محمد أبو عرب:
يجتهد العقل الإسلامي الأصولي في هدم الصورة البشرية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يتوقف عن موارة ما يؤكد بشريته، ويكشف عواطفه ونزعاته الإنسانية، في محاولة لتقديم نموذج خالص منزّه عن السمات البشرية للنبي. فتغيّب الروايات التي ذُكرت عن سلوكه البشري، ويشكك في مجمل ما صح عنه، للحد الذي باتت صورة النبي اليوم هي كل ما جاء به الوحي، وأنزله القرآن الكريم وفق تفسيراتهم. واحدة من هذه الصور التي اشتغل عليها العقل السلفي بمرجعياته المتزمتة، علاقة النبي محمد بالنساء، وسيرة عشقه لزوجاته والنساء اللواتي مررن بحياته. إذ تحورت حكايات النبي مع النساء إلى سياقات جديدة، منزوعة من سياقها المنطقي، والإنساني الغارق في الحقيقة البشرية ونوازعها، وعواطفها، لتصبح مجرد أحكام إلهية، وسلسلة من الأوامر والنواهي. لكن الباحث في سيرة الحب والنساء في حياة النبي، يجد الكثير من الحكايات التي تتفق مع حقيقته، التي كان فيها الرسول بشرياً، يقوده قلبه مثل سائر البشر. فمرة يقع في حب امرأة، ويعصم نفسه عنها، ومرة يكشف ولهه بإحدى زوجاته، وأخرى ينظر في حال عاشق أهلكه عشقه وأفسد عقله. لا يبدو اشتغال العقل الأصولي على هذا الجانب من سيرة النبي سوى واحد من الاشتغالات الكثيرة لتحويل الإسلام إلى منظومة قاسية خالية من النزعات البشرية ومحكومة بالفعل الإلهي الصارم.
تقدم السيرة النبوية والحكايات التاريخية، على رغم الشك في جدارة صحتها وفق المنظور التاريخي الحديث، صورة مغايرة للنبي، يتجلى بعضها بآيات من القرآن الكريم، وأخرى في الأحاديث النبويّة. إضافة إلى كل ما روي عن الرسول على لسان أصحابه، وزوجاته. فيقف المعاين لسيرة ابن اسحاق في كتابه المغازي، وما قدمه ابن هشام، إضافة إلى الصحاح (مسلم والبخاري)، أمام أكثر تجليات النبي البشري المعايش لأحوال قومه، والممتثل لحقيقته الإنسانية، بكل ما تمليه فطرته، وتجره نوازعه، وتقوده نفسه.
كيف نظر النبي للعاشق الذي أنهكه العشق؟
يؤكد ذلك ما ترويه حكاية بريرة، الأمة (العبدة) التي زوجها سيدها من عبد رقيق اسمه مغيث، إذ حين اشترتها عائشة وأعتقتها، صار من حقها فسخ الزواج أو إقراره. فاختارت الأمة الفسخ، ولكن الزوج السيئ الحظ كان يحبها. فروي عن ابن عباس قوله: "كأنني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليم وسلم لعباس: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث لبريرة، ومن بغض بريرة لمغيث؟ وقال النبي لبريرة: "لو راجعته! فقالت: يا رسول الله أتأمرني؟ قال: إنما أنا أشفع، قالت: فلا حاجة لي فيه".
ينظر النبي في حال عاشق، ويشفع له عند المرأة التي أحبها، ليفتح الباب كاملاً على مفهوم الحب بكل تجلياته، وينظر في الضعف الإنساني تجاه عواطفه، جاعلاً العلاقة بين الرجل والمرأة محلاً للنقاش. في الوقت الذي يحول العقل الأصولي هذه النزعة البشرية (الحب) إلى واحدة من سقطات الإنسان، التي يجب أن يترفع عنه، ويمحو آثارها.
هل تزوج الرسول من دون أن يقع في الحب؟
يظهر هذا في ما يقدمه الرواة عن زواج النبي المتعدد، إذ لا ترد حكايات واضحة المعالم عن حب النبي محمد لزوجاته قبل الزواج، أو حتى اعجابه بهن. فيتوقفون عند زواجه من خديجة بصورة آلية، تخلو من أي شرط إنساني تحضر فيه المشاعر البشرية، ولا يمتثل إلا للعقد الرسمي للزواج، جاعلين من طلب خديجة الزواج بالنبي قائم لأغراض نفعية، لها علاقة بالتجارة، وحماية أملاك المرأة التي عرفت بغناها، وحكمتها، ومكانتها بين قومها. متناسين أن خديجة كانت تزوجت مرتين قبل النبي، ولم تكن أمانة النبي وحدها ما دفعتها للإعجاب به. يروي ذلك ابن اسحاق، وإبن هشام، وكل من أخذ عنهما في كتابتهم للسيرة، فتسرد الحكاية ما نصه لابن اسحاق: "كانت أول امرأة تزوجها الرسول خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وتزوجت خديجة قبل الرسول، وهي بكر، عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فولدت له امرأة ثم هلك عنها، فتزوجها بعده أبو هالة النباشي بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم، حليف بني عبد الدار، فولدت له رجلاً وامرأة، ثم هلك عنها. فتزوجها الرسول فولدت له بناته الأربع: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة. وولدت بعد البنات: القاسم، والطاهر، والطيب، فذهب الغلمة جميعاً وهم يرضعون". ويروي ابن هشام ما نصه: "كانت خديجة امرأَة حازِمة شرِيفة لبيبة، مع ما أراد اللّه بها من كرامته، فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليهِ وسلّم، فقالت له- فيما يزعمون- يا بن عمِّ. إنّي قد رغبت فيك لقرابتك، وسطتك في قومك وأَمانتك وحسنِ خلقك، وصدق حديثك، ثم عرضت عليه نفسها. وكانت خديجة يومئذ أَوسط نساء قريش نسباً، وأعظمهن شرفاً، وأكثرهن مالاً، كل قومها كان حرِيصاً على ذلك منها لو يقدر عليه".
تنطبق اشتراطات الحكاية نفسها في سرد سيرة زواج النبي من سائر زوجاته، فيذكر أن النبي حزن على وفاة أم المؤمنين خديجة، إذ كانت تؤويه وتنصره، وتعينه وتقف إلى جانبه، حتى سمي ذلك العام الذي توفيت فيه بعام الحزن. ثم بعدها سودة، وكانت مسنة، ولم تكن ذات جمال، وإنما تزوجها مواساة لها. وكان عمره فوق الخمسين، فيرد أنه رأى رؤيا في زواجه منها. فقد ثبت في البخاري من حديث عائشة أن النبي قال لها: "رأيتك في المنام مرتين، أرى أنك في سرقة من حرير ويقال: هذه امرأتك، فاكشف عنها، فإذا هي أنت، فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه". تشير مجمل الحكايات إلى أن النبي محمد لم يكن يملك من المشاعر التي تجعله ميالاً لاختيار زوجته التي يحبها، وليس التي ينتفع منها وتعيله، أو يعيلها. لكن الحكايات المقابلة لذلك تروي حكايات مغايرة بالكامل، تكشف عواطف النبي، وميله إلى النساء مثله مثل سائر البشر. ففي حديث يقدمه ابن الجوزي، يروي فيه أن النبي رأى امرأة فأعجبته، فأتى زينب فقضى منها حاجته، وقال: "إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته فليأت أهله، فإن ذلك يرد مما في نفسه".
من هي التي وقعت في نفس النبي وطلقها زوجها لتصبح أم المؤمنين؟
ليس ذلك وحده ما يؤكد عواطف النبي ونوازعه البشرية. فالحكاية الإشكالية التي ترد في زواجه من زوجة ابنه بالتبني زيد ابن ابيه (زينب)، تكشف جانباً أكثر موثوقية. إذ لا ترد في السير والروايات التاريخية، التي يتنازع الفقهاء على صدقتها، إنما يرد ما يؤكدها في النص القرآني، الذي لم يسلم حتى من التفسيرات المتناسبة مع العقلية الأصولية. فأصبح النص الواضح بمعناه، مؤولاً، فيُبقي على الصورة الملائكية للنبي محمد. تسرد حكاية زواج النبي من زينب بنت جحش وفق ابن اسحاق: "مرض زيد بن حارثة فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وزينب ابنة جحش امرأته جالسة عند رأس زيد، فقامت زينب لبعض شأنها، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طأطأ رأسه فقال: سبحان اللَّه مقلب القلوب والإبصار، فقال زيد: أطلقها لك يا رسول الله؟ فقال: لا، فانزل اللَّه عز وجل: «وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ» إلى قوله: "وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا". تشير الآية والحكاية بتعدد رواياتها، إلى أن زوجة زيد وقعت في نفس النبي، وليس كما يروي الأصوليون أن حكم زواجه منها كان لنفي حكم التبني في الإسلام. فالنص القرآني في سورة الأحزاب، يقول: "وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا". يحق للمعاين للآية أن يتساءل ما الذي يخفيه النبي في نفسه، ويظهره الله، ويحق له التساؤل ما الذي جعل الرسول يقول لدى رؤيته لزينب: "سبحان مقلب القلوب". ويحق له التساؤل كذلك، ما الشكل واللباس الذي خرجت به زينب على الرسول لتجعله يرى ما فيها من حسن؟ وما هو شكل التصالح المتصوف الذي يجعل من زيد يتخلى عن زوجته، بعد جملة النبي مباشرة، وهي زوجته التي كان له معها ما كان من عشرة؟
التفاصيل الحميمة لحياة الرسول الزوجية، لماذا رواها الرواة؟
ليس ذلك وحده ما يكشف جانباً من سيرة الحب في حياة الرسول وعشقه للنساء، فالروايات التي ترد على لسان زوجاته، تؤكد كل هذه التجليات الواضحة، إذ تروي عائشة في صحيح مسلم: "كنت أشرب فأناول النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيّ، واتعرق العرق فيضع فاه على موضع فيّ". وتقول: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض"، وغيرها الكثير من الروايات عن ممارسات النبي محمد وأنماط تعبيره عن حبه. سيقول الكثيرون إن ذلك كله قائم في سيرة الرسول مع زوجاته، وهذا يحل له، ولا يخدش من صورته الملائكية. لكن السؤال الذي يعيد الإجابات إلى سياقها الأصيل، ما الذي يدفع زوجات النبي للحديث عن هذه الجزئيات الدقيقة في علاقتهن الزوجية مع النبي، وهي اليوم تكاد يكون البوح فيها مرفوضاً؟ وما الذي يجعل لتلك الروايات وزناً لترد في الصحاح؟ وأي صورة للنبي تلك التي كانت تجعل تفاصيل حياته محل نقاش بين قومه وهو النبي المنزّه؟
رصيف 22