السلفية أو التدين العروبي - مقالات
أحدث المقالات

السلفية أو التدين العروبي

السلفية أو التدين العروبي

محمد المحمود:

 

تتعدّد السلفيات وتتنوّع، وتتباين في مستوى درجة "التَّسلّف" فيها، وتُراوِغ، أو تُخاتِل، أو تُخاصِم وتُصادِم، في مراوحة بين حالتي: التَّخَفِّي والتَّجَلِّي. ولأجل هذا كله، تبقى ظاهرة "التَّسلّف" ظاهرة عامة، يُمكن ملاحظتها في كل الأديان، وفي كل المذاهب، بل وفي كل الأفكار ذات المنحى الأيديولوجي تقريبا، على اعتبار أن كل هذه تسعى في النهاية للتحكّم في المسلكيات العمومية لجماعة بشرية ما؛ ما يعني بالضرورة بِنَاء قول على قول، وفعل على فعل، بكل ما يستلزمه ذلك من اقتداءٍ وترميزٍ وتقديس

لكن، حديثنا هنا لن يكون عن "التَّسلّف" في العموم، لن يكون عن السلفية بالمطلق، بل عن "السلفية السنيّة"، أي عن السلفية التي تأخذ هذه الصفة عند إطلاقها، من حيث هي وصف يُطْلق على تيّار إسلامي اتباعي أثري مخصوص، تيّار يجد جذره الأساس في الحراك الفكري والاجتماعي للمُحدِّثين الأوائل خلال القرنين: الثاني والثالث الهجريين، ويظهر في السياق المعاصر كتيار أثري، حرفي، نصوصي، يُحَدِّد معيار الصوابية المعاصرة بحالة الأسلاف؛ كحالة نموذجية افترضها لسبب وحيد: ظرفها الزماني الخاص.

تبدأ السلفية السنية ـ كتيار اتباعي ـ بالمُحَدِّثِين أواخر القرن الثاني الهجري وعموم القرن الثالث. ثم تزدهر ـ وخاصة بعد الانقلاب المُتَوكّلي ـ بفضل تراكمات الأطروحة العقائدية التي تكونت بفعل الصراع المحتدم مع المنافسين في الساحة: الفرق والمذاهب الأخرى. والأهم، أنها ـ كي تؤسس مشروعيتها ـ تزعم أنها الوريث الوحيد لـ"السلف الصالح" المُتَحدِّد ـ في زعمها ـ بجيل الصحابة والتابعين (بينما هي في الحقيقة تنتقي مجموعة مُحَدّدة منهم، وتُلْبِس آخرين قناعاتها الخاصة بأثر رجعي)، وأن كلَّ خير منهم وعنهم، وكل فلاح ونجاح باتباعهم، وبمقدار حرفية الاتباع، يكون الفعل صوابا. وفي المقابل، يؤكدون على أن كل شر وبلاء فمن الأخلاف، هؤلاء الأخلاف الذين يكفي للحكم على مقولاتهم بالخطأ (بل بالابتداع الذي هو جريمة عقائدية كبرى !) أنها مما لم يَقل به الأسلاف، إذ لو كانت صوابا لسبق إليه الأسلاف، الذين هم ـ وفق المنطق السلفي ـ الأجدر بكل خير، هم الأصوب دائما، وهم الأكرم والأعقل والأعلم.. إلخ مقولات التقديس/ التوثين

هذا التيار بقي رائجا على المستوى الجماهيري منذ القرن الثاني وإلى اليوم، بقي رغم تقلبات الزمان وتبدّل الأحوال. وقد وجد وقوده الذي يُغذيّه ويمنحه طاقة الحياة والتجدّد المتكرر في حالة الجمود العقلي أوالسبات المعرفي الذي دخل فيه  العقل العربي/ الإسلامي منذ عشرة قرون تقريبا. فطوال هذه القرون، كانت السلفية التقليدية تقتات على واقعة التخلف والانحطاط، تستمد منها مادتها، وتتعزز وتزدهر في محيطها الحيوي كطوق نجاة في محيط عقل عربي ـ عشائري في مُكَوّنه الأساس ـ لم يتجاوز بعد عبادة الأسلاف.   

كون السلفية، حتى في صورها المعاصرة، تبدو كحالة جمود عقلي وتبلّد روحي وسكون إرادة، ليس هو موضوع النقاش في هذا المقال. موضوعنا هنا مرتبط بحالة تَجاذب وتَخَادم، و ـ أحيانا ـ تحالف حركي، بين السلفية التقليدية من جهة، والقومية العروبية من جهة أخرى، على الرغم من أن مبادئ الإسلام في طبعتها النصوصية الأولى كانت مساواتية، أي كانت متجاوزة للقومي، وذات طابع عالمي، وأيضا، على الرغم من كون الطرف الآخر: القومية العروبية، ذات نَفَس شوفيني عنصري واضح، و كونها ـ في نسختها الرائجة ـ علمانية، مُتَخَفِّفَة من الديني إلى حد كبير، بل إلى درجة التنصيص ـ أحيانا ـ على تحييد الدين

في المشهد الفكري العربي الإسلامي المعاصر (الذي يُهَيمن عليه السلفيون بشكل مباشر أو غير مباشر) تجد أن ثمة ميلا واضحا للاعتداد بالعروبة على حساب مبادئ أصيلة في الإسلام. كتابات الإسلاميين تنضح بميل صريح أو خفي إلى تقرير "الإسلام كَمَجْدٍ عروبي"، لا بالاعتماد على مواضعات الحراك العربي الراهن فحسب، بل وأيضا بالاعتماد على الاستثمار في كل التاريخ: وقائعَ وأفكارًا وشخصيات؛ لتأكيد أصالة المبدأ القومي العروبي، ابتداء من مقولة: "العرب مادة الإسلام"، وانتهاء بمقولة: هذا "إسلام أعجمي"؛ على سبيل التَّنقّص والازدراء.  

على الضفة الأخرى، في المشهد الفكري القومي العروبي، تجد أن ثمة ميلا، لا للاعتداد بالإسلام كدين صنع العربَ كأمة ذات حضارة عالمية، وإنما للاعتداد بالإسلام في صورته السلفية كما هي عند السلفيين الأقحاح. فالعروبي هنا، ومهما كان قوميا علمانيا، فإنه يجد في السلفية (إذ يفهمها، أو يشعر بها على نحو ما؛ كحالة تعنصر عروبي) أصالةَ العربي, يجد أصل العروبة، يجد في أعلام السلفية وتاريخها أساسا للفكرة وللمشروع ، بل وللدولة التي يشتغل عليها، وللمستهدفات التي يطمح إليها.

إن هذا التماهي المعاصر، الذي قد يصل ـ في بعض منحنياته ـ إلى صورة من صور التحالف الصريح، يبدو غير مفهوم للوهلة الأولى، يبدو وكأنه خيانة طارئة، خيانة معاصرة تتجاهل التاريخ، خيانة للمقولات الأساسية عند هؤلاء السلفيين وعند هؤلاء العروبيين. فهل يُضَحِّي السلفي المُتأسلم بـ"عالمية الإسلام" التي هو مُكَوِّن جوهري فيه، لصالح التأطير القومي العروبي المتحدد بأمة عربية واحدة ؟ وهل يُضَحِّي العروبي القومي بـ"قوميته" التي هي مُكَوِّن جوهري فيه، لصالح رُؤى عالمية من شأنها أن تُذِيب حدود الانتماء القومي العنصري ؟

في تقديري، هما يلتقيان في المبدأ العنصري؛ مهما اختلفا. السلفية تيار ديني، ظاهر مبادئه العالمية، ولكنه في الحقيقة قومي، لقد نشأ في الأصل بفعل دوافع قومية، وتغذّى على هذا الدافع طوال تاريخه، وبالتالي، فهو لا يخسر عالميته التي لم يؤمن بها حقيقة، بل يُوظِّفها في النهاية لصالح مبدأ العروبة القومي. كما أن القومي لا يُضَحِّي بعروبته لصالح عالمية الرؤية الدينية السلفية التي تُجَاهر بعالميتها، إذ يدرك تماما أن السلفية هي مَحض تعبير عروبي عن الإسلام، يُدْرك أنها الإسلام مختصرا في هَمٍّ عروبي واهتمامٍ قومي، وبالتالي، تغدو العالمية في السلفية مجرد دعم وإسناد، وإعلان شعاراتي في النهاية، من شأنه أن يُضِيف إلى حساب القومية؛ ولا يسحب من رصيدها بحال.

هكذا تتضح الصورة بعمومها؛ كما بتفاصيلها المميزة، فيبدو الشيخ السلفي/ ابن تيمية الذي نصَّ صراحة على أن "جنس العرب أفضل من غيرهم"، هو معشوق السلفيين الأول، كما هو معشوق العروبيين الذين بدأوا ـ في ما يُشبه الهلوسة الجماعية ـ بالحديث عن العبقرية الاستثنائية لابن تيمية، بل وأحيانا، عن التسامح الديني التيموي، وربما عن الإسهام الحضاري لابن تيمية !  

وإذا كان عشق السلفيين لابن تيمية مفهوما، من حيث كونه يُعَبِّر عن السلفية في أشد صورها أثرية واتباعا وتعصّبا، فإن تعصّب القوميين له قد لا يبدو مفهوما لكثير من الدارسين الذين يستنكرون عشق كُتَّاب علمانيين لتراث شيخ دين متزمّت ومنغلق أشد ما يكون التزمت والانغلاق، والذين لا يُكَلّفون أنفسهم البحث في الدّوافع والمُحَفّزات التي تقع خارج دائرة: ديني، ولا ديني. ولو أنهم بحثوا في "المشترك العروبي" الذي يتعالى ـ حتى في حالة الديني اللاَّواعية ـ على "المشترك الديني"؛ لأدركوا أن من طبيعة الأمور في مثل هذا السياق، أن يكون ابن تيمية محل احتفاء سلفي وعروبي في آن واحد.  

إذن، ابن تيمية نموذج للديني السلفي الذي يجد الاحتفاء والتقدير والتبجيل من تيّار قومي يدعي العلمانية. وهذه في الظاهر مفارقة، بينما هي في الباطن موافقة واتفاق

وفي المقابل، وعلى نحو معاكس، تبدو الدولة الأموية دولة علمانية عروبية قومية، وبالتالي، تبدو وكأنها الأقل إسلامية، والأقرب إلى الدولة اللاّدينية، بل وإلى الدولة المعادية للدين. وهنا، من الطبيعي أن يحتفي بها القومي العروبي العلماني واللاَّديني. ولكن تحدث المفارقة الظاهرة عندما يحتفي بها الديني السلفي. غير أنها مفارقة سطحية تُخْفِي أصلَ الموافقة، فبفهم أصالة المبدأ القومي العروبي عند السلفي (وهو يتعالى على الديني حقيقة)، يمكن فهم هذا الاحتفاء من قبل المُتَزمِّت الديني باللاّديني. ولا يمكن فهم التعشّق السلفي المهموم بالدين للدولة الأموية المناهضة للدين (على الأقل؛ كما يفهمه السلفيون) إلا على هذا الأساس

لقد نشأ التيار السلفي كرد فعل على النفوذ اللاَّعربي (= الموالي) في العصر العباسي، أو هو برز وازدهر واستنفر جهوده في هذا العصر، وإلا فقد بدأ في العصر الأموي كخطاب سلطة ضد المعارضين والثائرين المدعومين ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ من الرعايا غير العرب في دولة الأمويين المتعصبة أشد ما يكون التعصب للعرق العربي

وحتى تتسع وتتعمّق دائرة الفهم لظاهرة الاشتباك القومي السلفي، لا بد أن نفهم كيف أن تيار العقل (= أهل الرأي) كان هو المقابل لتيار الاتباع (= أهل الحديث)، وكيف أن هذا التيار الأخير ذا الطابع الجبري (المناهض لحرية الإرادة) كان هو المعارض للدولة العباسية إبان نشأتها، على اعتبار أنها نشأت على أكتاف الموالي. بل ونفهم مثلا كيف أن الإمام أبا حنيفة (أحد أئمة المذاهب الأربعة) كان محل تبديع وتكفير وسب وشتم من قبل التيار السلفي، في الظاهر؛ لأنه غير أثري/ عقلاني، وفي الباطن؛ لأنه غير عربي. وربما لأنه غير عربي؛ تمثّل العقّل وتخفّف من النقل. ما يعني أنه استخفّ بالأسلاف (قطع الصلة مع الذهنية العشائرية)، الذين هم في النهاية العرب البسطاء الذين يزعم السلفيون أنهم أصح الناس عقولا وأكملهم تديّنا، وأولى من غيرهم بمطلق الصواب.  

إذن، وبناء على كل ما سبق، نستطيع أن نفهم جزءا مُهّما من إشكاليات الحراك العربي المعاصر، أي نفهم حالة: العروبي غير المتديّن إذ يبدو سلفيا، إذ يبدو أثريا اتباعيا، عشوائيا، مجافيا لكل صور التعقّل، ومرتابا بكل مسارات الحرية !  

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث