في سنة 2015 تعرضت فرنسا لهجمات إرهابية عارمة نشرت حالة فزع واسعة في صفوف الفرنسيين العاديين الذين روّعهم حجم وزخم كل هذا العنف الدموي الممارس في الفضاء العام، وفي بعض أكثر أماكن باريس سلمية وأهمية بالنسبة للمواطن العادي المقبل على مباهج الحياة اليومية، وغير المعني أيضاً كثيراً بالجدالات المتعلقة بالسياسة وهموم الشأن العام. وبهذا حوّلت تلك الهجمات العمياء تحديات العنف والتطرف والإرهاب من شأن خاص يهتم به المعنيون فقط من رجال السياسة والأمن والصحافة وعامة من يتصدون عادة للهم العام، ليصبح موضوع حديث يومي داخل الأسرة الفرنسية العادية، وعلى لسان رجل الشارع، فضلاً عن مواقع التواصل العام اليومي كوسائل المواصلات، والإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي. وقد أدى هذا التحول الواسع في الاهتمام بقضايا التطرف والإرهاب إلى صدور عدد غير قليل من الكتب عن مشكلات الاندماج، والتطرف، وفشل سياسات المدينة، والنظم العقابية، ومهمة المساجد، والمنظمات غير الحكومية، واندماج المجتمع الفرنسي المسلم، والعلمانية، والإسلام الفرنسي.. الخ وأدوار كل هذه الأطراف في الوقوف صفاً واحداً ضد نزعات وتحديات التيار الإسلاموي المتطرف في فرنسا، والخطر الذي يمثله على أمن الفرنسيين. ولعل من أهم الكتب التي صدرت ضمن هذه الموجة العارمة من المؤلفات كتاب: «الإسلاموية.. 60 عاماً من محاربة الإرهاب» للصحفي الفرنسي فردريك شاربييه الصادر في شهر سبتمبر الجاري. ولعل مما يزيد من قيمة هذا الكتاب أن مؤلفه صحفي تحقيقات متمرس معروف في فرنسا بقوة تحقيقاته الاستقصائية، وقد نشر من قبل كتباً حول قضايا مثيرة للجدل في فرنسا، مثل كتابه: «الرواية السوداء لقضية كليرستريم» وهو عن فضيحة مالية كبيرة معروفة بهذا الاسم، وكذلك كتابه «العميل جاك ديكلو: تاريخ الجهاز السري للحزب الشيوعي الفرنسي». كما يمتاز كتابه هذا خاصة بكونه مقاربة تاريخية تتبع جذور وبذور التطرف والإرهاب منذ بدايات نشوء هذه الظاهرة في فرنسا مع مطلع ستينيات القرن الماضي، وحتى الآن، مغطياً بذلك ستين عاماً متواصلة من تحولات هذه الظاهرة، وكيف أخفقت سياسات مكافحة التطرف والإرهاب في احتواء خطرها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن.
وبين دفتي هذا الكتاب الواقع في 334 صفحة يسعى المؤلف للبرهنة على أن ما تأدى إليه الحال خلال السنتين الماضيتين من عنف صاخب في باريس ونيس ومدن فرنسية أخرى كثيرة لم يظهر هكذا فجأة ودون مقدمات، وإنما هو الحصيلة المنطقية، والتاريخية، لستة عقود متواصلة من عدم الفاعلية في اجتثاث جذور وتجفيف منابع ثقافة الجنوح المنحرف المتطرف المعشش في صفوف قطاعات من المجتمع الفرنسي المسلم. كما أن سياسات المدينة والضاحية التي اتبعتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة، لم تنجح هي أيضاً في إيجاد مقاربات قادرة على إدماج أعداد كبيرة من المسلمين الفرنسيين، وخاصة من الجيلين الثاني والثالث، الذين ترك كثير منهم للبطالة وسلوك طرق الانحراف والجريمة، فضلاً عن الدور الخطير أيضاً للمؤثرات الخارجية في الجانب الآخر من المتوسط، في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث تؤثر الجماعات المتطرفة والإرهابية سلباً على قطاعات من الشباب الأوروبي، وتستقطبهم، وتمارس عليهم غسيل دماغ عبر الدعاية والتضليل، وقد أصبحت مهمتها في ذلك أسهل بكثير منذ توافر ما يتيحه الإنترنت من فرص نشر الفكر المتطرف والتضليل عن بعد.
ويتتبع الكاتب تاريخ التشدد والتطرف والإرهاب الإسلاموي في فرنسا منذ سنوات الخمسينيات وبداية استقلال المستعمرات، إلى عقد السبعينيات وظهور الحركات الإسلاموية في البلاد، مروراً بعقد التسعينيات وبداية وقوع الأحداث الإرهابية الخطيرة تفاعلاً مع عنف الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، حيث استهدفت فرنسا الراديكالية الإسلاموية العنيفة مع خالد خلخال، وصولاً إلى هجمات عصر «داعش» في السنتين الماضيتين. وقد ظلت المعركة ضد الإرهاب مستمرة طيلة الستين عاماً الماضية، للأسباب ذاتها، كما ظلت الاستجابات الأمنية والسياسية غير قادرة على حسمها بشكل نهائي، وهو ما يفرض الآن التفكير في إنجاز مقاربة جديدة أكثر فاعلية على المستويات الثقافية والاجتماعية والقانونية والأمنية، بكيفية تجعل فرنسا قادرة على وضع نهاية حاسمة لهذه الحرب، وفي الوقت نفسه محافظة على قيمها، وعلى وحدة النسيج السكاني، وروح العيش المشترك والسلام الاجتماعي، والاستقرار العام.
حسن ولد المختار
الكتاب: الإسلاموية.. 60 عاماً من محاربة الإرهاب
المؤلف: فريدريك شاربييه
الناشر: تالاندييه
تاريخ النشر: 2017