البراء عبد الله:
أودُّ أن أوضح في البداية، أن هذا الطرح ليس متأثراً بالحركة النسوية، فلست أفضل من يقدم وجهة نظر بهذا الشأن، ولا يعني هذا بطبيعة الحال غضّ الطرف عن أهمية الحركة وحيويتها، لكن ما دفعني لهذا الطرح ثلاثة أمور، متباينة في ظاهرها متسقة في جوهرها.
أولها هي الصورة النمطية التي تعكسها البرامج الدينية التي تقدمها سيدات عبر الفضائيات المصرية.
تقدم القنوات التلفزيونية المصرية نحو عشرة برامج دينية على مدار السنة، يقدم بعضها بشكل موسمي في شهر رمضان، وتستمر البقية طيلة العام. كل هذه البرامج يقدمها دعاة رجال، بينما تقدم سيدتان برنامجين فقط، ويقتصر دور كل منهما على تلقي الاتصالات والاستفسارات من المشاهدين والمتابعين، فاسحة المجال لضيفها في الرد وتوضيح الموقف الديني حسب كل تساؤل.
هذه الصورة النمطية تقدم المرأة بلا علم في الدين، بينما يبدو الرجل عالماً بأمور الدين والشرع، وتعكس مفهوماً شائعاً، أن أمور الفتوى وعلوم الدين إنما هي حق أصيل للرجال!
ويتبع هذه الصورة النمطية الأمر الثاني، فبينما كنت أتصفح موقع فيسبوك وقعت عيني على منشور لافت لاقى تفاعلاً واسعاً، يقول: "الدين في مصر نزل مخصوص للستات… الرجالة بقى وظيفتهم يشرفوا على تطبيقه... يشوفوا الستات ماشيين عليه عدل ولا لأ".
فلما كان دور المرأة غائباً، أو بالأحرى مغيّباً، في علوم الدين والفتوى، سيطرت اللغة الذكورية على التحدث بأمور الدين، رغم أن الله اصطفى لهذه الأمة من النساء كما اصطفى من الرجال.
إن احتكار العمل الديني والدعوي وقصر الإفتاء على الفقهاء من الرجال دون السيدات، يجعلان مركزية الخطاب الديني عند الرجل، على الرغم من أن الذكورة ليست شرطاً للإفتاء.
وفي التاريخِ الإسلامي شواهد كثيرة على ذلك، أختار لكم أحب القصص منها إلى قلبي، وهي قصة "فاطمة السمرقندية"، ابنة العلامة الفقيه، محمد بن أحمد السمرقندي، صاحب كتاب "تحفة الفقهاء"، وكان لها نصيب من علم أبيها. يقول الإمام عبد الحي اللكنوي، إن فاطمة كانت فقيهة علّامة، وكانت جريئة في الحق أمام الملوك والسلاطين، حتى أن الفتوى كانت تأتي والدها فيعرضها على ابنته ويسمع رأيها بها، فتخرج الفتوى وبها توقيعان، توقيعه وتوقيع ابنته، واشتهرت بخطها الجميل.
وكان يدرس على يد أبيها، علاء الدين الكاساني، أحد كبار فقهاء المذهب الحنفي ولقب بملك علماء الحديث، فلما أتم شرح كتاب معلمه، طلب منه الزواج بفاطمة، فزوجه إياها. ولم تتوقف فاطمة السمرقندية عن العلم الشرعي بعد زواجها، بل كانت تنظم الحلقات، وطلب العلم على يديها الكثيرون. يقول المؤرخ ابن العديم إن فاطمة كانت تنقل المذاهب نقلاً جيداً، ورغم مكانة زوجها العلمية إلا أنه كان يستشيرها في الفتوى ويعمل بقولها، وأنه ربما يهم في الفُتيا فترده إلى الصواب، وتعرّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولها، وأنها كانت تفتي زوجها فيحترمها ويكرمها، ولم تكن تخرج فتوى إلا وعليها توقيعها وتوقيع زوجها، ولمّا انتقلت إلى حلب، كان الملك العادل نور الدين، يستشيرها ويستفتيها في أمور الدولة لمعرفته بقدرها وعلمها ومكانتها.
في كتابه "الوفاء بأسماء النساء"، جمع الدكتور أكرم الندوي تراجم وسير لثمانية آلاف سيدة من العالمات والمحدثات والفقيهات، وفاطمة ليست إلا واحدة من آلاف السيدات الفاضلات اللاتي تقدمن في مراتب العلم وتقلدن مناصب الفتوى في التاريخ الإسلامي.
وما من عالم، فقيه أو محدث درس صحيح البخاري إلا وانتهى سنده عند الفقيهة "كريمة المروزية". كانت تجاور بيت الله الحرام، وكان العلماء ينتهزون فرصة الحج للقائها والسماعِ منها، لعلو سندها ودقة حفظها، وتعلم على يدها كبار العلماء.
ومعلوم أن أم المؤمنين عائشة، كانت تستدرك على صحابة رسول الله بمن فيهم من القامات العلمية في الحديث النبوي، كابن عباس وأبي هريرة.
إن استمرار وجود المرأة العالمة بالشريعة وضمان مكانتها إلى جانب الرجل العالم بالشريعة، يضمن عدم انحراف لغة الخطاب الديني نحو الذكورية.
وهذا يذهب بنا إلى الأمر الثالث، وهو غياب أو تغييب دور المرأة في المؤسسات الدينية.
في منتصف شهر آب/ أغسطس من العام الجاري، أعلنت السعودية عن تعيين عشر نساء في مناصب قيادية برئاسة الحرمين الشريفين، وهما أرفع مكانين مقدسين في الإسلام.
اللافت أنه منذ تأسيس جامعة الأزهر الشريف، في ستينيات القرن الماضي، لم تجلس امرأة واحدة على كرسي رئاسة الجامعة!
ألا يوجد في مصر، ومن خريجات جامعة الأزهر، من تستحق أن تكون رئيسة لجامعة الأزهر؟ ونحن نتحدث عن جامعة تعليمية وليس المشيخة نفسها! رغم أنه ليس هناك ما يمنع، لا في الدين ولا القانون، وليس بالضرورة أن تكون شيخة الأزهر امرأة، لكني أتحدث حتى عن مناصب أدنى مرتبة من ذلك... لا يوجد!
دار الإفتاء المصرية أيضاً، ومنذ إنشائها في 1895، تعاقب عليها 18 مفتياً للجمهورية وكلهم من الرجال، بداية من الشيخ حسونة النواوي ومحمد عبده حتى المفتي الحالي.
هيئة كبار العلماء، والتي تضم نحو ثلاثين فرداً ليس بينهم امرأة واحدة!
والسؤال أيضاً: إذا كان في السابق دور المرأة فاعلاً وقائماً في أمور الدين، فما الذي حدث حتى يغيب؟
ورغم ما تحتاجه الإجابة على هذا التساؤل من تفكيك للحقب الزمنية وتأثير العادات المتعاقبة على الأجيال، بما لا يتسع لمقال واحد للإجابة عليه، سأحاول لفت النظر لما نعانيه الآن من تغييب للمرأة في المناصب الدينية، فقديماً لم يكن ثمة وجود لمؤسسات دينية بشكلها الحالي، أي مؤسسات نظامية تعمل طبقاً لقوانين دستورية، فمن طلب العلم طلبه الناس وتتلمذوا على يده واستفتوه، سواء أكان رجلاً أم امرأة.
ثم أنشئت المؤسسات الدينية بهيمنة ذكورية، وجاءت القوانين المنظمة لهذه المؤسسات بشكل عصري وبتطبيق رجعي!
ويطرح التساؤل: ألا يوجد في مصر ومن خريجات الأزهر الشريف، امرأة واحدة تملك من العلم ما يؤهلها لأن تزاحم الرجال في مناصب دينية؟!
قانون الأزهر مثالاً، لا يشترط فيه الذكورة كعنصر أساسي لانتخاب شيخ الأزهر، تعيين وكيل للأزهر أو أحد هيئة كبار العلماء أو حتى المفتي، لكن واقع الممارسات يُنحي المرأة عن المناصب الدينية. هذه الممارسات، ترسّخ سيطرة الرجال اجتماعياً ودينياً، وترتفع باللغة الذكورية في الخطاب الديني.
فالتشريعات وحدها لا تساهم في تعزيز دور المرأة، ولا تساعد على وصول المرأة للمناصب القيادية.
ولما غيّبت المرأة عن المواقع الدينية، بات الخطاب الإسلامي حكراً على الرجال، فضاعت حقوق السيدات بفضل الهيمنة الذكورية، وهذا يفسر المقولة الساخرة "الدين نزل للستات والرجالة بيشرفوا على تطبيقه".
ويظهر جلياً في الوقت الحالي ما وصلت إليه أحوال المرأة المصرية من تدهور، فمصر، بحسب تصنيف المنتدى العالمي الاقتصادي، تحتل المرتبة 134 عالمياً من بين 144 دولة في المساواة بين الجنسين.
وليست المؤسسات الدينية وحدها هي التي تغيب النساء، فالمحاكم المصرية، بما فيها محاكم الأسرة، لا تضم قاضية واحدة، ومثل هذه المواقع تضاهي في أهميتها منصب الوزير والمحافظ.
ومهما نصت التشريعات على حقوق المرأة فهي لا تضمن مكانتها وحقها، إذ ينبغي عليها أن تناضل لكسب مكانتها في المؤسسات التي يستولي عليها الرجال، فهم لم يستولوا عليها بالقانون أو الدين، إنما استولوا عليها بالهيمنة، واستأثروا بمواقعهم لاعتيادهم على تغييب النساء.
بعض الموروثات في مصر أقوى من القانون... هذا لابد أن ينتهي.