نضال منصور:
منذ تداعي "الربيع العربي" وجماعة الإخوان المسلمين في الأردن تحاول الانحناء للعاصفة، أملا في النجاة والبقاء والصمود، في ظل تنامي ما يعتقدون أنه حملة إقليمية لاجتثاثهم، وإنهاء وجودهم من المشهد السياسي.
تراهن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن على شراكة تمتد لفترة طويلة مع مؤسسة العرش والنظام، وهناك من يرى أن التحالف بينهما ليس من السهل أن تنقطع عراه. فالإخوان في مفاصل تاريخية كثيرة كانوا الجدار الذي استند عليه النظام لمواجهة الأزمات الداخلية، ولهذا فإن القناعات المترسخة عند قيادات إخوانية أن الدولة الأردنية لن تذهب باتجاه "كسر العظم" معهم، ولا يتردد الناطق الإعلامي في الإخوان المسلمين معاذ الخوالدة من القول "صاحب القرار يمتلك قدرا عالٍ من الحكمة"، مستشهدا بأن النظام في ظروف إقليمية أكثر حساسية لم يتجاوب مع الضغوط ونأى بنفسه عن التوجهات الخارجية السائدة.
الرهان على تاريخ تليد في العلاقة مع النظام في الأردن هل يكفي للنجاة والحفاظ على شعرة معاوية؟
الإعلامي حلمي الأسمر يرى أن يافطة الإخوان المسلمين الخضراء ستنتهي، ولا يمكن أن تستمر وتبقى مُعلنة في عمان، ويستذكر في مقال له في "العربي الجديد" حين سأل رئيس الديوان الملكي عن سر تغيرهم في التعامل مع الإخوان، فأجابه "تغيرنا حين تغيرتوا".
ويعيد رئيس الديوان الملكي تذكير الأسمر ـ وهو بالمناسبة كان من قيادات الإخوان المسلمين ـ بمقولة لقيادي إخواني في الربيع العربي حين تزايدت الاحتجاجات في الأردن "نحن جاهزون لاستلام الحكم"، وبغض النظر عن مدى صحة هذه الرواية فإن الخطيئة التي لن تغتفر للإخوان هي ما اعتبر استقواء على الدولة زمن الربيع العربي، ورغبتهم في التغيير في بنيان النظام، وتعالي الأصوات المطالبة بالملكية الدستورية.
قُبيل الربيع العربي استمعت لدبلوماسي غربي في عمان يروي أن كثيرا من أنظمة الحكم العربية كانت تقدم الأحزاب الإسلامية كـ "بعبع" للغرب ومصالحه، وكانوا يذكرون الغربيين إذا لم تدافعوا عنا وسقطنا ستكون السلطة جاهزة للتيارات الإسلامية المتشددة، والتي بدورها ستخوض معركة لإبعادكم والقضاء على مصالحكم في المنطقة العربية.
هذه النظرية والفرضيات لم تُسلم بها الحكومات الغربية، وفي الربيع العربي كانت متأكدة أن الإسلاميين حتى لو تسلموا السلطة فلن ينقلبوا عليهم، ولن ينقلبوا ويعبثوا بالوضع السائد، وسيحافظون على علاقات إيجابية معهم، وهذا ما حدث على الأقل في مصر وتونس.
بعض المعاينات والقراءات للمشهد ترى أن الإخوان المسلمين في الأردن يدفعون ثمن فاتورة تعجلهم في قطف "ثمار" الربيع العربي، ومن جهة أخرى فإن تصدع بيتهم الداخلي لا يمكن أن يُعزى فقط لمؤامرات خارجية ومحاولات لتفتيتهم، وإنما حصيلة ونتيجة لصراعات ورؤى داخلية متعارضة، وهذا سابق وقديم وممتد، فطوال الثلاثين عاما منذ عودة الحياة البرلمانية و"الصقور والحمائم" يتنازعون المشهد في البيت الإخواني.
اليوم جماعة الإخوان المسلمين في الأردن على مفترق طرق بعد أن طلبت الهيئة العامة لمحكمة التمييز ـ أعلى سلطة قضائية ـ من محكمة الاستئناف إعادة النظر في قرار قضائي لها باعتبار أن الجماعة منحلة وفاقدة لمركزها القانوني.
قيادات الاخوان تؤكد أن الأمر لم ينته، والسجال القانوني على شرعية الجماعة مستمر منذ سنوات، ويفرد بعضهم أوراقه التاريخية على الطاولة ليشير إلى أن جمعية الإخوان المسلمين حصلت على ترخيصها القانوني الأول في عمان بتاريخ 9/1/1946 بموجب قانون الجمعيات العثماني، وحينها لم يكن هناك قانون للأحزاب، ويكملون في عام 1953 قدم الأمين العام للإخوان المسلمين آنذاك محمد عبد الرحمن خليفة طلبا لتحويل الجمعية إلى جماعة، وصدر قرار من مجلس الوزراء أيام حكومة توفيق أبو الهدى بالموافقة، وأصبحت جماعة، وحين حلت الأحزاب عام 1958 استثنيت جماعة الإخوان لأنها ليست حزبا سياسيا، ولم يطلب من الجماعة تصويب أوضاعها بعد ذلك لأنها ليست جمعية خيرية، وليست كذلك حزبا سياسيا.
يبدو أن جماعة الإخوان المسلمين في الأردن لم تستوعب الدرس، وظلت معتقدة أنها قادرة على مواجهة الانشقاقات الداخلية التي عصفت بها حتى ولو خرج قيادات تاريخية من تحت مظلتها، وبقيت على قناعة أنها تستطيع ضبط المعادلة مع السلطة دون أن تنزلق إلى قطيعة، ولكنها لم تكن تنتبه إلى أن كرة الثلج تتدحرج وتكبر، وأن الذين خرجوا من رحمها لم يسكتوا، بل نافسوها على شرعية الوجود والتمثيل، وأن جمعية الإخوان المسلمين التي رُخصت نكاية بهم من وزارة التنمية الاجتماعية عام 2015 ـ واعتبرت بنظرهم مؤامرة حكومية على الجماعة الأم ـ استطاعت باللجوء للقضاء مزاحمة جماعة الإخوان الأم، وسحبت البساط من تحت أقدامها بالسيطرة على مقراتها، ومحاولة الاستحواذ على كل الأصول المالية والعقارية، وهي إمبراطورية اقتصادية لا يُستهان بها، ولم يكشف عن تفاصيلها السرية حتى الآن.
جماعة الإخوان المسلمين يستهينون بالجمعية غير الشرعية للإخوان، ويؤكدون أن القضاء وبأحكام قطعية أكد أنها ليست الخلف القانوني، غير أنهم حتى هذه اللحظة لا يملكون إجابة ماذا سيفعلون إن قررت محكمة الاستئناف أن الإخوان المسلمين جماعة منحلة ووجودها غير قانوني وغير شرعي.
سألت معاذ الخوالدة مرة أخرى عن سيناريوهات المستقبل فأجابني: "من المبكر الحديث عن مسارات المستقبل، فهناك فريق قانوني يدرس الوضع، وكذلك الأمر فإن الدائرة السياسية والتنظيمية تنظر بالخيارات والحلول".
الخوالدة يتساءل أيضا في حديثه هل توجد إرادة حقيقية عند صانع القرار للتفاهم على المسار القادم؟ ولا يُفشي سرا حين يقول جلسنا مع مسؤولين في الدولة للبحث في الواقع القانوني للجماعة، والصورة التي يعتقدون أنها يجب أن تكون وتسود، لكنه لم يُفصح إن كانوا قد توصلوا لتفاهمات معينة، والاعتقاد الأرجح أن الأبواب موصدة، والحلول والتسويات مستبعدة.
تُبدي جماعة الإخوان المسلمين مرونة في التكيف مع اقتراحات المستقبل، وعلى لسان الخوالدة وقيادات أخرى يؤكدون أنهم ليسوا فوق القانون، ومستعدون لتصويب أوضاعهم، سواء بقانون خاص على غرار مؤسسات كثيرة، أو أي تصور لائق، غير أنهم لا يوافقون على إكراههم والضغط عليهم للدخول تحت مظلة "جمعية الإخوان" غير الشرعية ـ حسب تعبيرهم.
لم تعد هناك أبواب كثيرة لتفتح أمام الإخوان المسلمين، فهم قاب قوسين أو أدنى ليصبحوا جماعة غير شرعية، وما تبقى لهم فعليا حزب جبهة العمل الإسلامي جناحهم وذراعهم السياسي، ولا يُعرف إن كانوا بالقرار القضائي، سيفقدون سيطرتهم على الأصول المالية والشركات التي يمتلكونها، في حين تتسرب معلومات أن العديد من هذه الأصول سُجل منذ وقت طويل وتحسبا للظروف الطارئة بأسماء قيادات إخوانية.
أسئلة المستقبل ليست محسومة داخليا عند جماعة الإخوان المسلمين، وإذا ما ابتعدنا عن تداعيات الموقف القضائي، فإن مراجعات فكرية تتصاعد داخل بيت الجماعة، وحتى في حزب جبهة العمل الإسلامي، وتتنامى حالة الرفض للصراع التقليدي بين الصقور والحمائم بحثا عن التجديد، والخروج من العباءة التي ظلوا يلبسونها في العقود الماضية.
أمين عام حزب جبهة العمل الإسلامي مراد العضايلة حين سألته لماذا لا يذهب إخوان الأردن لمحاكاة التجربة المغربية والتونسية بالإبقاء على حزب سياسي فقط وطلاقهم بلا عودة مع "جماعة الإخوان المسلمين"؟، أجابني مبتسما "أعطني البيئة السياسية الحاضنة عندهم، ونصف تجربتهم ونحن على استعداد فورا".
ما بين اختيار الإخوان المسلمين للعمل السري وهذا ما لم يعهدوه أبدا، أو البحث عن مظلة وترخيص جديد، أو الانضواء تحت راية حزب جبهة العمل الإسلامي، فإن الحيرة وضبابية المشهد هي ما يُسيطر عليهم، وهذه المرة فإن إيقاع مخاوفهم يتزايد، فالأمر لم يعد تفريخات وانقسامات داخل بيتهم، ولا صفعات يتلقونها فيتجنبونها أحيانا، أو يديرون الخد الآخر، وإنما بات مصيرهم ومشروعهم كله مهدد بالإلغاء.
يحدثني العضايلة "لا يوجد أحد في الإخوان مُستعد للتنازل عن فكرة الجماعة، فهذه حالة وجدانية ونفسية"، ولكن يستدرك بالقول "لكننا دائما نبحث عن خيار استقرار البلاد ونقدمه على كل شيء".
بعد أيام قليلة سيُسدل الستار على الجدل المتواصل على شرعية جماعة الإخوان، فهل تُقطع شعرة معاوية، أم تظل الأبواب مواربة، ويُبقي النظام الأردني الإخوان المسلمين رصيدا له، يستخدمه، ويوظفه لمواجهة استحقاقات وتحديات المستقبل حتى ولو أبقاهم تحت الضغط وعلى الحافة، ودون أن يُطلق عليهم رصاصة الرحمة.