صامويل تادرس
ليس سرًا أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمر بأزمة عميقة. ربما يشكل هذا مفاجأة للغالبية العظمى من المسلمين في مصر الذين يجهلون تمامًا كل أمر يخص شركائهم في الوطن، لكن تلك قضية أخرى.
لنبدأ من الحدث. شكّل مقتل الأنبا ابيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقار، بداخل ديره بتلك الطريقة البشعة صدمة للكثيرين، رغم أنها ليست الحادثة الأولى التي يُقتل فيها أسقف قبطي. سبقها عدة حوادث منها مقتل الأنبا ثاؤفيليس مطران القدس والشرقية والقناة بالرصاص في مزارع دير الأنبا أنطونيوس بوش ببني سويف في 1945، ثم في 1951 قُتل الأنبا مرقس أول أسقف مصري لجنوب أفريقيا بالرصاص في سيارته الخاصة، بعد خروجه من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون. وفي 1963 قُتل الأنبا يوأنس مطران الجيزة والقليوبية في حادث غامض، بعد أن شرب سُمًا دُسَّ في علبة الدواء الخاصة به. قُيدت هذه الحوادث جميعها ضد مجهول، وتناساها الناس مع مرور الزمن.
ليس الهدف من هذا المقال الإدلاء بآراء حول جريمة قتل الأنبا إبيفانيوس وهي لا تزال رهن التحقيق. لكن الجريمة وردود الفعل عليها تكشف عن الأزمة الضاربة داخل الكنيسة القبطية، ومن هذا المنطلق وجب الحديث عن الصراعات الفكرية داخل الكنيسة ومدلولاتها.
تاريخ ثقيل
أيقونة قبطية للقديس مرقص الإنجيلي مؤسس الكنيسة القبطية المصرية
منذ تأسيسها على يد القديس مرقص الإنجيلي، لعبت كنيسة الأسكندرية دورًا تاريخيًا مهمًا في تكوين الجماعة المسيحية.
في مصر، ولدت الرهبنة على يد القديس الأنبا أنطونيوس. والأهم إن مدرسة الأسكندرية اللاهوتية كانت منارة المسيحية في العالم كله. أسماء مثل أوريجانوس، إثناسيوس، وكيرلس عمود الدين كانت هي الأهم في تشكُّل الفكر المسيحي.
عانت الكنيسة القبطية من فترة ظلام بدأت مع منتصف القرن الخامس الميلادي. ولذلك عدة أسباب منها
- الخلافات اللاهوتية التي أدت إلى انقسام دائم في الكنيسة في مجمع خلقدونية، أدت إلى انفصال كنيسة الأسكندرية عن بقية مراكز الفكر المسيحي.
- جاء الغزو الإسلامي في القرن السابع ليخلق جدارًا فاصلًا بين الأسكندرية وبقية العالم المسيحي.
- ساهم استبدال المدرسة اللاهوتية بالأديرة كمركز للكنيسة في إضعاف الإنتاج اللاهوتي، ثم أتى تدمير الأديرة في الصحراء الغربية على يد البربر ليقضي على ما تبقى من ذاك الإنتاج.
- أدى انتقال البطريركية إلى القاهرة والاعتناق البطيء للغة العربية إلى فصل الكنيسة عن تقاليدها وكتابة آبائها.
مع بداية القرن التاسع عشر، كانت الكنيسة القبطية في أزمة. فالكهنة صاروا أُميين، يرثون الوظيفة من آبائهم. فاختل توازن الكنيسة وأصبحت عاجزة عن التعامل مع هجمة المبشرين الغربيين وخاصة البروتستانت.
أول من انتبه إلى الأزمة كان البطريرك كيرلس الرابع في منتصف القرن التاسع عشر. عمل البابا كيرلس الرابع على إصلاح وإحياء الكنيسة من خلال مشروعه لتعليم الشعب والكهنة، إلى جانب الإصلاح الإداري. لكن المشروع مات مع وفاة الرجل.
طوال العقود اللاحقة تركز الصراع داخل الكنيسة بين معسكرين؛ معسكر الإصلاحيين المتأثرين بالأفكار البروتستانتية، مقابل رجال الدين المحافظين. ودارت رُحى الصراع حول المجلس المِللي ودوره. هذه الصراعات أدت إلى عزل البابا كيرلس الخامس لمدة ستة أشهر على أيدي الباشاوات بمعاونة من الدولة.
في وسط هذا الظلام مَثّل حبيب جرجس (الذي اعترفت الكنيسة بقداسته مؤخرًا) شعاع النور وسط الظلام، حيث حاول إحياء الكنيسة من خلال كتاباته وتأسيس مدارس الأحد (يمكن قراءة كتاب الأنبا سوريال عنه.(
ومع ذلك، بقي الإصلاح محدودًا نتيجة عدم تمكن جرجس من الاقتراب من كتابات الآباء نتيجة غياب الترجمة عن القبطية. واعتمدت جهوده وغيره في كثير من الأحيان على استغلال الانتقاد الكاثوليكي للبروتستانتية، والنقد البروتستانتي للكاثوليك ضد الجانبين، و مازال تعذير تلك الأفكار باقيًا حتى اليوم.
بين البابا والمسكين
في الأربعينيات وُلد جيل جديد من مدارس الأحد نجح في تحويلها إلى حركة جارفة، وذلك مع انضمام الشباب المتعلم لها. فكانت تُمثل اتجاهًا إحيائيًا معارضًا لكل من الأساقفة المحافظين، و"الباشاوات" ذوي العقلية الإصلاحية المتأثرين بالبروتستانتية. لكن الحركة لم تكن متجانسة، وظهرت بداخلها عدة اتجاهات.
في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين؛ كان الصراع بين مدرستي الجيزة و كنيسة الأنبا أنطونيوس شبرا قائم على رؤيتين، إحداهما ركزت على العمل المجتمعي، والأخرى ركزت على النهضة الروحية. لكن في نهاية المطاف، أصبح الصراع الأكثر شراسة بين نظير جيد (البابا شنودة) ويوسف إسكندر (الأب متى المسكين). كان البابا شنودة تلميذًا للأب متّى، تتلمذ وترهبن على يديه، ثم ترك مجموعته في أواخر الخمسينات.
بدأ الخلاف شخصيًا لكنه سرعان ما اتخذ أسسًا لاهوتية. من جهة، كانت رؤية الأب متّى، هي رفض مشاركة الكنيسة في العمل المجتمعي وشؤون الدولة. حيث مهمة الكنيسة فقط هي قيادة المخطئين إلى المسيح. علاوة على ذلك، اتخذت كتاباته التي عمل فيها على إعادة اكتشاف الآباء تحولًا حادًا عن أسس تدريس المسيحية الأرثوذوكسية المعاصرة.
بعض الذنوب "الهرطقات" المنسوبة إليه، كانت بخصوص كتاباته عن التأله ورفض الخطيئة الأصلية، ونقد الكتاب المقدس من خلال رفضه لحرفية النص، ومئات الرؤى الأخرى التي وجدها البابا شنودة مُشينة. على الجانب الآخر رفض البابا شنودة التأله، وشدد على نظريات استبدال الخلاص. اتخذ جزء من الصدام شكلًا سياسيًا، حيثُ لعب الأب متّى دورًا في الصراع بين البابا شنودة والرئيس السادات.
عام 1985؛ بعد خروج البابا شنودة من الدير، كان حرًا في تشكيل الكنيسة على صورته. حيث قُتل الأسقف صموئيل مع السادات، وتم تحييد الأسقف جريجوريوس. ومع مرور الوقت، رَسَّم عشرات الأساقفة وآلاف القساوسة من تياره. بينما بقي الأب متّى الذي تم حظر كتبه واضطهاد أتباعه في الدير حيث تجمع التلاميذ حوله. وفي أوائل عام 2000 كرّس البابا شنودة وعظاته لمهاجمة الأب متّى. وكان رَجُله في حصار تيار الأب متّى هو الأنبا بيشوي، مطران دمياط وسكرتير المجمع المقدس.
مرحلة جديدة
أيقونة قبطية متأخرة لوصول العائلة المقدسة إلى مصر
عام 2006، مات الأب متّى، وتخيَّل البابا شنودة واتباعه أن أفكاره ماتت معه. لكن المفاجأة كانت خروج جيل جديد من العدم متأثرين بتلك الأفكار.
أحدثت ترجمة كتابات الآباء إلى اللغة العربية من قِبَل أشخاص مثل نصحي عبد الشهيد، والدكتور جوزيف موريس فلتس، ثورة في الفكر القبطي. وبدأ الأقباط الشباب في الوصول إلى الآباء وإصدار أحكامهم الخاصة بهم، والتي غالبًا ما كانت معارضة لوجهة نظر البابا شنودة.
جاء البابا تواضروس برؤية انفتاحية جديدة للكنيسة غيرت الوضع بشكل كبير عن طريق فتح الأبواب أمام أتباع الأب متّى. رَسّم تواضروس الأسقف إبيفانيوس وآخرين غيره. وعيّن أتباع الأب متّى في مناصب للتدريس بالكلية الإكليريكية. وجهات نظر البابا تواضروس حول المسكونية، والرغبة في إلغاء إعادة معمودية الكاثوليك، وتغيير تواريخ عيد الميلاد وعيد الفصح، وغيرها من الخطوات أغضبت الحرس القديم.
جن جنون الحرس القديم (المحافظين). كان هذا بالنسبة لهم بدعة خالصة. فأطلقوا عبر وسائل التواصل الاجتماعي لجان مثل حماة الإيمان لمهاجمة خصومهم ومنهم الأسقف إيبفانيوس، والمطران أنجيلوس، والأب سيرافيم البراموسي.
هذه المجموعات مدعومة مباشرة من قبل أسقفية الشباب (الأنبا موسى)، وتستخدم للتصدي لما تعتبره بدعة بين رجال الدين وبين الجيل الجديد من الطلاب الذين يظهرون في الكنيسة مثل أمجد بشارة، أشرف بشير، جورج نسيم، مارك فيلبس، روبير إيليا، ودونا رزق.
نهاية الإصلاح؟
بمقتل الأنبا إبيفانيوس فقدت جبهة التنوير المدافع الأهم عنها داخل المجمع المقدس الذي قام بحمايتها من هجمات أتباع البابا شنودة. ربما في عام أو عامين سيرُسَّم أسقف جديد من أبناء الدير لكنه لن يكون بنفس القوة. جمع الأنبا إبيفانيوس بين العلم الغزير وقوة الحجة مع التواضع الجم الذي جعله محبوبًا جدًا.
لكن رغم قوة الضربة وعِظَم الخسارة؛ ليس لدي شك أن المستقبل لتيار الأب متي المسكين. مع قراءة أعداد أكثر من الشباب القبطي لكتابة الآباء، ومع إنفتاح فرص تعليمية في الخارج أمام الأكاديميين منهم، ونشر كتابات الآباء باللغة العربية؛ سوف يكتشف الكثيرون أي تيار أقرب إلى آباء الكنيسة وفكرهم.
هذا ملخص سريع ومبسط للأزمة الراهنة في الكنيسة القبطية ومحاولة استشراف لمستقبلها القريب. في حالة لم تكن أرائي الخاصة واضحة وفي سبيل الأمانة العلمية؛ كنت طالبًا في الكلية الإكليريكية عام 2002 - 2003 حيث قام بتدريسي البابا شنودة، والدي كان صديقًا للأنبا صموئيل وسماني على اسمه. أنا لست عالمًا في اللاهوت، لكن تتماشى وجهة نظري الشخصية مع آراء وكتابات أبونا متّى المسكين.
اعتمد جانب من هذا المقال على تغريدات سابقة للباحث المصري صامويل تادرس قام بترجمتها عن الإنجليزية مصطفى شلش.
المنصة