عمران سلمان:
الإصلاح الديني في المنطقة العربية لم يثمر الكثير، رغم الجهود الكبيرة التي بذلت فيه على مر السنين، ورغم المعارك الضارية التي خيضت من أجله والتنازلات الفكرية التي قدمت في سبيله.
فمع ولادة كل موجة إصلاح، كانت تلد معها جنبا إلى جنب موجة أخرى معاكسة تعيد الاعتبار للمعاني القديمة للنص وللفقه وللتراث الإسلامي، كما لو أننا ندور في حلقة مفرغة.
يصدق ذلك على عصر المعتزلة والأشاعرة ويصدق على ما بات يعرف بعصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والذي ظهرت معه حركة الإخوان والتيارات السلفية.
والسبب في ذلك باعتقادي هو أن الإصلاح الديني وكذلك النكوص عليه، إنما يجريان في نفس البحيرة، ويغرفان من نفس المنبع، فلا يمكن توقع نتائج مختلفة.
والحل هو بالخروج من هذه البحيرة، عبر الفصل بين أفكار الإنسان واعتقاداته وإيمانه الديني (وهي أمور خاصة) وبين الإنسان كمواطن وكفرد (وهي أمور عامة) في دولة تجمعه مع غيره من المواطنين والأفراد، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
فكرة نقل الإنسان من حيز المؤمن والرعية إلى حيز الفرد والمواطنة، هي جوهر الإصلاح الواقعي والمطلوب اليوم والذي يدعمه التطور البشري والحضاري الذي نعيشه.
وأول خطوة على هذا السبيل هي حل قضية علاقة الدين بالدولة.
ولكي نحل هذه الإشكالية علينا أن نحدد ما إذا كانت الدولة العربية اليوم هي دولة دينية أم دولة مدنية؟
للأسف فإن الدولة العربية الحالية هي مثل البغل، لا هي حصان ولا هي حمار. فهي من جهة تتخذ لها هوية دينية وقومية - الإسلام والعروبة، وهي من جهة أخرى تزعم أنها دولة مدنية بقوانين ومؤسسات حديثة!
هي تقول بأن دينها هو الإسلام، ما يجعل أتباع الأديان والاعتقادات الأخرى أو من لا دين لهم تلقائيا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.
هي موقعة على المعاهدات والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان ومناهضة التمييز ضد المرأة وحماية الطفل، لكن قوانينها وممارساتها ومناهجها التعليمية وخطابها الديني ومدارسها الفقهية تتناقض بصورة أساسية مع كل ذلك.
إن مسألة تحديد هوية الدولة هي على قدر كبير من الأهمية. لأنه في الدولة الدينية فإن الدين هو مركز الاهتمام والذي تدور حوله القوانين والمصالح.. هذا كان هو الوضع السائد في الدول الدينية القديمة، أما في الدولة المدنية فإن الإنسان هو مركز الاهتمام.
ولهذا السبب بالذات فإن القوانين في الدول الغربية مثلا تجرم الإساءة إلى الإنسان ولا تجرم الإساءة إلى اعتقادات أو أفكار هذ الإنسان. فأنت حر أن تنتقد الأديان مثلا، لكنك لست حرا في الإساءة إلى الأشخاص الذين يؤمنون بها. ومن ذلك تولدت قاعدة قانونية أخرى وهي أن حرية الرأي مكفولة ولا توجد محاسبة على الأقوال ما لم تتحول إلى أفعال أو تستبطن قابلية للتحول إلى أفعال (مثل التحريض على العنف) والتي هي موضوع تجريم.
فالقانون يحمي الإنسان باعتباره فردا له وجود وكيان محدد وباعتباره جزءا من جماعة المواطنين الذين يربطهم عقد اجتماعي مع الدولة، لكن هذا القانون لا يمكنه أن يحمي أفكار الإنسان أو اعتقاداته، لأنها شأن يخصه وحده. والدولة ليست مسؤولة عن هذه الأفكار أو الاعتقادات، وكل ما تستطيع حمايته هو ضمان حرية ممارستها والتعبير عنها.
حين نقارن ذلك مع معظم الدول العربية فسوف نجد أنها تتصرف كدول دينية وليس دولا مدنية، فهي تجرم الأقوال والأفكار والاعتقادات وهي تحاكم الناس وتدينهم وتسجنهم بموجب قوانين ازدراء الأديان أو الإساءة إلى المعتقدات وما شابه ذلك.
وهي كدول تتصرف كما يفعل رجال الدين، إذ هي تقدم نفسها حاميا للإسلام والمدافع عنه، فهي تغضب وتثور للرسوم الكارتونية وتنظم المقاطعة للبضائع وهي تنشئ مدارس لتحفيظ القرآن (ولم نسمع أنها عملت مدرسة واحدة لتحفيظ الإنجيل أو التوراة مثلا) وهي تقوم بإنشاء المراكز الإسلامية والدعوية ويسهر مسؤولوها على تطبيق الدين في الحياة العامة.
جميع هذه الأعمال تدل بصورة واضحة على أن معظم الدول العربية هي دول دينية متلفعة بلباس حديث ليس إلا، أما جوهرها فهو يقوم على نفس الأسس التي تقوم عليها الدولة الدينية.
والحال أن أي إصلاح لا بد أن ينطلق من معالجة هذه القضايا، بصورة تكفل تجريد الدولة العربية من هويتها الدينية أو أية هوية أخرى وجعلها محايدة، عبر الضغط لتغيير الدساتير وحذف ما يتعارض منها مع هذا المبدأ. أما الدين فيظل شأنا خاصا بين الإنسان وما يعتقد فيه، إن شاء أصلحه وإن شاء أبقى عليه.