في بداية 2011، وبينما كان الجنود الأميركيون يعدون العدة للرحيل عن العراق بعد ثماني سنوات من القتال والاحتلال، كان تنظيم «القاعدة في العراق»، الذي يُعتبر إحدى أسوأ نتائج تلك الحرب، يسير نحو ما كان يبدو نهاية مؤكدة: فالتنظيم الذي أعاد تسمية نفسه بـ«الدولة الإسلامية في العراق»، كان قد تلقى ضربات موجعة، حيث قُتل عدد من قادته بينما تقلص عدد مقاتليه إلى بضع عشرات ملاحقين في شمال الموصل وحولها.
ثم رحل الأميركيون، واندلعت انتفاضة كبيرة على الجانب الآخر من الحدود، في سوريا المجاورة. وهكذا، أشرقت الآفاق فجأة بالنسبة لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق»، بقيادة شخص يسمي نفسه «أبا بكر البغدادي»، الذي رأى فرص تنظيمه في البقاء تنتعش، فبعث عدداً من المقاتلين إلى سوريا حيث قاموا بعمليات هناك، ثم سرعان ما انزلق العراق إلى الفوضى من جديد، وفي أبريل 2013 عمد البغدادي، الذي كان يشرف على قطاع واسع يمتد من الصحراء العراقية إلى أطراف دمشق، إلى تغيير اسم تنظيمه مرة أخرى إلى «الدولة الإسلامية في العراق وسوريا»، أو «داعش» اختصاراً، ونصّب نفسه على رأسها. وبعد ذلك، بدأ آلاف المتطوعين يتقاطرون من مختلف أنحاء العالم على العراق وسوريا للالتحاق بالتنظيم والدفاع عن دولته المزعومة.
ومنذئذٍ، نجح «داعش» في لفت انتباه العالم، بل وإصابته بالصدمة، من خلال الفظاعات الشنيعة التي يرتكبها. كل تلك الأعمال أثارت أسئلة ملحَّة من قبيل: من هم أولئك الأشخاص؟ ومن أين أتوا؟ وكيف وصلوا إلى هناك؟ وما سر نجاحهم النسبي؟
الكاتب والصحافي الأميركي جريم وود، يرسم في كتابه الجديد «طريق الغرباء.. لقاءات مع الدولة الإسلامية»، ملامح عدد من أتباع التنظيم أو المتعاطفين معه، موضحاً أسباب انجذابهم له وتأثرهم بأيديولوجيته. ولهذا الغرض، ينتقل المؤلف من تكساس غرباً إلى أستراليا شرقاً، مروراً ببريطانيا والسويد ومصر والفلبين، للقاء عدد من هؤلاء الأشخاص.
وهكذا، نتعرف على هشام العشري، وهو خياط مصري عاش في الولايات المتحدة لبعض الوقت، وعلى موسى سيرانتونو، الذي يعيش في أستراليا ويُعتبر أحد مجنِّدي التنظيم على الإنترنت، كما نتعرف على يحيى أبو حسن، المعروف أيضاً باسم «يحيى الأميركي».
ونلتقي عائلة يحيى التي تقطن بولاية تكساس، وكان اسمه جون جورجلاس. وقد ولد لعائلة غنية في تكساس. والده طبيبٌ درس في أكاديمية «ويست بوينت» العسكرية وخدم في الجيش الأميركي، على غرار جده، لكن جورجلاس تمرد على نشأته، واعتنق الإسلام، وفي 2013شد الرحال إلى سوريا للانضمام إلى «داعش».
بيد أن الشيء الجديد والمستفز في كتاب وود ربما هو زعمه أن الأعمال والممارسات التي يقوم بها التنظيم لديها سند في التراث الإسلامي، بل في الإسلام نفسه، ليس الإسلام المعتدل كما يمارسه معظم مسلمي العالم، والذين يناهز عددهم المليار ونصف مليار نسمة، وإنما في نصوص وممارسات دينية موجودة منذ قرون عدة، وادعاؤه بأن التنظيم، قادةً ومقاتلين، جميعاً تحرِّكهم دوافع دينية! لكنها مزاعم تعكس في الواقع نظرة مغرقة في التسبيط والاختزال، تتنافى مع الطبيعة المعقدة ومتعددة الجوانب لظاهرة اسمها «داعش».
فأولاً وقبل كل شيء، يجب الاعتراف بأن تقييم الدوافع البشرية أمر صعب دائماً، حتى حينما يتعلق الأمر بدوافعنا نحن، فما بالك بدوافع الآخرين، ثم إنه لئن كان من الصعب إنكار أن الإسلام يشكّل الإطار الذي يشتغل داخله تنظيم «داعش»، ظاهرياً على الأقل، فإن وصف التنظيم باعتباره زمرة من المتعصبين الدينيين، مثلما يصوِّره الكتاب، هو وصف جد تبسيطي. ذلك أن واقع الحال يشير إلى أن دوافع انضمام الأشخاص للتنظيمات المتطرفة في العراق، مثلاً، متعددة ومعقدة، إذ إن البعض يلتحق بتلك التنظيمات لأنهم يكرهون طائفة منافسة (الشيعة مثلاً)، وبعضهم يحمل السلاح لأنهم يريدون الثأر لظلم لحق بعائلتهم من قبل الجيش الأميركي أو المليشيات الطائفية، غير أن البعض الآخر يلتحق بالتنظيمات المتطرفة لأن ذلك يتيح لهم فرصة للسطو والاغتصاب والقتل. وعلى سبيل المثال، فإن أبا مصعب الزرقاوي، الذي أسس «القاعدة في العراق»، كان قاطع طرق وعضو عصابة وكان يستعمل الإسلام لتبرير أفعاله، كما أن ثمة فئة أخرى تنضم لهذه التنظيمات كنوع من «الثورة» على المجتمعات التي يشعرون أنهم يعيشون فيها، لكنهم لا ينتمون إليها، كما هو الحال بالنسبة لعدد من الشباب المسلم في أوروبا الذين اختاروا الانضمام لـ«داعش» لأنهم كانوا في حاجة إلى قضية ما في حياتهم.
ثم هل يصدّق عاقل أن محمد إمزاوي، المسلم البريطاني الذي أصبح يعرف لاحقاً بـ«جون الجهادي»، والذي كان يقوم شخصياً بذبح الرهائن الأجانب، انضم إلى «داعش» حقاً من أجل التقرب إلى الله؟ الحقيقة أن هذه التنظيمات المتطرفة، مثل «القاعدة» و«داعش»، هي جماعات ضالة برأي جل علماء المسلمين، كونها جماعات تتبنى تفسيراً متطرفاً وضيقاً للدين على سعته وسماحته، ولا تأخذ منه إلا ما يتماشى مع هواها ويخدم أهدافها.
الكتاب: طريق الغرباء.. لقاءات مع «الدولة الإسلامية»
المؤلف: جريم وود
الناشر: راندم هاوس
نقلا عن صحيفة الاتحاد