علياء عيد
الهلال مع الصليب"/ "الشيخ بيد القسّ"؛ هاتان الصورتان اللتان اعتاد عليهما الشعب المصري وحرص على إظهارهما دائماً بكل مناسبة سياسية كانت أم اجتماعية.
لم تختلف كثيراً هذة العلاقة بشكلها المعتاد في صفحات الأدب المصري باستثناء إضافة عدة مشاهد أخرى، كقصة الحب بين المسيحي والمسلمة، أو بين مسلم ومسيحية، عادة تكون سبباً في إشعال الفتنة الطائفية.
الغريب أنّ الروائيين المسيحيين يكرسون ذات الموقف مثل نظائرهم من الروائيين المسلمين؛ كرواية "شبرا" لنعيم صبري، وروايتي "قطار الصعيد" و"قسمة الغرماء" ليوسف القعيد، إذ يعبر الكتّاب عن الشخصية المسيحية في روايتهم، ولكت دون أن تحتلّ مكانة الصدارة، فينحصر تقديم المسيحي بالشخصية الثانوية في كثير من الأعمال.
السؤال الملح هنا: لماذا يبتعد الروائيون المسيحيون عن التعبير عن الهمّ المسيحي؟ وما هي مخاوفهم؟
سلطة الكنيسة
معظم الروايات، حتى في جيل الرواد، كرواية "حائر بين الحلال والحرام" لإحسان عبدالقدوس، ورواية "الحرام" ليوسف إدريس والتي صدرت عام 1960، تناقش قضايا الحب بين المسلم والمسيحي، أو الدور الوطني للمسيحين، والعلاقة بينهم وبين المسلمين.
مثالان هامان آخران هما رواية "خالتي صفية والدير" التي صدرت عام 1991 لبهاء طاهر، ورواية "لا أحد ينام في الإسكندرية"، لإبراهيم عبدالمجيد والتي صدرت عام 1996.
يقول الروائي روبير الفارس: "هناك روائيون مسيحيون يرفضون بالفعل الكتابة عن المسيحيين، حتى لا يتم تصنيفهم بشكل طائفي، وبسبب تخوفهم من ردة الفعل السلبية التي قد تلاحقهم، خاصة من الكنيسة ومن المجتمع القبطي. فشعور الأقباط بالاضطهاد جعلهم في حالة دفاع فوري وانفعالي مستمر لتحسين صورتهم وتجسيد صورة مثالية".
فمثلاً في رواية "عزازيل"، قدم يوسف زيدان حادثة تاريخية عن الواقعة المتمثلة في دور البطريرك وتحريضه على قتل الفيلسوفة هيباتيا، وعلى الرغم من عشرات القصص في التاريخ الطويل للأقباط التي تحمل دلالات شبية لهذه الحادثة، إلا أنها أثارت ردود فعل عنيفة، لأنها تخدش الصورة المثالية التي يسعى الأقباط لتكريسها.
وهذا مثال عن تحفظ الأقباط في تقديم هويتهم بشكل محدد، فهم يحاربون ويعادون كل ما ينحرف عنها، أو يمس الكنيسة أو القديسين، وهذا يؤثر على العديد من الروائيين والكتّاب المسيحيين الذين يحاولون تفادي ردود فعل الكنيسة والأقباط على كتابتهم، فيبتعدُ العديد منهم عن تناول الهمّ المسيحي وقضايا المسيحيين، بحسب الفارس.
الشخصية المسيحية وإطارها الإنساني
قليلون أدركوا جوهر الشخصية المسيحية في إطارها المصري الإنساني، كما يقول الروائي يوسف وهيب. وهو بهذا يقصد أن الكثيرين ممن تناولوا علاقة المسيحي بالمسلم في رواياتهم، اهتموا بالموضوع في سياق "صرعة" الاهتمام بالأقليات، بحيث بدا وجود المسيحي في هذه الروايات وجوداً زائداً أو مجرد حشو لا ضرورة فنية لوجوده أصلاً.
وفي هذه الحالات، لم يكن هناك اعتبار للمسيحيين كأبناء وطن، فجاءت أدوارهم كحالات "دعائية"، خاطب كتابها شهوة الترجمة للغات الأخرى، أو السعي إلى جائزة ما. وقد صدر مؤخراً للكاتب رواية "تغريبة القبطي الأخير"، وتتناول الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين ومقاربة للمسكوت عنه في هذة العلاقة.
مع كل ذلك، أقدم روائيون على كسر حاجز الخوف، وتجاهلوا بوعي وثقة التهم التي انهالت عليهم، وعلى رأسها: "تجريسهم" للوطن وخيانتهم له. فكتبوا ما جاء
في مخيلتهم مختلطاً بمشاعر كبرت معهم كونهم مواطنون مسيحيون، حالهم كحال باقي المواطنين لديهم همومهم الخاصة وانكساراتهم المتتالية.
كان من بينهم الروائي غبريال زكي غبريال، في روايته "وصايا اللوح المكسور"، والتى ركّزت على أسرة مسيحية معاصرة من خلال شخصية "بولا" الزوج غير المتدين، الذي يخون زوجته مع أرملة مسيحية، ومن هذه المتاهات النفسية يكتشف انفصاله النفسي والواقعي عن العالم القبطي، وعندما يبدأ في العودة إلى حضن الكنيسة وإلى أسرته، يغتاله الإرهاب.
رواية وصايا اللوح المكسور كانت العمل الأول والأخير للكاتب، وبالرغم من أنها مغمورة/ اضطر الكاتب أن ينشرها على نفقته الخاصه وبمساعدة أصدقائه/ إلا أنها من أهم الروايات التي تحدثت عن هموم المسيحي في المجتمع المصري وتعامله الحياتي اليومي.
وبمستوى أهميتها، في هذا السياق، لابد من ذكر روايتي: "ترابها زعفران"، و"رامة والتنين"، للروائي إداور الخراط اللتان تتحدثان عن ماهية الشخصية المسيحية.
يقول وهيب: "روائيين وكتّاب مثل إدوار الخراط ورؤوف مسعد، وبحكم نشأتهما في عائلات وبيوت مسيحية، تشرب كل منهما هذه الثقافة، حتى وإن كان كلاهما اختلف معها عبر مناقشة الذات ومساءلتها"، ويضيف: "روايتي الخراط هما بحق حوارية بين رجل وامرأة تمازجت فيها عناصر رمزية مصرية قديمة ويونانية وإسلامية".
في "ترابها زعفران"، يركز الكاتب على الإسكندرية حيث نشأ، ويتأمل في العلاقات الطيبة والقوية التي كانت تربطه بأصدقائه المسلمين وجيرانه وعلاقه جارته "الست وهيبة" بوالدته، كما تتناول وقوف أهالي الإسكندرية يداً واحدة ونزولهم في المظاهرات دون تفرقة بين مسلم ومسيحي.
أما رامة التنين، فتتمحور حول مشاعر الحب الممتزجة بخوف وقلق شخصيتها الأساسية، وهي قبطية، وتنتهي بمأساة الفراق الحتمي إذ ترحل تاركة كل شيء وراءها.
وربما يختلف ذلك عما فعله رؤوف مسعد في "بيضة النعامة"، التي يعدها البعض سيرة ذاتية للكاتب نفسه.
من خلالها نتعرف إلى أنه ولد في نهاية الثلاثينات في مدينة صغيرة تقع غرب السودان، لأبٍ يعمل قسيساً، ثم انتقلت الأسرة إلى القاهرة، والتحق بالجامعة، ومن ثَمَّ يخوض تجربته السياسية في الحزب الشيوعي المصري، تلك التجربة التي تودي به إلى السجن.
يكشف رؤوف مسعد ما بين الفرداني والذاتي، الكثير من المسكوت عنه في الشخصية المسيحية، وهو ما يجهله الكثيرون.
نذكر أيضاً رواية "جريمة في دير الراهبات"، التي ناقشت التراث القبطي الرهباني وتاريخ الشهداء الذي يحمله كل قبطي فوق ظهره ويعيق حركته في الحياة المعاصرة، للروائي روبير الفارس.
وقد أصدر الفارس أيضاً رواية "لعبة الضلال"، التي استخدم فيها شخصيات ووقائع تاريخية في إطار فنّي، في محاولة لتقديم تاريخ الأقباط الحديث في ظل 3 رؤساء هم جمال والسادات ومبارك، و3 بطاركة هم يوساب وكيرلس وشنودة، وفي الأزمنة الثلاثة، يعرض الكاتب ثنائية الدولة والكنيسة وتأثير هذة العلاقة على ما يعايشه المسيحيون من معاناة
حين يعبّر المسيحي عن نفسه
لقد تعودنا، من زمن طويل، وهو نتاج لتربية سياسية متأصلة، أن لا نلتفت إلى جذور المشاكل، بمعنى أن المشهد صار متأصلاً في نفوسنا وأفكارنا، مشهد القسيس الذي يحتضن الشيخ ويرفع كلاهما يده كأنما قد انتصرا على الفتنة والشر، وهذا قمة العبث"، هكذا بدأ الروائي "هيدرا جرجس" حديثة لرصيف 22.
صدر للكاتب رواية "صياد الملائكة"، التي تناولت الطائفية في مصر من خلال شاب مسيحي يدعى "حنا"، يقيم علاقة جنسية مع فتاة مسلمة منتقبة "صفية"، ويفتضح أمرهما، وتعرض الرواية الاضطهاد الذي يمكن أن يتعرض له المسيحي.
لم تكن الرواية تعرض علاقة حب تنشأ بين مسيحي ومسلمة فقط بل أراد الكاتب أن يشير إلى التشوه الذي وصل إليه المجتمع.
يقول جرجس: "بتنا لا نعترف بمشكلاتنا ونحاول تغطيتها بمسكنات وقتية لا تشفي ولا تغني؛ مرض يعبث بخلايا وجودنا ولا يزال، وصار كل من يمس الجذر، خاصة لو كان مسيحياً، يُلاحَق بالاتهامات، وقد عانيت من ذلك وبسببه."
ويضيف: "إنّ القراءة في هذا الجو ليست دائماً شريفة، ولا تبتغي وجه الأدب والفن وحدهما، فتجد من يقول أنت كتبت كذا لأنك مسيحي وأنت مِلتَ في كتابتك لطرف دون الآخر، وأنا لم أفعل إلا أن وضعت مرآة أمام وجه واقعنا القبيح، عندما نجد مسيحياً أو مسلماً، يقول إن علاقتنا جميلة، كأننا أسرة، لا بد أن نتاكد فوراً أن هناك مشكلة ما."
ويستكمل جرجس حديثه، قائلاً: "صورة القسيس مع الشيخ لا تعني إلا أننا مقبلون على كارثة، هكذا هو الحال في الأدب والفنون. إن الدخول في المناطق الخطرة والممنوع الاقتراب منها، المناطق التي ينفيها المجتمع، ولا يجرأ أحد على الاقتراب منها، جعل الشخصيات المسيحية "ثانوية" وجعلها منزوية وبعيدة."
وعن ما يواجهه الكاتب حينما يكتب عن هموم المسيحين ومشاكلهم وأحزانهم وأفراحهم كما يرى، يقول جرجس: "إذا تمّ تناولها في سياق يرفضه المجتمع بكل أذرعته الأخطبوطية، فيا ويلك وسواد ليلك. والجرأة وإن كانت عماد الفن فإنها تقليب التربة الفاسدة، ونكأ الجرح عمل مؤلم للفنان. هل نتصور أن نضع مرآة أمام الوجوه القبيحة ونكشفها لأصحابها دون أن ينطلقوا للفتك بنا؟"
لقد ظلت صورة "الشيخ والقسيس" هي السائدة في كل الكتابات التي تناولت الأقباط، سواء كانت من كتاب مسلمين أو مسيحيين، حتى لا يرتج هذا السياق الثابت أو يتزلزل، وبذلك انعكس في الفن تكريس للمشكلة: فظلت القضية باهتة وثانوية في شخصيات الروايات، لا تغيّر أو تُساءل، بل تكرر الواقع وتحميه.
رصيف 22