استيقظت فرنسا متأخرة، وليس واضحاً إذا ما كانت متأخرة أكثر مما ينبغي. فبعد نحو شهرين من قطع رأس المعلم الفرنسي صموئيل بيتي، وبعد خمس سنوات من الهجمة الإجرامية على أسرة تحرير المجلة الهزلية “شارلي إيبدو”، وبعد عشرات وربما مئات عمليات الإرهاب الإسلامية في أرجاء فرنسا – والكثير منها ضد اليهود – قرر الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته القيام بالواجب الأول على كل حكومة؛ أي الحفاظ على أمن مواطنيها، سواء من خلال استخدام نشط للشرطة أم من خلال التشريع.
القانون الموجود الآن في مراحل التشريع البرلماني وإن كان يسمى باللغة النقية “قانون تعزيز مبادئ الجمهورية”، فهدفه الواضح هو مكافحة ما وصفه الرئيس ماكرون بـ”الانعزالية” الإسلامية؛ أي الظاهرة المتزايدة لدى الأقلية الإسلامية التي تتصرف كدولة داخل دولة وتكفر بالقواعد والمبادئ التي توجه الجمهورية الفرنسية. ولا تكفر بالقواعد فقط، بل وتحاول اخضاعها بطرق عنيفة. إن حجم الأقلية الإسلامية في فرنسا يقدر بين 5.7 في المئة وضعف هذه النسبة، وتتغذى الميول الانفصالية هذه الأيام أيضاً من الميل المنتشر في الغرب (وكذا في إسرائيل) إلى “سياسة الهويات” التي تستند إلى الميل الليبرالي لمراعاة خصوصية كل كيان قومي، إثنياً أو جماعة ثقافية، على حساب المصلحة العامة والوطنية الشاملة. وبالمناسبة، إذا لم يعدل قانون المساواة، الذي يبحث الآن بتسرع في الكنيست، فمن شأنه أن يشق الطريق إلى الانفصالية في دولة إسرائيل.
مثل الغرب بعمومه، فإن المجتمع والزعامة الفرنسيين لم يفهما في الوقت المناسب الطبيعة الحقيقية للانعزالية الإسلامية، وهكذا نشأ مربض واسع لانتشارها في أرجاء الدولة. يشدد المشرعون الفرنسيون بأن لا نية لهم للمس بحرية الدين، بل لمنع تحويل الدين إلى منصة سياسية وتآمرية. ومثلما كتب بنيامين حداد، المسؤول عن أوروبا في معهد البحث الواشنطني “المجلس الأطلسي”: “أجري ماكرون تمييزاً واضحاً بين الأغلبية الإسلامية، والأقلية الإسلامية التي هي ذات أهداف سياسية متطرفة”. ولكن السؤال اليوم هو: هل توجد في فرنسا حدود بهذا الوضوح بين الجهتين، ولا سيما أن الحديث هو عن الشبان الذين يتأثرون بالخطط الإسلامية المتطرفة في المساجد، ونتيجة لذلك انضم الآلاف منهم إلى صفوف “داعش”. سيحاول القانون معالجة ظواهر الانفصالية والانعزالية من الأساس، سواء بالنسبة لـ “التعليم من البيت” الذي من تعابيره العملية التعليم على أيدي دعاة إسلاميين، وكذا بهدف إلغاء مؤسسات المساعدة، المزعومة، التي هدفها قطع تعلق المسلمين بمؤسسات الدولة. يشدد القانون على أن المحظورات والقيود آنفة الذكر ستفرض بالقوة.
وكما تعاقب أمريكا على خطيئة العبودية، تعاقب فرنسا اليوم على خطيئة الاستعمار. فالقرار المصطنع في حينه، الذي يزعم بأن الجزائر جزء من فرنسا، وهو الوهم الذي وضع ديغول وحده، بحكمته وجسارته، حداً له، أدى إلى توطين عشرات آلاف الجزائريين (وبقدر ما من سكان المغرب وتونس أيضاً) دون صعوبة في فرنسا نفسها، وتجذروا إلى الوضع الإشكالي القائم اليوم. كثيرون من المهاجرين، ولا سيما أبناؤهم وأحفادهم، انخرطوا بالفعل بشكل كامل ومثمر في المجتمع الفرنسي، اقتصاده وثقافته. ولكن ليسوا هم الذين يقررون النبرة، بل من يفضلون تخليد وجودهم المنفصل.
تعيش فرنسا منذ الثورة في 1789 في تناقض داخلي يقترب أحياناً من الخداع الذاتي. والشعار الذي يعلو كل مبنى حكومي، “الحرية، المساواة، الأخوة” هو نوع من الشعارات مثل “يا عمال العالم اتحدوا” التي لا يوجد الكثير مما يقف خلفها. قد يكون من الصعب إيجاد شعب آخر تناسبه كلمة “الأخوة” أقل من الفرنسيين. وبالنسبة للمساواة، فإنه مثلما في كل مجتمع، ثمة متساوون أكثر ومتساوون أقل.
الثورة الفرنسية، التي وضعت حداً لطغيان واحد، خلقت طغياناً من نوع آخر، بما في ذلك تجاه اليهود الذين سعوا لمواصلة حياتهم كيهود، لكن كجزء من المجتمع الفرنسي، بخلاف ميول المسلمين الانعزالية اليوم. والخداع الذي في شعار المساواة بالنسبة لليهود تبين بكامل حدته لثيودور هرتسل في إبان محاكمة درايفوس واتسع إلى حجوم وحشية في الحرب العالمية الثانية عندما بعثت حكومة فيشي، التي أيدها معظم الشعب الفرنسي، باليهود مواليد ومواطني فرنسا إلى معسكرات الموت النازية.
ثمة بديل ليهود فرنسا اليوم، الهجرة إلى إسرائيل. ولكن، هناك صراع عنيد ينتظر عموم مواطني فرنسا ممن يريدون العيش وفقاً لتقاليدهم. وسياسة ماكرون الجديدة هي الخطوة الأولى لإعطاء النفس لهذا التطلع. فرنسا اليوم في حرب وجود ضد عدو داخلي. فهل ستتمكن منه؟
بقلم: زلمان شوفال
معاريف 22/12/2020