طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي - مقالات
أحدث المقالات

طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي

طه حسين وكتابه في الشعر الجاهلي

سمير درويش:

 

عاش طه حسين 84 عاماً (1889-1973) أصدر خلالها عشرات الكتب المتنوعة في مجالات الفكر، والفكر الديني، والنقد الأدبي، ولكن أكثرها إثارة للجدل كان كتاب "في الشعر الجاهلي" الذي أصدره عام 1926 وكان عمره حينذاك حوالي 36 عاماً.

الجدل الذي أحدثه طه حسين سبق إصدار كتابه المثير لسجالات لم تهدأ حتى اليوم بأكثر من عشر سنوات، حين وجّه شيخ الأزهر بعدم إعطائه شهادة العالمية من الأزهر، فاتّجه إلى الجامعة المصرية وحصل منها على الدكتوراه الأولى عن أبي العلاء المعري، ثم حصل على الدكتوراه الثانية من جامعات فرنسا عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون، وأثناء دراسته أثار جدلاً كذلك، ما دفع بعض أعضاء البرلمانإلى اتهامه بالزندقة، وكادت منحته تلغى لولا تدخل السلطان حسين كامل بنفسه كي يكمل رحلته العلمية.

منهج طه حسين

إذا تجاوز الباحث كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، وأراد تتبع أثر كتاباته في الفكر الديني عموماً، سيجد أنه تدرّج من منهج "تغليب روايات تراثية على أخرى"، مستنداً إلى ما ورد في كتب التراث حول الحادثة الواحدة، كما في كتابه "الشيخان" عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وكتابيه المرجعين عن الفتنة الكبرى "عثمان" و"علي وبنوه"، إلى أن وصل إلى قناعة فحواها أن "عامة المسلمين" يقتنعون بما ورد في كتب التراث، من سير وأحاديث مع ما فيها من شطط وأنباء غير معقولة تجافي العقل، فقرر أن يتعامل مع كتاب السيرة النبوية لابن هشام (وهو كتاب ابن إسحاق في الأصل) باعتباره ملحمة عربية، وأن يكتب عملاً أدبيّاً مستفيداً منه، فكان كتابه "على هامش السيرة".

والغريب أن القراء تعاملوا مع الكتاب باعتباره كتاب تاريخ، بالرغم من أن عنوانه "على هامش" يدل دلالة واضحة على أنه استفادة أدبية من كتاب السيرة، بل إنه قال ذلك صراحة في مقدمته: "هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمي، فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة، واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها، ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها، ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على النفس حين تشق عليهم الحياة. وفرقٌ عظيم بين مَن يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل على أنها حقائق يقرها العلم وتستقيم لها مناهج البحث، ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش".

طه حسين، إذن، ينفي في مقدمة "على هامش السيرة" اطمئنان العقل إلى الروايات التي وردت في الكتاب، وإنما أقدم على كتابتها مخاطباً "قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة".

والحقيقة أن هذا الدرب من دروب التفكير، أقصد إراحة الدماغ، ليس جديداً في فكر الرجل. فحين أحيل على التحقيق في أزمة كتاب "في الشعر الجاهلي" قرر أن يُسمِعَ المحقق "محمد نور" ما يريد أن يسمعه، لا ما يؤمن به طه حسين بالفعل.

وقال في مقدمة "الشعر الجاهلي" صراحة: "ولست أتمدح بأني أحب أن أتعرض للأذى. وربما كان الحق أني أحب الحياة الهادئة المطمئنة وأريد أن أتذوق لذات العيش في دعة ورضا". لذلك ذكر المحقق في مذكرته أن المؤلف (طه حسين) أنكر "في التحقيقات أنه يريد الطعن على الدين الإسلامي، وقال إنه ذكر ما ذكر في سبيل البحث العلمي وخدمة العلم لا غير، غير مقيد بشيء". وبهذا يقدّم طه حسين واحدة من غرائب التفكير: أن تكون مؤمناً بالإسلام في نفسك لأنك تنتمي إليه، وأن تشكك في رواياته، في الوقت ذاته، لدواعي البحث العلمي وتطبيق النظريات الحديثة.

وقد وجد المحقق في هذه "التلفيقة" مخرجاً معقولاً لحفظ التحقيق، ربما لأن ثمة تعليمات بحفظه، أو لشيء آخر سوى المنطق، خاصة أن مذكرة التحقيق نفسها تدين طه حسين في أكثر من موضع، لكنها تبرئه، مع ذلك، بحجة أن خروجاته، وإنكاره للمعلوم، من وجهة نظر المحقق بالطبع، ومن وجهة نظر مقدمي الشكوى، تُعَدّ ضرورة من ضرورات البحث العلمي.

قراءة ديكارتية للتراث

أعمل طه حسين عقله، ومنطق الشك الديكارتي الذي اقتنع به، في حدود الروايات التراثية، ففاضل بينها في "الشيحان" و"الفتنة الكبرى"، واختار من الروايات أقربها للمنطق كما يفهمه، بل وذهب أبعد في تمثل السيرة النبوية في عمل قال إنه "أدبي"، فنال رضى المتدينين، بل وتحولت روايته "للسيرة" إلى مسلسلات تلفزيونية، احتفى بها التلفزيون الرسمي الحكومي، ولم يعترض عليها المتدينون.

طه حسين لم يكن المفكر الوحيد الذي كتب في الشأن الإسلامي، رغم أنه أزهري في الأساس، وإنما فعل ذلك عدد كبير من الأدباء والمثقفين في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، مثل "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل، وعبقريات العقاد. وبعض هذه الكتابات لم تخلُ من مراجعات فكرية، وإعمال العقل في بعض الروايات التراثية، ورفض قبول بعضها لأنه يجافي المنطق ويخاصم العقل السوي. إذاً، لماذا وضع الإسلاميون، العاملون في الشأن الإسلامي من أزهريين وغيرهم، طه حسين على رأس قائمة "أعداء الإسلام"، إلى درجة اتهامه بالزندقة والكفر؟

الإجابة هذا السؤال تنبع أساساً من كون طه حسين أزهريّاً، أي يقف على الأرضية نفسها التي يقف عليها مدّعو امتلاك العلم، كما أنه أثار مشكلات كثيرة، علمية وشخصية، أيام دراسته في الأزهر، ما استعدى أساتذته ضده. وربما كان يتعالى عليهم بعلمه الأوفر، وقدرته الأعلى على التحليل والاستنتاج والبحث, لذلك ربما وجدوا في كتابه "في الشعر الجاهلي" فرصة للهجوم عليه والنيل منه.

هكذا، رفع شيخ الأزهر وقتها الشيخ أبو الفضل الجيزاوي بتاريخ الخامس من حزيران/ يونيو 1926 إلى النائب العمومي خطاباً يتضمّن تقريراً رفعه علماء الجامع الأزهر عن كتاب "في الشعر الجاهلي" المدرس في الجامعة المصرية، "كذب فيه القرآن صراحة"، حسبما جاء في مذكرة وكيل النائب العام محمد نور.

انطلق معادو طه حسين في عدائهم له من منطلقين أحدهما شكلي والآخر موضوعي.

شكليّاً اعتمد طه حسين في كتابه على نظرية الشك عند ديكارت، وهذا يعني عند التطبيق ألا تعلو فكرة فوق أخرى من حيث المبدأ، ولا تكون فكرة بذاتها مقدسة لأنها انتقلت لنا عبر الأجيال وأنتجها الأقدمون، بل يكون الحُكم للعقل، العقل فقط دون سواه.

فقد قال في مقدمة الكتاب: "وليس حظ هذا المذهب منتهياً عند هذا الحد، بل هو يجاوزه إلى حدود أخرى أبعد منه مدى وأعظم أثراً. فهم قد ينتهون إلى تغيير التاريخ أو ما اتفق الناس على أنه تاريخ. وهم قد ينتهون إلى الشك في أشياء لم يكن يباح الشك فيها. وهم بين اثنين: إما أن يجحدوا أنفسهم ويجحدوا العلم وحقوقه فيريحوا ويستريحوا، وإما أن يعرفوا لأنفسهم حقَّها ويؤدوا للعلم واجبه، فيتعرضوا لما ينبغي أن يتعرض له العلماء من الأذى ويحتملوا ما ينبغي أن يتعرض له العلماء من سخط الساخطين".

مبدأ الشك في الراسخ هذا، ونزع القداسة عن المقدس، ما كان ليعجب أساتذة مادة الدين في الأزهر وفي غيره، ممَّن سلّموا بالمستقر وآمنوا به، واعتقدوا اعتقاداً جازماً بفضل الأولين وعلوهم، وبتفوقهم على المتأخرين، لأنه أتيحت لهم ميزة لم تُتح لغيرهم، وهي قربهم من عصر النبي والصحابة، وبالتالي توفرت لهم من الأخبار والحكايات ما لم يتوفر للمتأخرين.

أما من حيث الموضوع، فالأمر لا يقل خطورة، فالشك في الشعر الجاهلي لا يقف عند نفي أن هذا الشاعر قال هذا الشعر الذي ينسب إليه أو لم يقله، فلو توقف الأمر عند ذلك لكان هيناً، ولكن طه حسين أراد ما هو أبعد وأعمق، وهو الشك في تفسيرات القرآن التي اعتمدت على الشعر الجاهلي، من حيث معاني المفردات. فالعرب لجأوا إلى الشعر لتفسير ما غمض عليهم من كلمات القرآن التي لم تكن معروفة لهم، وإذ بطه حسين يأتي في كتابه ليقول إن هذا الشعر لم يسبق نزول القرآن بل تلاه، وبالتالي لا يُعَدّ مفسراً له، فلا نفسر القرآن بالشعر، بل نفسر الشعر بالقرآن، الذي هو أكثر تعبيراً عن حياة العرب في تلك المنطقة وفي ذلك الزمن.

يقول في مقدمة كتابه: "فسينتهي بنا هذا البحث إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى امرئ القيس أو إلى الأعشي أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء الشعراء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن. نعم! وسينتهي بنا هذا المبحث إلى نتيجة غريبة، وهي أنه لا ينبغي أن يستشهد بهذا الشعر على تفسير القرآن وتأويل الحديث، وإنما ينبغي أن يستشهد بالقرآن والحديث على تفسير هذا الشعر وتأويله، أريد أن أقول إن هذه الأشعار لا تثبت شيئاً ولا تدل على شيء ولا ينبغي أن تُتخذ وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث. فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعاً ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه".

يبيّن هذا لماذا ثارت ثائرة الإسلاميين ضد طه حسين وكتابه. ليس لأنه أراد أن يُعمل عقله في التراث المنقول، كما فعل في الشيخان والفتنة الكبرى، وكما فعل بعض معاصريه في كتبهم التي ناقشت الفكر الإسلامي والتراث والسيرة النبوية، بل لأنه نسف، إلى حد بعيد، قسماً كبيراً من كتابات المفسرين القدماء، بل واتهمهم بانتحال الشعر ونسبه إلى الشعراء الجاهليين كي يمرروا تفسيرات تناسب هواهم للنصوص المقدسة من قرآن وسنة نبوية.

ومن شأن هذا الرأي، بالقطع، أن يثير الناقلين الذين استراحوا إلى المنقول وحفظوه وأعملوا جهودهم في توصيله إلى الأجيال التالية، هؤلاء الذين توقع طه حسين نفسه أن كتابه سيستفزهم.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث