ماهر جبره:
"بينما ينشغل العلمانيون العرب بتنفير الناس من الدين، إذ بجامعة هارفارد تنسِفُ كل جهودهم في لحظة، لتُعْلِن في أحدث دراسة لها أن القران هو أفضل كتاب للعدالة عرفته البشرية في تاريخها." هذا ما كتبه الشيخ عبد الله رشدي على توتير منذ أيام، نشر بعدها فيديو، شاهده حوالي 100 ألف شخص، يعلن فيه عن "انتصار الإسلام على العلمانيين بشهادة هارفارد".
ما قاله رشدي كان نقلا عن صحف ومواقع عدة نشرت خبرا في الأيام الماضية مفاده أن جامعة هارفارد تصنف القرآن الكريم كأفضل كتاب للعدالة على مر التاريخ.
ولكن الحقيقة أن القرآن لم يتم اختياره كأفضل كتاب للعدالة في دراسة هارفارد، لأن هارفارد ببساطة لم تقم بهذه الدراسة من الأساس. ولكن الأمر كله عبارة عن خبر مفبرك. مفبرك لدرجة ترقى إلى أن يكون درسا عمليا في كيفية صناعة الأخبار المزيفة أو الـ Fake News.
أما الخبر الحقيقي فهو موجود على موقع الجامعة، ويقول إنه في ربيع 2012 جمّع طلاب وأساتذة وعاملون في هارفارد 33 مقولة عن العدالة وتم وضع هذه المقولات على جدران مباني كلية الحقوق بجامعة هارفارد.
المقولات من مختلف الديانات والأيدولوجيات منها مقولات من المسيحية واليهودية والماغنا كارتا وغيرها. وبينهم مقولة من الإسلام وهي الآية 135 من سورة النساء "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا".
ولكن من أين جاء هذا الخبر المزيف؟ الجميع اعتمد على تغريدة من حساب على توتير لمنظمة تدعى "المجلس العالمي لمجتمعات المسلمين" مقرها أبوظبي في الإمارات. هذه المنظمة هي التي فبركت الخبر وتناقله عنها الجميع دون أدنى مجهود في التدقيق أو المراجعة.
أخذت هذه المنظمة الآية واختلقت فكرة الدراسة المزعومة، ووصلت لنتائجها التخيلية ونشرتها. ولم يسأل أي شخص من الذين نشروا الخبر، أين هي هذه الدراسة؟ أو من قام بها؟ أو لماذا لا يوجد أثر لها على موقع الجامعة؟ كلها أسئلة بديهية جدا، لكن يبدو أن من وجهة نظر من نشروا الخبر أن كل شيء مباح لنصرة الدين.
الملفت للانتباه أن صحفا كبيرة بحجم الأهرام نشرت الخبر. ولم يكلف الشيخ رشدي أو أحد من الصحفيين نفسه بأن يبحث على موقع جامعة هارفارد على الإنترنت. فأبسط قواعد التدقيق هي الرجوع للمصدر الأصلي للمعلومة.
بعد انكشاف الحقيقة عندما طالب بعض المتابعين رشدي بالمصدر الأصلي لهذه الدراسة المزعومة، نشر فيديو مدته دقيقتين يقول فيه لقد نقلت عن صحف مثل الأهرام، دون أن يحذف الفيديو الأصلي، أو حتى يعتذر عن نقل خبر مزيف.
ربما يقول البعض لقد أخطأ رشدي سهوا. ولكن الحقيقة أن فكرة تزييف ولي عنق العلم من أجل إثبات صحة القناعات الدينية هي أشبه بمنهج عند بعض الإسلاميين. وهناك أمثلة لا حصر لها على ذلك.
مثلا الشيخ محمد العريفي (الذي يتابعه أكثر من 20 مليون متابع على توتير) عندما سئل عن لماذا يقول الشرع إن المرأة شهادتها تعادل نصف شهادة الرجل، رد وقال إن هناك غدة "نسيت اسمها" مثبت عمليا أن لها وظيفتان في مخ الرجل، فهي قادرة أن تجعله يتذكر ويتكلم في نفس الوقت. أما نفس الغدة في مخ المرأة فهي قادرة فقط على أداء وظيفة واحدة فإما أن تجعل المرأة تتكلم أو تتذكر، مما يجعلها تحتاج لمن يذكّرها وبالتالي فشهادة امرأتان توازي شهادة رجل واحد.
والحقيقة أن هذا الكلام لا يمكن الرد عليه علميا لأنه كلام لا علاقة له بالعلم أو حتى المنطق. فضلا عن أننا ما زلنا نحاول معرفة اسم هذه الغدة العجيبة!
وفي مثال آخر قال الشيخ صالح اللحيدان (عضو هيئة كبار العلماء في السعودية) مبررا تحريم قيادة المرأة للسيارة في عام 2011، إن قيادة السيارة تجعل الحوض يرتد وبالتالي يضغط على المبايض، وبالتالي يؤثر ذلك بشكل سلبي على قدرة المرأة على الحمل والولادة.
ولكن يبدو أنه بعد أن سمح الملك سلمان في 2017 للنساء السعوديات بقيادة السيارات، تبدلت أجسادهن فجأة وأصبحت قيادة السيارة لا تؤدي إلى العقم، وأفتت هيئة كبار العلماء وقتها بأن القيادة حلال شرعا!
وبالتأكيد لا يمكن أن نتحدث عن فبركة العلم دون أن نذكر الدكتور زغلول النجار، الذي اشتهر بفكرة الإعجاز العلمي في القرآن، والذي بنى عمله بالأساس على فكرة فبركة الحقائق العلمية من أجل إثبات القناعات الدينية.
ففي رده مثلا على سؤال عن حجاب المرأة قال إن الشمس تضر بالجلد من خلال الأشعة فوق البنفسجية وتسبب أمراض عدة منها سرطان الجلد، وإن المرأة تتأثر بها أكثر ولهذا السبب أمر الله المرأة بالحجاب.
بالطبع هذا الكلام لا سند علمي له، فضلا عن أن الحجاب هو قطعة من القماش لا تحجب أكثر من نسبة بسيطة فقط من الأشعة فوق البنفسجية. ولو افترضنا إنه صحيح فهل يجوز شرعا استبدال الحجاب بالقبعة أو واق من أشعة الشمس الـ (Sun Block ) مثلا؟
في الواقع الأمثلة عديدة، ولولا ضيق مساحة المقال لسردت عشرات الأمثلة، ولكني أعتقد أن الفكرة باتت واضحة.
فهؤلاء الشيوخ والدعاة، الذين يتابعهم ملايين ويحترموهم ويجلوهم، لم يتحروا الحقيقة ونقلوا أخبارا ومعلومات مفبركة، بل وزيفوا العلم لخدمة أفكارهم.
فإذا كانت فبركة الأخبار والحقائق العلمية تحدث في زمن فيه إنترنت وغوغل ويوتيوب حيث تمكننا هذه الأدوات من تقصى الحقائق بسهولة لم تكن متاحة لمن عاشوا في قرون ماضية. فالسؤال هنا هو ما الذي يمنع أن يكون هذا ما قد حدث في نقل بعد الأحاديث كما يقول باحثون إسلاميون مثل إسلام بحيري وأحمد عبده ماهر وغيرهم.
فقد لخص لؤي نصيرات هذا السؤال عندما كتب على توتير ردا على الشيخ رشدي، الذي قال نقلت الخبر عن الأهرام ولست مسؤولا عن صحته: "وهكذا كتبت الأحاديث الكاذبة عن رسول الله وهكذا كتب التراث ولكن للأسف لا وجود لتكنولوجيا قبل 1400 سنه لتبين كمية الكذب على رسول الله وكمية الأحاديث الموضوعة التي وضعت بين دفتين وسميت بالصحاح".
الحرة