جيل غير مؤدلج - مقالات
أحدث المقالات

جيل غير مؤدلج

جيل غير مؤدلج

محمد المحمود:

 

إذا كان مصطلح "الأيديولوجية" يعني ـ في أصل وضعه ـ: علم الأفكار، فإنه في مستوى تحوله الدلالي في السياق الثقافي، تجاوز هذا الأصل إلى معاني إضافية، ذات طابع تبخيسي في الغالب. وقد تصاعد هذا التبخيس حتى كاد أن يكون المقابل الضدي للعلم المجرد/ المحايد

لهذا، كثيرا ما يقال: هذا خطاب علمي/ ابستمولوجي، وذاك خطاب أيديولوجي، مدحا للأول وقدحا في الثاني؛ لأن الأيديولوجية ـ بعد هذه الإضافات ـ لم تصبح مجرد "علم الأفكار"، وإنما أصبحت تعني الأفكار المُوَجّهة المتجاوزة لضرورة الاتساق العلمي؛ لحساب الجانب الدعائي/ الحشدي المتحول إلى "وعي زائف".

الأفكار المؤدلجة لا بد أن تكون مشحونة بالعاطفي، ومن حيث هي كذلك فلا بد أن تنطوي على مغالطات، وربما افتراءات يمليها الاختراق العاطفي للعلمي/ للأفكار المجردة ابتداء، كما لا بد لها من جرعة خيال قادر على تسعير المشاعر لتوفير الحشد من أجل التغيير أو التثبيت، هذا التغيير/التثبيت الذي يتغيا الوصول إلى "طوبى" ما، تتجاوز بؤس اللحظة الراهنة التي تخاطبها. ولأنها تتضمن كل ذلك، فهي لا تسعى لـ"الفهم"/ لكشف الحقائق (حيث الفهم وظيفة العلم حصرا)؛ بقدر ما تسعى لتأطير المواقف وتوجيهها للهدف الذي تشكلت وانتظمت واشتغلت ـ فعلا وتفاعلا ـ من أجله أساسا.

إذن، بينما العلم بحياده الموضوعي يهتم بالحق/ الحقيقة؛ تهتم الأيديولوجية بالمواقف؛ بصرف النظر عن الحق والحقيقة. وكلما تضخّمت الأيديولوجيا من حيث زخمها الفكري والعاطفي، وأيضا من حيث ضخامة العدد المنخرط فيها، أو المتعاطف معها، أو حتى العدد المستهدف بدعايتها؛ ازدادت مكونات الأدلجة على حساب المُكوّن الفكري، أي ازداد مستوى العاطفة والخيال والتزييف ـ الواعي واللاواعي ـ والحدّة في فرز المواقف: مواقف الأتباع ومواقف الخصوم.

لقد كان عالمنا العربي/ الإسلامي منذ بدايات القرن العشرين وإلى اليوم مسرحا لكثير من التيارات الأيديولوجية التي جعلت من القيمة العلمية، بل ومن القيمة العملية، شيئا ثانويا، بل وربما هامشيا. ولعل أكبر الأيدولوجيات النافذة إلى وعي الجماهير خلال هذه الفترة تتمثل في أيديولوجيتين صاخبتين، هما: الأيديولوجية القومية، والأيديولوجية الإسلاموية، مع ما تناسل عنها من أيديولوجيات فرعية تنتهي إلى الأصل في نهاية المطاف.

الأجيال الثلاثة الماضية (120 سنة، أربعة أجيال، بينما الجيل الأول بداية القرن العشرين كان متخففا إلى حد كبير من الأيديولوجية)، كانت أجيالا مؤدلجة ـ قوميا أو إسلاميا ـ بامتياز. كان العلم ـ وما يرتبط به من تعقّل وموضوعية وحياد ـ غائبا/ مُغَيّبا؛ لحساب الشعارات الدعائية الاصطفافية. واللافت أن هذه الأجيال الثلاثة هي ذاتها أجيال الهزائم والانكسارات والفشل التنموي والصراع الأهلي الذي لا يزال قائما على نحو صريح (كما في سوريا والعراق وليبيا...) أو على نحو مضمر (كما في بعض الدول التي تعاني من قابلية عالية للانفجار الداخلي).

ربما كان مسلسل فشل الأيديولوجيات أو ما تقاطع معها هو السبب المباشر لتراجع الإغراءِ الأيديولوجي عند هذا الجيل الناشئ. مسلسل الفشل: فشل التجربة الأفغانية من أيام الانسحاب السوفياتي (الذي أوحي بانتصار أيديولوجي ما) حتى تحولت بفعل "كتائب الجهاد" إلى فضاءٍ احترابي لا يهدأ، وفقر وبؤس وتشرذم متزايد. إضافة إلى مأساة الجزائر في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين. وخواء التجربة الأصولية الإيرانية التي تحوّلت إلى مشكلة إقليمية. وانهيار العراق، ابتداء من انهيار هياكل الدولة وصولا إلى تمزّق النسيج الاجتماعي، فضلا عن الدمار شبه الكامل للأجهزة الخدميّة الضرورية؛ رغم كل الإمكانيات الهائلة. وفشل احتجاجات الغضب (الربيع العربي) التي كانت تدور رحاها ـ جماهيريا ـ على تجاذبات أيديولوجية صارخة. وتدهور الأوضاع في دول مركزية كانت محاضن للاشتغال الأيديولوجي...إلخ، كل ذلك يبدو اليوم وكأنه درس مكثف للجيل الشاب، يؤكد لهم عبث الأيديولوجيات أيا كانت مضامينها، وقد يتجاوز الأمر ذلك إلى دفعهم للكفر بالمؤسسات العامة، وفقدان الثقة بالقائمين عليها، وطرح خيار النجاة الفردية، أو شبه الفردية، إما بهجرة شعورية وانعزال في الداخل: انكفاء على الذات، وإما بهجرة كاملة إلى الخارج تدفع إليها حالة عامة من اليأس التام.

خلال السنوات العشر الماضية التقيت بكثيرين، من مناطق شتى في هذا العالم العربي، من الخليج ومصر وسوريا والأردن ولبنان وتونس والمغرب. يمكنني تقسيم هؤلاء إلى شريحتين، لكل منهما موقفه الواضح من الأيديولوجية، وبالتالي، من القضايا العامة ذات البعد الأممي، بل وأحيانا الوطني. ما لاحظته أن من هم دون سن الثلاثين عاما هم ـ في الغالب الأعم ـ غير مؤدلجين، غير مهتمين بما هو خارج ذواتهم، بل غير مهتمين بالشأن العام حتى داخل أوطانهم. وعلى الطرف المقابل، من هم في الأربعينيات فما فوق، هم مؤدلجون في الغالب الأعم، ومهتمون اهتماما بالغا بالشأن العام، ومنه الشأن الأممي: العربي والإسلامي.

وفي إطار ذلك لاحظت أن مستوى الاهتمام الأيديولوجي يتضاءل ـ حد التلاشي ـ كلما صغرت الأعمار، بينما يتصاعد هذا الاهتمام، ويصبح معبرا عن مواقف واضحة وحاسمة؛ كلما كانت الأعمار أكبر؛ نسبة وتناسبا. هذا في سياق المؤشر العام؛ بعيدا عن الحالات الفردية الاستثنائية. ولا شك أن هذا يختلف عما كان سائدا قبل عشرين أو ثلاثين عاما، فآنذاك، كان الشاب يبدأ مؤدلجا أشد ما تكون الأدلجة، ممتلئا بالحماس للقضايا الوطنية والأممية، ولكن مع مرور السنين تبدأ جذوة حماسه تخبو، ومواقفه الأيديولوجية تتضاءل؛ نتيجة تتابع التجارب المحبطة من جهة، ونتيجة ارتباطه وجدانيا وعمليا (بعد أن يكون تحوّل إلى رب أسرة، يشتغل على مدار الساعة بمسؤولياته المباشرة عنها) بالخاص/ الذاتي والعملي من جهة أخرى.

القضايا الكبرى التي كانت تملأ حياة الجيل السابق والذي قبله، لم يعد لها موقع من الإعراب في وعي هذا الجيل. السؤال الصارم والحارق الذي يطرحه الشاب اليوم: كيف يمكن أن أعيش على نحو لائق، وأستمتع بحياتي قدر الإمكان، موفور الحرية والحقوق والكرامة؟ جيل اليوم يبدو "عمليا" بدرجة مستفزة؛ حيث لا يسأل عن المكان، ولا عن المؤسسة، ولا عن اختراق الانتماءات، ولا عن ارتباط خياره هذا ـ بالتضاد أو بالتعاضد ـ مع مسائل مصيرية عامة داخل إطاره الانتمائي العام.

هذا هو وضع الشريحة الكبرى، هذه هي الصورة العامة. لكن، لا يعني هذا أن الحراك القومي أو الإسلامي في صورته العلنية أو المضمرة، لم يعد له مريدين من هذا الجيل، بل المراد أن الغالبية من أبناء هذا الجيل لم تعد تحفل بمثل هذا الحراك، بل وكثيرا ما تسخر من شعاراته التي كانت ذات يوم مقدسة؛ حتى لا يستطيع أحد أن يتصادم معها علانية؛ إلا على سبيل الانتحار المعنوي.

طبعا، قد يعترض معترض بأن ثمة أيديولوجيات بديلة أصبحت ذات جماهيرية لا بأس بها، كالأيديولوجية الليبرالية مثلا. هذا صحيح إلى حد كبير؛ مع الأخذ في الاعتبار أن الليبرالية كأيديولوجيا مُتحلّلة من كثير من أعطاب الأيديولوجيات المنغلقة على يقينياتها/ حقائقها المطلقة أو شبه المطلقة/ ثوابتها، وبالتالي، فهي/ الليبرالية مفتوحة على فضاءات تأويلية وتطبيقية واسعة، كما أنها بضرورة ذلك، وبضرورة انتهاجا سبيل النقد الذاتي؛ دائمة التحوّل، وبعيدة تماما عن تأطير الأتباع في حدود خيارات ضيقة تلتهم أعمارهم، ولا يخرجون منها بطائل.

أخيرا، هناك سؤال مقلق لا بد من طرحه في هذا السياق، وهو: هل التحلل التام من الأيديولوجيا (من حيث هي ـ بكل مستوياتها، وبكل حالاتها: إيجابية أو سلبية ـ، أي التحلل في النهاية من الاهتمام بالشأن العام، والانكفاء على المصالح الفردية المباشرة)، أمر مطلوب لتجاوز تجارب مئة عام من الفشل (الفشل الذي يُرْجِعه كثيرون إلى الاهتمام بأهداف أممية/ وطنية كبرى)، أم أن حالة التحلل هذه تُعَبِّر عن حالةِ أنانيةٍ مُتنامية، ذات طابع عدمي في عمقها، من شأنها ـ إذا ما اتسع نطاقها ـ أن تقود مجتمعاتنا إلى مزيد من الفشل في مستقبل الأيام؟!

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*