بابكر فيصل:
تناولت بالنقاش في الجزء الأول من هذا المقال بعض الحيثيات التي وردت في بيان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الرافض لقرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية تصنيف الإخوان المسلمين جماعة منحرفة إرهابية، لا تمثل نهج الإسلام وتثير الفتن من أجل خدمة أهدافها الحزبية المخالفة لتعاليم الدين.
في إطار الدفاع المستميت عن الإخوان المسلمين قال بيان الاتحاد العالمي أنها جماعة معتدلة انحصر عملها في "الدعوة والجهود الإصلاحية المباركة في هذا العصر"، ولم يثبت عليها التورط في عمل إرهابي، وتحدى البيان الهيئة قائلا: "فأعطونا مثالا واحدا يكون معلوما ومحققا عندكم، قاموا فيه بتفريق جماعة المسلمين أو أوطانهم، وجعلوها شيعا".
من المؤكد أن لهيئة العلماء السعوديين الحق في الرد كما تشاء على التساؤل أعلاه، ولكن كاتب هذه السطور سيتبرع بإعطاء الاتحاد العالمي مثالا ساطعا لما ارتكبه الإخوان من جناية في حق السودان وشعبه الطيب.
حكم الإخوان السودان بالحديد والنار لثلاثين عاما، وباسم الشريعة الاسلامية قاموا بالتفريق بين أبناء الوطن الواحد، على أساس الدين وتحت رايات الجهاد والاستشهاد شنوا على الجنوبيين حربا دينية لا هوادة فيها، كانت نتيجتها تمزيق البلد، وانفصال جنوب السودان، وتكوين دولته المستقلة، فذهب نتيجة لذلك ثلث الأرض والشعب!
من ناحية أخرى، قام نظام الإخوان في السودان بإيواء واستضافة أعضاء وقيادات العديد من التنظيمات المتطرفة، من بينها حركتا الجهاد والجماعة الإسلامية المصرية، فضلا عن تنظيم القاعدة ممثلا في زعيمه، أسامة بن لادن، ونائبه، أيمن الظواهري، وغيرهم، ونتيجة لذلك تم وضع إسم البلد في القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب لمدة 27 عاما، كما طبقت ضده عددا من العقوبات الاقتصادية دفع الشعب السوداني ثمنها غاليا.
ليس هذا فحسب، بل إن الإخوان أقاموا دولة تسلطية قمعية، وشيدوا نظاما زبائنيا فاسدا، قتل الأبرياء في زنازين السجون ومعتقلات أجهزة الأمن سيئة الصيت المعروفة بإسم "بيوت الأشباح"، ومزق النسيج الإجتماعي بتأجيج الصراعات القبلية، وطبق قوانين إنتقصت من حقوق الإنسان، وحطت من كرامته، كما قام بتخطيط وتنفيذ استراتيجية التمكين السياسي، التي احتكرت موارد البلد وجهاز الدولة للموالين للنظام من دون غيرهم.
وجَّه بيان الاتحاد العالمي لوما شديدا لهيئة علماء السعودية جاء فيه: (كنا ننتظر منكم أن تهبوا وتتدخلوا لوقف المجازر التي يتعرض لها الأبرياء الفضلاء، من العلماء والدعاة والمفكرين والمثقفين في بلدكم وفي مصر والإمارات وغيرها.. مات منهم من مات تحت التعذيب، وما زال منهم من يعذبون في غياهب المعتقلات، ومنهم من يتعرضون للقتل البطيء.. وأنتم فرحون بمناصبكم ورواتبكم وقصوركم وموائدكم).
إن أكثر ما يدعو للدهشة في الحديث أعلاه هو أن الاتحاد العالمي منذ تأسيسه لم يكتب سطرا واحدا في إدانة سجل حقوق الإنسان المخزي لنظام الإخوان في السودان، فقد ظل صامتا عن المطالبة بتفريغ السجون ومعتقلات الأجهزة الأمنية السرية من سجناء الرأي والمعتقلين السياسيين، كما أن الله لم يفتح عليه بكلمة واحدة في مناصحة الطاغية المخلوع وزبانيته حول الجرائم التي إرتكبوها في إقليم دارفور، والتى راح ضحيتها أكثر من 300 ألف شخص.
ليس هذا فحسب، بل ظل الاتحاد يقدم دعمه المطلق للطاغية المجرم عبر البيانات والزيارات المستمرة للسودان، حيث كانت وفود الاتحاد تجد ترحيبا كبيرا من رأس النظام الاستبدادي وجماعة الإخوان، ويتم استضافتها في أفخم الفنادق، ويغدقون عليها الهدايا بينما غالبية الشعب الساحقة تعاني من ويلات الفقر والمرض والحروب.
ويمضي بيان الاتحاد العالمي في إنتقاده لهيئة علماء السعودية قائلا (وأن من المعلوم في الإسلام بداهة أن طاعة أولي الأمر مقيدة بالمعروف وبما ليس فيه معصية)، وأضاف (نلفت الانتباه إلى أن حرمات المسلمين معظمة عند الله، ومحفوظة في شرع الله، وأن من يقع فيها ويسيء إليها بالإفك والبهتان، وبغير حجة ولا برهان، فإنما يوقع نفسه في خطر عظيم، ويعرضها لحساب شديد).
مما يدعو للأسف أن الاتحاد العالمي لم يعمل بالكلام أعلاه في إطار علاقته مع نظام الإخوان في السودان. فبينما كان رصاص مليشيات النظام الإخواني يحصد أرواح الشباب المتظاهرين، وكانت المعتقلات تضج بآلاف المعارضين أبان الثورة الشعبية العارمة التي اندلعت في ديسمبر 2018، لم يتبرع الاتحاد العالمي بمناشدة شرفاء العسكر أو الشرطة، للقيام بواجبهم في حماية الشعب الأعزل، والدفاع عنه في سعيه لتحقيق مطالبه العادلة والمشروعة.
كذلك لم يوجه الاتحاد رسالة مباشرة وواضحة للطاغية المخلوع، وأركان نظامه يقول لهم فيها إن الاعتداء على المتظاهرين "المسلمين" السلميين حرام شرعا، وإن الطاعة لا تجوز في هذا الأمر، لأنها تعتبر خروجا عن المعروف!
أيضا إنتقد الاتحاد العالمي تماهي هيئة علماء السعودية مع السلطان وقال: (ومن نتائج استسلامكم التام وطاعتكم المطلقة للقرار السياسي، مهما كان ظلمه وعبثيته، أنكم لم تعودوا قادرين نهائيا على قولِ معروف أو إنكار منكر، إلا بإيعاز من "الجهات المختصة"، فهي مرجعيتكم في معرفة الحق من الباطل والمعروف من المنكر، وفيما تقولون وما لا تقولون).
مرة أخرى، نجد أن الاتحاد العالمي وقع في مغالطة مكشوفة، حيث عجز في السابق عن توجيه مثل القول أعلاه لـ "هيئة علماء السودان"، وهي جسم ديني يسيطر عليه الإخوان، ويقوم بذات الدور الذي تلعبه هيئة كبار العلماء في السعودية، وقد كانت تدافع بإستماتة عن الطاغية ونظامه، عبر إصدار الفتاوى والبيانات التي تبرر كل سياساته وقراراته، حتى أن أحد شيوخها أفتى للطاغية بأن المذهب المالكي المأخوذ به في السودان يُبيح له قتل ثلث المواطنين المتظاهرين ليعيش البقية بعزة وكرامة!
من الجلي أن ما صدر عن الإتحاد العالمي من نقد لقرار هيئة العلماء السعودية حول تصنيف تنظيم الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، كشف عن تناقضات أساسية في مواقفه تتمثل في استخدامه معايير مزدوجة في التعاطي مع الأمور المبدئية، مثل قضية الحريات، كما يعكس تحيزه الأيدلوجي لجماعة الإخوان، عبر توظيف الخطاب الديني من أجل خدمة الأهداف السياسية.