آيا صوفيا مسجدا... بالقوة - مقالات
أحدث المقالات

آيا صوفيا مسجدا... بالقوة

آيا صوفيا مسجدا... بالقوة

حازم الأمين:

 

ليس تفصيلا عابرا في تاريخ تركيا أن ينتهي هذا البلد الممتد جغرافيا وتاريخيا إلى حدود وحساسيات الشرق كله، بيد رجب طيب إردوغان. الرجل قليل الخيال والمحافظ والعادي والمراوغ الذي لا يخلو من عجرفة السلاطين على رغم أنه لا يشبههم

فإردوغان ذاهب في تركيا إلى عكس ما يفترضه موقعها. تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد ليس سوى خطوة في مسار أحمق اختطه الرجل لبلده منذ سنوات طويلة، فهو يحكم تركيا على نحو ما تدير جماعة الإخوان المسلمين تنظيماتها ومؤسساتها، وعلى نحو ما تتعامل مع أزماتها، مع فارق كبير هو أن إردوغان سلطة ودولة وجيش ومؤسسات حكم. القرار الأرعن الذي يتخذه يصير واقعا، ويفرض على أكثر من 90 مليون مواطن.

إردوغان جعل من تركيا ممرا لجماعات "داعش". من عمل في تركيا في العقد الفائت يدرك أن ذلك كان حقيقة. فعلته هذه تفوق فعلته في آيا صوفيا. فتركيا البلد الذي يتوسط بين آسيا وأوروبا تحول فعلا إلى معبر لـ"المجاهدين" في طريقهم إلى سوريا وفي عودتهم من سوريا إلى كل دول العالم. اسطنبول صارت محطة ثابتة لهم، ومستشفياتها تولت علاج جرحى التنظيم، ومطارها صار مسرحا لحكاياتهم. جرى ذلك تحت أعين الدولة وفي رعايتها. ففي حينها كان لنا، نحن الصحفيون، طرقا للقاء "المجاهدين" ولعبور الحدود، فما بالك بأصحاب الشأن أنفسهم.

وإردوغان الذي خاض حربا شعواء ضد حليفه السابق وعدوه الراهن عبدالله غولن، وظف في حربه هذه كل مؤسسات السلطة في تركيا في هذه المهمة على نحو شديد الصفاقة والابتذال، فصارت تركيا سجنا كبيرا للصحفيين وأساتذة الجامعة والقضاة والناشطين

قبض على البلد كما يقبض عبد الفتاح السيسي على مصر، وجعل من الجيش والقوى الأمنية دمية بيده، وتمكن بفعل نقل الصلاحيات إليه بعد أن انتقل من رئاسة الحكومة إلى رئاسة الجمهورية، من مخاطبة "الروح القومية" لدى أهل الأناضول مستبعدا نموذجها الكمالي، وملوحا بالماضي العثماني. وكل هذا جرى من دون أن يكون الرجل مخلصا لأي قيمة من تلك التي استحضرها في حروبه الداخلية والخارجية.

في حزبه، "العدالة والتنمية"، لم يكن أكثر رحابة، أي محاولة خروج من عباءته كانت تفضي بصاحبها إلى العزل. هذا ما جرى مع داوود أوغلو ومع عبدالله غل، الرجلان اللذان باشر معهما انطلاقته في الحزب وفي السلطة. استعاض عنهما بصهره وبموظفين أقل إزعاجا

وهو حين بدل أولويات الحزب، كان يفعل ما يوازي ذلك في تركيا وفي مؤسساتها. نموذجه في الحكم كان فلاديمير بوتين. التنقل بين رئاستي الجمهورية والحكومة فعلها الرجلان على نحو متعاقب واللعب بالدستور وفق مقتضيات السلطة كان دأبهما.

اليوم أقدم إردوغان على حماقة هي تتويج لمسار وضع فيه تركيا في موقع معاكس لما تمليه مصالحها فعلا. تحويل آيا صوفيا إلى مسجد يخدم إردوغان فقط. مصالح تركيا في مكان آخر تماما. حتى تركيا "الإسلامية" لن يضيف لها آيا صوفيا شيئا، بل سيضعها في مواجهة ليست في صالحها. الرجل قرر أن نتائج الانتخابات أهم من مستقبل تركيا، وأنها مجبرة على دفع ثمن فوزه فيها.

فلنتأمل فعلا في أسباب خطوة إردوغان. في الاستفزاز الذي شكلته، وفي الأثمان التي ستدفعها تركيا جراءها! الرجل عديم الخيال فعلا، وهو لا يتورع عما هو أسوأ من ذلك. غياب الحساسية حيال نتائج هذه الفعلة مصدره "ثقافة اخوانية" مقيمة في تكوين الرجل وفي ثقافته. العالم بالنسبة لهذه الثقافة جامد في مشاهد مقتطعة من تاريخ مقتطع بدوره من سياقه، وللحاكم صلاحية البت بكل شيء.

طبعا لا حاجة في اسطنبول لمسجد. في المدينة آلاف المساجد. الخطوة أريد لها أن تكون رسالة، لكن لمن، طالما أنها ليست للمؤمنين؟ هي رسالة لغير المؤمنين، أو لغير المصلين، ممن قد يشكل لهم آيا صوفيا صلة وصلٍ بين تاريخ وتاريخ، وبين ثقافة وثقافة

أراد إردوغان أن يقول لهؤلاء أن آيا صوفيا مجرد مسجد بين آلاف المساجد في اسطنبول، وإذا كان له من وظيفة أخرى فهو الكنيسة التي صارت مسجدا بالقوة. الرسالة بالغة الفضاضة وعديمة الحساسية، وهي جواب يقطع الطريق على أي رغبة في رأب صدوع تاريخية وثقافية كانت تركيا مرشحة لرأبها بفعل موقعها، وبفعل توسطها بين بلاد المسلمين وبلاد "الإفرنج".

إردوغان قطع الطريق على هذه المهمة.

الحرة

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث