيت إلى السقف، ثمّ تنسّك فأحرقها"! وعلى نهجه سار ابن نصير الطائي، وسفيان بن مسروق الثوري، وأبو سليمان عبد الرحمن بن أحمد الداراني، وأبو الحسن بن مسهر، وغيرهم من العلماء الذي ذكرهم خالد السعيد تفصيلاً في كتابه "حرق الكتب... تاريخ إتلاف الكتب والمكتبات"، ُمختتماً ذلك الفصل عنهم، بقوله: "بغض الطّرف عن دواعي أولئك الزُّهاد الكبار والأعلام العظام ونبل مقاصدهم، فإني لا أخفي شعوري بالحسرة على ما فرطوا به من كنوز ضاعت ما بين نار وماء وتراب!"