حاورته جنى فواز الحسن:
حامد عبد الصمد كاتب مصري ألماني وباحث في مجال العلوم السياسية والدراسات الإسلامية. له مجموعة من الكتب التي ينتقد فيها الإسلام مثل "سقوط العالم الإسلامي" و "الفاشية الإسلامية" وقد ترجمت كتبه إلى عدة لغات. يختلف معه كثيرون ويعتبرونه من المستشرقين، وتعرض لتهديدات عديدة بالقتل بسبب أفكاره ويعيش تحت حماية الشرطة الألمانية. إرفع صوتك أجرى معه هذا اللقاء.
هل تعتقد أن الإسلام يعيش أزمة في الوقت الحاضر؟
الإسلام لديه ثلاث أزمات في الوقت الحالي: أزمة مع نفسه ونصوصه، وأزمة مع المؤمنين به وفهمهم لدور الدين في المجتمع الحديث، وأزمة مع العلمانية والتعددية والحرية. فالإسلام لم يأتِ ليكون جزءاً من العالم الحديث، بل ليقود هذا العالم ويسوقه نحو الإله طوعاً أو كرهاً. والإسلام لا يقبل أن يستقي المسلمون هويتهم من مصدر آخر سواه.. فهو يطلب من المسلم أن يكون ملتصقاً بالإسلام دائماً وأن يجعله دستوره في كل قول أو فعل. وهذا يسبب أزمة للمسلمين خاصة إن أرادوا الحياة في مجتمعات غير إسلامية. أقول دائماً إن الإسلام وُلِد بعيب خلقي، ألا وهو خلط الدين بالسياسة والتشريع والحرب والاقتصاد.. هذا الخليط كان سر نجاح الإسلام وانتشاره في القرون الأولى، ولكنه أيضاً هو سر أزمة المسلمين مع العالم الحديث الآن. فالاقتصاد الحديث لم يعد يعتمد على ثقافة السبي والسطو والجزية، وإنما على الإبداع والتقنية والتعاون بين الشعوب. والقانون الحديث لم يعد يعتبر الله هو المشرع، ولكن البشر يسنون القوانين ويغيرونها حسب احتياجاتهم. والحرب لم تعد واجبا مقدسا، ولكن وسيلة للوصول لهدف سياسي أو اقتصادي لا أكثر. وهذا يضع المسلمين المتمسكين بحلم عودة الخلافة ونصر الإسلام على كل الأديان في ورطة: فهم يشعرون بالسمو الأخلاقي تجاه باقي البشر ولكنهم يشعرون بالدونية المادية تجاه نفس البشر. هناك ديناميت فكري وهو خليط من عقدة النقص وحلم غزو العالم. هذا الديناميت لا ينفجر فقط في صورة أعمال إرهابية ولكن أيضاً في صورة ابتعاد المسلمين عن باقي الأمم فكرياً وثقافياً وشعورهم المستمر بالمرارة والخصومة بل والكراهية تجاه هذا العالم!
هل ترى أن الحل يمكن أن يكون بتجديد الخطاب الديني؟
المشكلة في أطروحة إصلاح الإسلام هي أن كل فرقة من المسلمين تدعي أن الفرقة الأخرى لا تمثل الإسلام الصحيح ولا تطبقه على النحو السليم. ولكن لا توجد مجموعة واحدة – باستثناء داعش - تستطيع أن تقول لنا أين يسكن هذا الإسلام الصحيح وأين يتم تدريسه وتطبيقه حتى تستطيع المجموعات الأخرى أن تتبناه. الإسلام الصحيح مجرد افتراض يتم طرحه فقط للتنصل من كل المشاكل المحيطة بالإسلام والمشاكل التي يسببها الإسلام، أو للتنصل من أي فكر إصلاحي باتهامه بأنه يسعى إلى تقليد الغرب وطمس معالم الإسلام الصحيح. طيب أكلّم مين لو عايز أتحاور مع الإسلام الصحيح؟ مع شيوخ الأزهر في القاهرة أو مع مراجع الشيعة في قُم والنجف؟ مع مفتي السعودية أو مفتي القدس أم هيئة كبار العلماء في إندونيسيا؟ مع الإخوان أم السلفيين أم داعش أم بوكو حرام أم طالبان أم مع الإسلاميين في تركيا ومالي والصومال والفيليبين؟
تجديد الخطاب الديني ما هو إلا أكذوبة مثل أكذوبة الإسلام الصحيح: مجرد حيلة للتنصل من الاتهامات ولتحويل الانتباه عن المشكلة الحقيقية ألا وهي أن الإسلام فقد السيطرة على نفسه وفقدنا نحن السيطرة عليه وأنه لا يوجد من يمثله فبالتالي لا يوجد من يقدر على إصلاحه. الحل ثمنه غال جداً ولا يوجد سياسي ولا عالم دين واحد يقدر على دفع هذا الثمن وهو عدم إقحام الدين في شؤون إدارة الدولة والتشريع ومراقبة الأخلاق والتعليم والعلاقات الاجتماعية والعاطفية. فالسياسي يحتاج الدين ورجاله ليدعم سلطته التي تنقصها الشرعية الديمقراطية، ورجل الدين يحتاج سلطة الرقيب على المجتمع حتى لا يصبح الدين مجرد فولكلور غير مؤثر وغير مربح. أكبر دليل على فشل فكرة إصلاح الخطاب الديني في مصر هي قيام وزارة الأوقاف ببناء أكشاك داخل محطات مترو الأنفاق في القاهرة يجلس فيها أئمة ودعاة ليشرحوا للناس الدين الصحيح. في هذا العمل الساذج نرى تناقضا شديدا، فالمشكلة ليست أن الدين لا يصل للناس فهو متوفر بغزارة في المساجد والمدارس والإعلام وكافة مؤسسات الدولة. المشكلة أن الدين يحتل الفضاء العام ويسيطر على عقول الناس أكثر مما ينبغي. هذه العجرفة والسذاجة تجعل من الصعب فهم أن حل مشكلة الإسلام لا يمكن أن تأتي من داخل الإسلام نفسه ومن نفس رجال الدين ونفس الأفكار التي هي جزء من المشكلة من الأساس.
هناك العديد من المسلمين الذي عاشوا في الغرب وتأقلموا معه ونجحوا في مجتمعاتهم الجديدة. وفي المقابل هناك من قام بأعمال عنف. هل الأزمة في الجذور أو بعدم القدرة على الاندماج في المجتمعات المضيفة؟
منذ بداية التاريخ والبشر يهاجرون من مكان إلى مكان بحثاً عن حياة أفضل. وكان هناك دائما قانون غير مكتوب وهو أن المهاجرين يحترمون قوانين البلاد التي يهاجرون إليها ولا يتمردون على الأنظمة القائمة. كل المهاجرين كانوا وما زالوا يلتزمون بهذه الأعراف إلى حد بعيد، إلا بعض المسلمين الذين يحتقرون المجتمعات التي يهاجرون إليها خاصة في الغرب ويعتبرون إسلامهم بديلاً أفضل لهذه الأنظمة. الكثيرون منهم يفرون من مجتمعات دمرتها الحروب والنزاعات الطائفية والدينية، لكنهم يريدون تطبيق نفس المبادئ التي دمرت مجتمعاتهم في الغرب. هم لا يدركون أن العلمانية والقانون الوضعي وفلسفة التعليم القائمة على التجربة والفكر النقدي هي سبب تقدم ورفاهية هذه الشعوب مما جعلها تستطيع استقبال مهاجرين ولاجئين من دول أخرى. بعض المسلمين في الغرب لا يقدمون للمجتمعات التي يعيشون فيها ما يطلبونه لأنفسهم: يطلبون حرية العقيدة لكنهم لا يقبلون بها للأقليات المسلمة مثل الأحمدية والشيعة والعلويين، يطالبون الآخرين بالتسامح واحترام الإسلام لكنهم لا يحترمون معتقدات غير المسلم ولا أفكار الملحدين. يتصرفون كالأطفال الذين يطلبون الكثير ولا يقدمون شيئاً في المقابل. أضف إلى ذلك ظواهر جديدة لم يكن الغرب يعرفها إلا مع مجيء المهاجرين المسلمين، مثل تفجير ملهى ليلي أو دهس مواطنين بحافلة يقودها إرهابي أو حالات التحرش الجماعي عن طريق بعض طالبي اللجوء أو ما يعرف بجرائم الشرف. وحين ينتقد بعض الصحافيين في الغرب هذه الظواهر الخطيرة تخرج عليه الأبواق الإسلامية غاضبة وتتهمه بالإسلاموفوبيا والعنصرية. وهنا أرى مشكلتين لهم علاقة بالإسلام وهي الإنكار وعدم التعاطف مع ضحايا إلا إذا كانوا مسلمين.
وهل الشعور بالعداء ضد المسلمين يفاقم أزمتهم أو قد يؤدي إلى المزيد من الحركات المتطرفة؟
طبعاً العنف يؤدي لعنف مضاد والغباء يستفز غباءً أكبر منه. مجموعات اليمين المتطرف تتكتل وتحصل على أصوات أكثر في الانتخابات في الغرب. من الطبيعي أن يتكتل الناس حول هويتهم القومية حين يرون هذه الهوية مهددة من مهاجرين يحتقرون هذه القومية. أكبر دليل على نفاق بعض الأتراك المسلمين في أوروبا هو أنهم يطالبون بحقوق أكثر كأقلية وينتقدون الإعلام الغربي الذي حسب رأيهم يشوه الإسلام ومع ذلك فقد صوتوا لصالح دستور إردوغان الجديد الذي ينتقص من حقوق الأقليات ومن حرية الصحافة في تركيا. غريب شأن هؤلاء الذين يصوتون لصالح الدكتاتورية في بلدهم ثم يفرون للحياة في بلد ديمقراطي! المحزن في الأمر أن هناك الكثير من المسلمين المسالمين الذين قبلوا قوانين الدولة واندمجوا في هذه المجتمعات، وهم يعانون أكثر من المتطرفين لأنهم غير منعزلين عن المجتمعات الغربية ولا يتلقون معونات من دول الخليج وتركيا تغنيهم عن الاندماج. ولكن هؤلاء المسلمين المسالمين مطالبون الآن برفع أصواتهم وعدم السماح لمنظمات الإسلام السياسي أن تتحدث باسمهم وتحرض المسلمين على عدم الاندماج.
كيف أثر تنظيم داعش على المسلمين، وما الأذى الذي ألحقه بهم؟
أعرف أن رأيي هذا يصدم الكثيرين، ولكن لا توجد مجموعة من البشر تمثل إسلام دولة الرسول الأولى أكثر من داعش، فهي أقرب لنصوص الإسلام وتشريعاته وموقفه من غير المسلمين والملحدين وأسرى الحرب وسباياه. ومع ذلك فأنا أرى في صعود داعش والمجازر التي ارتكبوها ليس فقط كارثة ولكن أيضاً فرصة للمسلمين كي يفهموا أن تطبيق الدين حرفياً لا يعيد للإسلام عزته كما يزعم الإسلاميون وإنما قد يقضي على الإسلام أو ينفر الشباب منه. لقد أفاق الكثير من المسلمين من غفوتهم وتخلوا عن حلم إعادة دولة الخلافة. أدرك الكثيرون أن الجهاد مصيدة لا يسقط فيها الأعداء بقدر ما تنال من مجتمعات المسلمين واقتصادهم وحريتهم.
كيف ترى مستقبل الأقليات في الوضع الراهن؟
هناك صراع حضارات داخلي في بلاد الإسلام بين أنصار الإسلام السياسي وأنصار الإسلام الفولكلوري الشعبي البسيط. وهذا الصراع انتقل للجاليات المسلمة في الغرب أيضاً. للأسف فلدى الإسلام السياسي ممولين وبنية تحتية قوية تجعل نفسه أطول. نفس الشيء ينطبق على المسلمين في الغرب. معظم المسلمين لا يخلطون الدين بالسياسة في الغرب، لكن المنظمات التركية والإخوانية والسلفية صوتها أقوى وحضورها في الفضاء العام أكبر مما يخلق الانطباع ان معظم المسلمين إسلاميين. ولكن المشكلة الأكبر هي أنه حين يظهر مصلحون مسلمون يحاولون مصالحة الإسلام مع الحداثة تتهمهم المنظمات الإسلامية بأنهم يحاولون خلق إسلام بلا أنياب لإرضاء الغرب. هناك مثالين من ألمانيا يوضحان هذا الأمر. مهند خورشيد أستاذ دراسات إسلامية بجامعة مونستر يقوم بتدريب أئمة المساجد ويقول إن الإسلام دين رحمة وإنه لا توجد نار حقيقية لتعذيب العصاه يوم القيامة لأن هذا يتنافى مع رحمة الله التي وسعت كل شيء. هاجت عليه المنظمات الإسلامية وطالبت بعزله من منصبه في الجامعة. سيران آتيش حقوقية تركية أسست مسجد ليبرالي في برلين مفتوح لكل طوائف المسلمين من شيعة وسنة وصوفية وأحمدية وللنساء والرجال معا. أيضاً قامت ضدها المنظمات الإسلامية واتهمتها بتشويه الإسلام ووصلتها تهديدات عديدة بالقتل. من الطبيعي أن تعادي المنظمات الإسلامية هذه الحركات الإصلاحية لأنها تريد أن تحتكر الإسلام لأجندتها السياسية ومصالحها الاقتصادية. ولكن الغريب أن هذه الحركات الإصلاحية لا تلقى أية مساندة من المسلمين الوسطيين والمسالمين أيضاً بل المزيد من الانتقاد والهجوم. وهنا على المسلمين أن يقرروا أي إسلام يريدون في المستقبل؟ إسلام المنظمات السياسي أم إسلام إصلاحي منزوع الدسم يتخلى عن فكرة الجهاد وحلم أستاذية العالم! هناك فرصة ذهبية تهدرها الأقليات المسلمة في الغرب، فبعيدا عن الحروب والدكتاتورية وفي ظل حرية الفكر وحرية العقيدة يمكنهم أن يصلحوا علاقتهم بالدين ويمكنهم تقديم فقه إسلامي جديد يتماشى مع روح العصر وواقع المسلمين. ولكن الثمن هو التخلي عن جوانب عديدة ممن يسميه الكثيرون: الإسلام الصحيح!