كاتب: KIM GHATTAS
مصدر: "?The Muslim World’s Question: ‘What Happened to Us"
فهم الأحداث التي وقعت في عام 1979 أمر بالغ الأهمية لأولئك الذين يحاولون صياغة مستقبل أفضل للشرق الأوسط الحالي.
كيف يستعيد العالم الإسلامي آماله المفقودة؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت محور مقالٍ نشرته مجلة «ذي أتلانتك» بقلم الزميلة البارزة غير المقيمة في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، كيم غطاس، وهو مقتبس من كتابها المرتقب صدوره بعنوان «الموجة السوداء: السعودية وإيران والتنافس المستمر منذ أربعين عامًا الذي كشف النقاب عن الثقافة والدين والذاكرة الجماعية في الشرق الأوسط».
تستهل كيم مقالها بالقول: «ماذا حدث لنا؟ هذا السؤال يطاردنا في العالم العربي والإسلامي. نكرره كما لو كان تعويذة. يتردد صداها من إيران إلى سوريا، ومن السعودية إلى باكستان، وفي بلدي: لبنان. بالنسبة لنا، يرتدي الماضي ثوب بلدٍ مختلف، ليست غارقة في أهوال القتل الطائفي. الماضي بالنسبة لنا هو مكان أكثر حيوية، متحرر من ربقة التعصب الساحق الذي ينفثه المتعصبون الدينيون، وفي مأمنٍ من الحروب التي لا ملامح لها ولا نهاية على ما يبدو.
على الرغم من أن الماضي كان مُبتَلًى أيضًا بالانقلابات والحروب، لكنها كانت بلايا جرى احتواؤها سريعًا، بينما لا يزال المستقبل يحمل الكثير من الأمل. فماذا حدث لنا؟ قد لا يخطر هذا السؤال في أذهان صغار السن الذين لم يمتد بهم العمر ليشهدوا عالمًا مختلفًا، ولم يخبرهم آباؤهم عن شابٍ كان يقرأ الشعر في بيشاور، أو ينخرط في نقاشاتٍ فكرية عن الماركسية داخل حانات بيروت، أو يركب الدراجة على ضفاف نهر دجلة في بغداد. قد يفاجئ السؤال من يعيشون في الغرب، ويفترضون أن التطرُّف وإراقة الدماء التي يغرق فيها عالمهم اليوم كانا يهيمنان على المشهد دائمًا. وبدون فهم ما ضاع من الأمجاد، وكيف حدث ذلك – والأهم من ذلك، لماذا لعبت المنافسة بين السعودية وإيران دورًا حاسمًا في هذا الانهيار – سيبقى الأمل في مستقبلٍ أفضل بعيد المنال، وسيظل فهم العالم للشرق الأوسط غير مكتمل».
3 أحداث رئيسية وقعت عام 1979 ولا يزال أثرها قائمًا حتى اليوم
تضيف كيم غطاس: هناك العديد من نقاط التحوُّل في التاريخ الحديث لهذه المنطقة، وهي تحولات يمكن أن تفسر كيف انتهى بنا المطاف في غياهب اليأس التي نغرق فيها؛ منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية وحتى الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. لا أحد، بمفرده، يستطيع رسم الصورة الكاملة. بدلًا من ذلك، أعود بالذاكرة إلى الوراء، وصولًا إلى عام 1979، عندما وقعت ثلاثة أحداث رئيسية:
(1) الثورة الإيرانية، التي بلغت ذروتها بعودة الخميني إلى طهران في فبراير (شباط) من ذلك العام.
(2) الحصار الذي فرضه متعصبون سعوديون على المسجد الحرام في مكة خلال شهر نوفمبر (تشرين الثاني).
(3) الغزو السوفيتي لأفغانستان عشية عيد الميلاد، ما فتح الطريق لأول ساحة قتال جهادية في العصر الحديث، وأطلق جهدًا حربيًا تدعمه الولايات المتحدة.
كانت هذه الوقائع الثلاث منفصلة عن بعضها البعض تقريبًا، لكن كان لاحتشادها سويًا تأثير سام، إذ تغيّر المشهد، فلم يبقَ حجرٌ فوق حجر، ولم يعد أي شيء إلى ما كان عليه أبدًا. حين تجرّع العالم العربي والإسلامي من هذه الكأس الضارّة، أصبح المناخ مهيأً لنمو المنافسة السعودية-الإيرانية.
كانت الدولتان خصمتين ودودتين حتى ذلك الحين، باعتبارهما ركنين ركينين في الجهود الأمريكية لمواجهة الشيوعية في المنطقة. ثم جاءت الثورة الإيرانية. في البدء، أشاد آل سعود بأوراق الاعتماد التي قدمتها القيادة الإسلامية الجديدة، وتبنيها القرآن باعتباره دستورًا لإيران.
لكن الرياض سرعان ما أدركت أن ثمة واقعًا جديدًا؛ ذلك أن الخميني، الذي خرج من فوضى الثورة ليصبح زعيمها الأعلى، وصف ذات مرة العائلة المالكة السعودية بأنهم «رعاة الإبل» «البرابرة». والأهم من ذلك، ورغم أنه شيعي، فقد كانت خططه الكبيرة تطمح لقيادة العالم الإسلامي، الذي يتكون في الغالب من دول سنية، وهو الطموح الذي زرع بذور الشعور بانعدام الأمن في السعودية، الدولة التي يعتبر ملكها خادم الحرمين الشريفين، أقدس مكانين في الإسلام.
وكان للحصار الذي استمر أسبوعين على المسجد الحرام في مكة ضرر بالغ على مكانة المملكة في العالم الإسلامي؛ لأنه كان يعني: فشل آل سعود في القيام بدورهم باعتبارهم حماةً لهذا الموقع الأقدس. وعندما غزا السوفييت أفغانستان، اغتنمت الرياض الفرصة لاستعادة أوراق اعتمادها من خلال تمويل ودعم ما كان يعتبر آنذاك حربًا فاضلة ضد الشيوعيين، بينما وجدتها فرصة لكي تقوم في الوقت نفسه بتوجيه طاقة الشباب المتعصبين السعوديين إلى الخارج، لينشغلوا بالحرب في ساحة معركة أجنبية.
جذوة المنافسة المدمرة على قيادة العالم الإسلامي لا تزال مشتعلة
والحال هكذا، سرعان ما اشتعلت منافسة مدمرة على قيادة العالم الإسلامي، ارتدت فيها إيران والسعودية ثوب الدين، هذا المقدس الذي تعرض للاستغلال والتشويه سعيًا وراء القوة، على حد وصف كيم غطاس. هذا هو المشهد الثابت منذ عام 1979 وما بعده، والسيل الذي يجرف كل شيء في طريقه، ثم لم يشهد العالم العربي والإسلامي تغييرًا أهم ولا أعمق مما حدث في عام 1979.
صحيحٌ أن لحظاتٍ محورية أخرى كانت على موعدٍ مع تفككِ تحالفاتٍ، أو إشعالِ شرارةِ حروبٍ، أو إنهاءِ معاركَ، أو كانت شاهدةً على ولادة حركات سياسية جديدة، لكن الإرث الراديكالي الذي نبتت جذوته في عام 1979 فعل كل هذا وأكثر: شوهت المجتمعات وغيرت المراجع الثقافية والدينية. أما الديناميات التي انفلتت من عقالها في عام 1979، فأعادت تعريفنا لأنفسنا، واختطفت ذاكرتنا الجماعية، وأعادت هندسة الدول النابضة بالحياة التي كانت تتسم بالتعددية من مصر إلى باكستان، في ظل انهماك كل من إيران والسعودية على حشد الجماهير كل إلى معسكره سواء بالمال أو الدعاية أو التبشير الأيديولوجي.
للبحث عن إجابة لهذا السؤال المركزي: ماذا حدث لنا؟ سافرت كيم غطاس من القاهرة إلى بغداد ومن طهران إلى إسلام أباد. قابلت في كل مكان طوفانًا من العواطف بمجرد أن سألت الناس عن تأثير أحداث العام 1979 على حياتهم. وشعرت كما لو أنها تُجري عملية علاجية على المستوى الوطني أو الإقليمي، وشعرت بأنها تجلس في غرف معيشة هؤلاء الأشخاص وفصولهم الدراسية: إذ كان لدى الجميع روايته الخاصة عن كيف دمر عام 1979 حياتهم وزواجهم وتعليمهم. حتى أولئك الذين ولدوا بعد تلك السنة تأثروا بما حدث آنذاك. لم يطرح عليهم أحد هذا السؤال تحديدًا من قبل، ولكن برقت لمعة المعرفة في عيونهم عندما طرق السؤال مسامعهم، كما لو أن الأجزاء المتنافرة من أحداث الحياة قد اندمجت فجأة، وأصبح اللغز منطقيًا في النهاية.
تكمل المؤلفة وصف رحلة بحثها عن الإجابة قائلة: في باكستان، أخبرني الصحفي نديم فاروق باراشا أن احتشاد العديد من الأحداث الهامة في عام واحد جعل العالم يبدو وكأن السماء سقطت على الأرض، ولفت نظري إلى أحداث أخرى وقعت في ذلك العام داخل بلده.
إذ أعدم الديكتاتور الباكستاني، ضياء الحق، الذي كان ممسكًا بزمام السلطة منذ عام 1977، سلفه، ذو الفقار علي بوتو، في أبريل (نيسان) 1979، وفرض الشريعة الإسلامية على دولة سنية ذات أغلبية سنية، وحدث ذلك قبل يوم واحد من تطبيق الخميني نهجًا مشابهًا في إيران، الدولة التي ينتمي معظم أهلها للمذهب الشيعي. وكان ضياء فخورًا بأنه أحرز قصب السبق على الخميني، ولم يكن بدعًا في ذلك من زعماء المنطقة الذين يحاولون التغلب على بعضهم البعض في مسائل الدين.
تضيف كيم غطاس: في مصر، أخبرتني ابتهال يونس، أستاذة الأدب الفرنسي وأرملة الدكتور نصر أبو زيد، أن الأمر استغرق سنوات حتى تفهم كيف أن عام 1979، وهو العام الذي وقعت فيه مصر معاهدة سلام مع إسرائيل، لم تغير فقط مسار بلدها ولكن أيضًا حياتها الخاصة؛ إذ ذهبت هي وزوجها إلى المنفى في السنوات التي تلت ذلك، على خلفية اجتياح موجة التعصب مصر، واتهام أبو زيد بالردة.
رحلة عبر نزاعات الثمانينيات العسكرية وحروب التسعينيات الثقافية
تردف المؤلفة: أما فترة الثمانينيات فهيمنت عليها النزاعات العسكرية: الحرب الإيرانية العراقية، التي وسعت الفجوة بين إيران والعالم العربي (معظمه من السنة)، والحرب المستمرة ضد السوفييت في أفغانستان، التي زرعت بذور الجهاد العنيف. ساعدت كلا الحربين في تحويل الفجوة التاريخية والعقدية بين السنة والشيعة إلى سلاحٍ يشهره كلا الفريقين في وجه الآخر خلال العصر الحديث، من خلال تغذية الانقسامات الطائفية التي أدت إلى موجة من العنف الطائفي، لم تكن في السابق هي المعيار، لكنها تسارعت بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
أما فترة التسعينيات فهيمنت عليها الحروب الثقافية التي انبعثت من رماد تلك المعارك، وهي حروب لعبت دورًا حاسمًا في إعادة تشكيل المنطقة. انطلقت الرصاصة الأولى في تلك الحرب الثقافية مع الفتوى التي أصدرها الخميني عام 1989 بقتل الروائي سلمان رشدي بسبب كتابه «آيات شيطانية». وبينما تذكر هذه الحادثة الآن باعتبارها مجرد فتوى أصدرها الخميني، فإن المسألة برمتها بدأت في الواقع بحملة أطلقها نشطاء سنيون محافظون لهم صلات بالسعودية ضد الكتاب، بمساعدة من السفارة السعودية في لندن.
ورغم ترجمة «آيات شيطانية» إلى اللغة الفارسية، وطرحها للبيع في إيران، ونظرًا لحرص الجمهورية الإسلامية على ركوب موجة الغضب ضد الكتاب، التي امتدت من الهند إلى بريطانيا والعودة مرة أخرى إلى باكستان، اكتسح الخميني بفتواه المشهد، وبرز باعتباره الزعيم الأكثر جدارة في نظر الجماهير المسلمة. وكان لهذه الفتوى تأثير هائل على الحياة الفكرية في العالم الإسلامي، مع تصاعد التعصب الديني ومواجهة الكتاب والفنانين اتهامات متزايدة بالردة والهجمات والاغتيالات. حتى الكاتب المصري نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل، نجا بالكاد بحياته إثر تعرضه لهجوم بسكين في عام 1994.
ووصف المخرج المصري يوسف شاهين الظلمة التي اجتاحت المنطقة بعد ذلك بأنها موجة سوداء أتت من الخليج واجتاحت المنطقة. إذ تخلت العشرات من الممثلات المشاهير في مصر عن فساتينهن القصيرة وتسريحات شعرهن اللافتة، وتوجهن لارتداء النقاب، بتشجيعٍ مزعوم من أثرياء السعودية. وفي عام 1985، كانت أقلية صغيرة من الكتب المنشورة في مصر ذات طبيعة دينية. وبحلول عام 1995، كان 85 في المئة من الكتب المعروضة في معرض القاهرة للكتاب دينية.
تردف الكاتبة: في لبنان، جاءت الموجة السوداء من طهران، حيث بدأت إيران في تصدير ثورتها. انتشر الشادور، وهو لباس أسود يغطي الجسم بالكامل، في القرى الشيعية وفي الضاحية الجنوبية لبيروت. بينما كان هذا الزي يقتصر سابقًا على النساء المحافظات، ومعظمهن من زوجات رجال الدين. وأغلقت محلات الخمور أبوابها. واختفت الموسيقى. ورفرفت أعلام الحداد السوداء على قتل الإمام الحسين، أحد أكثر الشخصيات الدينية احترامًا في المذهب الشيعي، على أعمدة الإنارة، وكان شعار «كلنا الخميني» منقوشًا على جدران شوارع بيروت الفاخرة.
لماذا لم يتصدّ آباؤنا وأجدادنا لوقف هذا الجنون؟
صادفت الكاتبة سؤالًا آخر متكررًا في رحلاتها، وهو الأمر الذي فاجأها، والسؤال الذي طرحه الشباب السعودي والإيراني على وجه الخصوص عن آبائهم: لماذا لم يفعلوا أي شيء لإيقاف هذا الصراع؟ في تلك البلدان التي انطلقت منها هذه التموجات وتراجعت فيها الحياة منذ عام 1979، كان هناك استياء من الجيل الذي سمح بحدوث كل ذلك.
بالنسبة للإيرانيين، يعد عام 1979 نقطة تحول واضحة في تاريخ البلاد. فبالنسبة لهم، لم يكن الأمر الأهم يتعلق بالإدراك البطيء لما حدث، بل كان عدم التصديق المتزايد لسذاجة آبائهم وأجدادهم، الذين ابتهجوا بالثورة التي أزاحت طغيان الملكية لتضع مكانها استبدادًا دينيًا أسوأ. وكان النظام الجديد قمعيًا ليس فقط على الصعيد السياسي ولكن أيضًا على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، إذ جمَد البلاد بفعالية في نقطة زمنية محددة، وفصلها عن العالم، على ما يبدو إلى الأبد.
في السعودية، كانت التغييرات تتعلق أكثر بحالة من التقدم الموقوف. بفضل المناطق الداخلية الصحراوية المحافظة، والمقاطعات الساحلية، كانت المملكة تتجه نحو تبني معايير اجتماعية أكثر تساهلًا، مع إدخال التلفزيون، وتطبيق تعليم الفتيات، وتدشين حفنة من دور السينما المؤقتة. لكن عام 1979 كان فرصة للمدافعين عن نموذج الإسلام الذي تبناه الآباء المؤسسون للمملكة – الذين يشار إليهم غالبًا بـ الوهابية – لفرض فهمهم الأكثر صرامة للدين، وتطبيق ذلك على البلد بأسره.
تضيف المؤلفة: بفضل سيل الأموال التي انهمرت خلال ثمانينيات القرن الماضي، كان بإمكان السعوديين السفر إلى أي مكان، وبمقدورهم الذهاب إلى دور السينما والمسرح، والجلوس في المقاهي، والتسوق بحرية إذا أرادوا الهروب من الظلام الذي يجتاح بلدهم. لكن أطفالهم الآن يريدون معرفة سبب عدم احتجاج آبائهم على إسكات صوت الموسيقى، وتشديد نظام الوصاية الذكورية، واقتحام الشرطة الدينية منازل الناس إذا سمعوا صوت موسيقى تتردد في الداخل.
كانت هناك لحظة قصيرة في عام 2018 عندما بدا كما لو أن الخصمين كانا في طريقهما للتنافس على إصلاح الأضرار التي وقعت عام 1979: السعوديون من الأعلى إلى الأسفل، على يد محمد بن سلمان، ولي العهد الذي فتح بلاده لاستقبال القرن الحادي والعشرين. والشعب الإيراني، من الأسفل إلى الأعلى، بفضل تصميمه على التخلص من النظام.
لكن ذلك لم يحدث، بل استمرت المنافسة بلا هوادة، وكأن لا شيء ولا أحد كان مجهزًا لكبح جماح الأهواء الفاسدة التي تحرك قيادة هاتين الدولتين. دفعت سوريا واليمن والعراق الثمن، حيث اندلعت الحروب بالوكالة في جميع تلك البلدان. كما استهدف الأشخاص الذين رفعوا أصواتهم ضد القيادات الحاكمة في إيران والسعودية.
وكان أخطر المعارضين هم أولئك الذين تحدثوا بهدوء، وقدموا بديلًا أكثر مصداقية ليحل مكان الحكم المطلق لهؤلاء الزعماء. وقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول على يد فريق اغتيال سافر من الرياض في أكتوبر (تشرين الأول) 2018، وحُكم على نسرين سوتوده، وهي محامية إيرانية تنشط في مجال حقوق الإنسان، بالسجن لمدة 38 عامًا، و148 جلدة؛ بسبب دفاعها عن النساء اللواتي ينظمن بحملات ضد قوانين الحجاب الإلزامي.
تقول كيم غطاس: إن التحديات هائلة، والديناميات تبدو مستعصية إلى حد كبير، وأقدام اللاعبين راسخة إلى درجة يسهل معها الاستنتاج بأنه لا يوجد مخرج. لكن إيران والسعودية وجدا طريقهما للخروج من مثل هذه الورطة من قبل. فقبل أن تنثر الميليشيات الطائفية بذور الجنون في هذه البقعة من العالم، لم يكن هناك عنف منتظم بين السنة والشيعة طيلة قرون.
انتفاضات الشعوب ضد قوى الظلام التي أفقرت المنطقة
تواصل الكاتبة سرد جولتها في أرجاء العالم العربي والإسلامي قائلة: خلال رحلاتي، شعرت بالتواضع والإثارة عندما أجريت مقابلات مع كبار النشطاء والكتاب ورجال الدين وغيرهم ممن ناضلوا طوال عقود من أجل المزيد من الحريات والتسامح وإشعال المزيد من النور في مواجهة هذا الظلام. تحديهم هو مصدر للأمل، وثباتهم مُعْدٍ. هؤلاء الناس هم الماضي والمستقبل، وهم ليسوا وحدهم. وهم أيضًا ليسوا نخبة متفرنجة. إنهم عينة من أغلبية كبيرة، تنتهز كل فرصة لاستعادة المساحة المفقودة، ثقافيًا أو سياسيًا، والانتفاضة ضد قوى الظلام التي أفقرت المنطقة.
في أكتوبر 2019، جاءت هذه اللحظة في العراق ولبنان مع الاحتجاجات الاستثنائية التي اندلعت ليس فقط ضد الفساد والفقر، بل ضد الطائفية أيضًا. تظاهر مئات الآلاف في كلا البلدين، تقريبًا في انسجام تام، لأسابيع متتالية. تحكي عنها كيم غطاس قائلة: مع الموسيقى والرقص، مع الزهور والفكاهة والشعر، أطلقوا صيحةً تنتصر للحياة، وتحدُّوا الرصاص والضرب.
أعلن المتظاهرون وحدتهم، عبر جميع الانقسامات الاجتماعية والطائفية، ضد أولئك الذين يمسكون بزمام السلطة. في لبنان، هتف السنة في مدينة طرابلس الشمالية دعمًا لاحتجاج الشيعة في مدينة النبطية الجنوبية. وفي مدينة الفلوجة السنية، رفع المحتجون لافتات حدادًا على المتظاهرين الشيعة الذين قتلوا في مدينة الناصرية. وفي بيروت، هتف المحتجون: «من طهران لبيروت.. ثورة واحدة ما بتموت».
شهدت مظاهرات لبنان توجهًا متزايدًا مناهضًا لإيران، حيث استهدفت الاحتجاجات وكيل طهران (حزب الله)، ووضعت إيران مباشرة في بؤرة الهجوم، وانضم رجال الدين الشيعة إلى المسيرات للتنديد بنفوذ طهران، فيما قام بعض المتظاهرين برفع العلم العراقي على جدران القنصلية الإيرانية في كربلاء. ثم اندلعت الاحتجاجات في إيران نفسها، ليتردد في جنباتها صدى مظاهرات 2009 و2017. كان الرد الرسمي قاسيًا: قطع الإنترنت، وعلى مدار بضعة أيام قُتل ما لا يقل عن 300 شخص على أيدي قوات الأمن، الكثير منهم برصاصة في الرأس.
كانت الحملة التي شنتها الحكومة العراقية أيضًا دموية، حيث قتل أكثر من 500 شخص. وأحد الرجال الذين ساعدوا في تنظيم القمع كان قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي. لذلك، بعدما قُتل في غارة أمريكية في بغداد في 3 يناير (كانون الأول)، احتفل الآلاف من العراقيين بوفاته.
وفي سوريا أيضًا، احتفل المواطنون في المدن التي عانت من قبضة سليماني القاسية إبان دعمه لحكم الديكتاتور بشار الأسد. وبدا كما لو أن إيران متحدة لفترة قصيرة وهي تتشح بالحداد على سليماني، أو خوفًا مما قد يأتي بعد ذلك: ضربة أخرى، أو حتى حرب أخرى. ولكن كان هناك أيضًا احتفاء بالارتياح والهدوء اللذين تمخضا عن وفاة رجل لم يتسبب في الكثير من الدمار في المنطقة باسم إيران فحسب، بل كان أيضًا عاملًا رئيسيًا في الحملة ضد المتظاهرين في إيران خلال السنوات الماضية. بعد قتله، توقفت الاحتجاجات لفترة وجيزة في إيران والعراق ولبنان، لكنها استؤنفت مرة أخرى بمزيد من الغضب والعنف.
يتجسد تأثير السعودية ودورها في ثوب مختلف تمامًا، بحسب كيم غطاس. فبصرف النظر عن الحرب في اليمن، فإن التأثير السعودي لا يزال أكثر تخفيًا وخبثًا. فلا تمتلك المملكة ميليشيات تعمل بالوكالة يمكن الاحتجاج ضدها، لكنها تخوض بنفسها الكثير من الحروب، مدججة بالسلاح والأموال والإعلام، التي ألحقت أضرارًا لا حصر لها بفهم الناس لدينهم، تتويجًا لسعي المملكة إلى فرض فهمها الضيق وغير المتسامح للإسلام على ملايين المسلمين، بحسب وصف الكاتبة.
الأنظمة القمعية تولد التعصب.. والتعصب يولد العنف
بعد كل هجوم إرهابي في الغرب، غالبًا ما يسأل الناس في أوروبا أو الولايات المتحدة بلا مبالاة: أين المسلمون والعرب الذين يقفون ضد التطرف والإرهاب؟
تقول كيم غطاس: من المقلق للغاية توقع أن يعتذر جميع المسلمين أو يتحملون المسؤولية عن شريحة صغيرة من الأشخاص الذين يدعون أنهم يؤمنون بالدين ذاته. لكن الأهم من ذلك هو أن السؤال يتجاهل التضحيات الغالية التي قدمها أولئك الذين يقاتلون منذ فترة طويلة ضد التعصب ومظاهره العنيفة داخل بلدانهم، سواء ضد الطغاة أو الإرهابيين.
ولعقود من الزمن، تُرِك الكثير من الأشخاص ذوي العقول التقدمية في الشرق الأوسط الأوسع ليدافعوا عن أنفسهم ضد عمليات الهدم التي تستهدفهم هم وبلدانهم حتى الموت على أيدي قوات الظلام، بمن فيهم قادة، مثل ضياء الحق في باكستان في الثمانينيات، أو المصري عبد الفتاح السيسي اليوم، الذي غالبًا ما يحظى بالدعم الأمريكي ضمنيًا أو صراحة. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن أكبر عدد من ضحايا العنف الجهادي هم المسلمون أنفسهم.
من الحروب إلى الانقلابات ودعم الطغاة، أدت تصرفات الولايات المتحدة إلى تغذية الديناميات المحلية وتفاقمها. لكن السعودية وإيران أيضًا يتخذون القرارات بناءً على مصالحهم، ويدفعون تلك الديناميات في الاتجاه الذي يحقق أهدافهم. ولا يمكن بسهولة كسر حلقة العداء المفرغة التي تعزز نفسها ذاتيًا، لكن الشباب العربي والإيراني الذي بدأ صوته يرتفع عبر المنطقة يظهرون بوضوح أنهم يريدون مستقبلًا مختلفًا.
ماذا حدث لنا؟
تجيب الكاتبة مرة أخرى: ما زال الكثير من أبناء جيلي والأصغر سنًا في المنطقة يسألون هذا السؤال، ويتساءلون لماذا لم يفعل آباؤنا، أو لم يستطيعوا فعل، أي شيء لوقف الانهيار؟ لكن ذكريات ماضينا الأكثر تنوعًا وتسامحًا لم تتبخر. ولا رغبتنا في إعادة تصميم مثل هذا العالم المفقود، ليس بسبب الحنين إلى الماضي، ولكن اعتقادًا بإمكانية بناء مستقبل أفضل، متحررة من أسر المستقبل الذي فرضه قادة إيران والسعودية وجنودهم المشاة. وكما كتب الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد: «صحيح تمامًا … لفهم الحياة التي نعيشها يجب النظر إلى الوراء. لكنهم ينسون الحكمة الأخرى القائلة: للتمتع بالحياة ينبغي النظر إلى الأمام».