بابكر فيصل:
ناقشت في مقال سابق الحُجج التي يسوقها دعاة تطبيق عقوبة الرجم على الزاني المحصن، وقلت إنه لم يثبت بشكل قاطع أن الشريعة الإسلامية أمرت برجم الزانية أو الزاني محصنا كان أم غير ذلك، وأن عقوبة الرجم غير موجودة في القرآن بل أخذها الفقهاء من الشريعة اليهودية.
وأتناول في السطور التالية التضارب في روايات حديث اعتراف "ماعز بن مالك" أمام الرسول الكريم بارتكابه للزنا، حيث يمثل هذا الحديث، بجانب حديث المرأة الغامدية، أهم الأدلة التي يستخدمها مؤيدو عقوبة الرجم في إثبات دعواهم. وقد وردت معظم روايات الحديث في صحيح مسلم، وكذلك صحيح البخاري وسنن أبي داؤود.
روى مسلم الحديث المقصود عن أبي هريرة بعدة أسانيد تفيد أن ماعز جاء إلى الرسول وهو في المسجد وقال له إني زنيت فأعرض عنه النبي وتنحى بوجهه عنه حتى كرر ماعز اعترافه أربع مرات، وكان الرسول في كل مرة يعرض عنه ويتنحى بوجهه، فلما شهد على نفسه أربع شهادات، دعاه الرسول وقال له "أبك جنون؟" قال: لا، قال: "فهل أحصنت؟" قال نعم، فقال رسول الله: "اذهبوا به، فارجموه".
كذلك روى مسلم الحديث، قال "سمعت جابر بن سمرة يقول أتى رسول الله برجل قصير أشعث ذي عضلات عليه إزار وقد زنى فرده مرتين ثم أمر به فرجم، فقال رسول الله: كلما نفرنا غازين في سبيل الله تخلف أحدكم ينب نبيب التيس يمنح إحداهن الكثبة إن الله لا يمكن من أحد منهم إلا جعلته نكالا أو نكلته".
وأيضا روى مسلم عن ذات الشخص (جابر بن سمرة) عن النبي نحو حديث ابن جعفر ووافقه شبابة على قوله "فرده مرتين" وفي حديث أبي عامر فرده "مرتين أو ثلاث". وفي رواية أخرى لمسلم عن أبي سعيد أن النبي رده "مرارا".
يبدو جليا مدى تضارب هذه الروايات واختلافها في عدد المرات التي اعترف فيها ماعز للرسول بارتكابه للزنا، فبعضها يقول إن الرسول اكتفى باعتراف ماعز مرتين ثم أمر برجمه، بينما تقول أخرى إنه انتظر حتى يكرر اعترافه ثلاث مرات، وفي رواية أخرى أربع مرات، حتى إذا ما وصلنا للرواية الأخيرة لم نعد نعرف على وجه الدقة كم مرة رد الرسول ماعز قبل أن يرجمه ذلك لأنها تقول "مرارا!".
ومن ناحية أخرى فإن مسلم روى نفس الحديث عن ابن عباس بصورة مختلفة تماما، حيث يبادر الرسول ماعزا بالسؤال: "أحق ما بلغني عنك؟" قال ماعز: وما بلغك عني؟ قال: "بلغني أنك وقعت بجارية بني فلان" قال: نعم. قال: فشهد أربع شهادات. ثم أمر به، فرجم.
وأيضا روى مسلم الحديث عن سليمان بن بريدة عن أبيه: أن ماعزا جاء إلى النبي فقال: طهرِّني، فقال له الرسول: "ويحك، أرجع، فاستغفر الله، وتب إليه"، فرجع غير بعيد، ثم جاء، فقال: يا رسول الله طهرني، فقال له الرسول العبارة نفسها، وتكرر ذلك للمرة الثالثة، حتى إذا كانت الرابعة قال له الرسول: "فيم أطهرك؟"، قال: من الزنى، فسأل رسول الله: "أبه جنون؟" فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: "أشرب خمرا؟" فقام رجل فاستنكهه، فلم يجد منه ريح خمر. فقال رسول الله: "أزنيت؟" قال: نعم. فأمر به، فرُجم.
أما البخاري فقد روى الحديث عن أبي هريرة قال "أتى رسول الله رجل من الناس وهو في المسجد فناداه يا رسول الله إني زنيت يريد نفسه فأعرض عنه النبي فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله فقال يا رسول الله إني زنيت فأعرض عنه فجاء لشق وجه النبي الذي أعرض عنه فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه النبي فقال أبك جنون قال لا يا رسول الله فقال أحصنت قال نعم يا رسول الله، قال اذهبوا به فارجموه قال ابن شهاب أخبرني من سمع جابرا قال فكنت فيمن رجمه فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه".
مرة أخرى نجد أنفسنا إزاء تضارب بائن في الروايات، حيث يقول بعضها إن ماعزا هو من جاء إلى الرسول واعترف من تلقاء نفسه بارتكاب الزنا بينما لم يكن الرسول على علم بالواقعة حتى أنه اعتقد أن الرجل به مسٌ من الجنون أو أنه غائب عن الوعي بسبب السُكر، بينما الرواية قبل الأخيرة تقول إن الرسول هو من بادر بسؤال الرجل "أحقٌ ما بلغني عنك؟" مما يعني أنه كان على علم بالواقعة وأن أطرافا أخرى أبلغته بها سلفا!
كذلك نلاحظ أن بعض الروايات تقول إن ماعز اعترف بالزنا ابتداء بقوله "إني زنيت"، بينما تورد رواية أخرى أن الرجل لم يصرح للرسول بأنه زنى، بل قال له "طهرني"، فأرجعه الرسول ثلاث مرات ليستغفر دون أن يعلم ما هو الجرم الذي ارتكبه الرجل ويريد التطهر منه، وعندما عاد إليه في المرة الرابعة قال له الرسول "فيم أطهرك"، فقال له أنه زنى.
إضافة إلى ذلك فإنه يُفهم من بعض الروايات أن اعترافات ماعز، برغم التضارب في عددها، قد تمت في جلسة واحدة، حيث كان الرسول يشيح عنه بوجهه فقط بعد كل اعتراف، بيد أن رواية أخرى توحي بأن اعترافات ماعز تمت في عدة جلسات متعاقبة، حيث كان الرسول ينصحه في كل مرة بأن ينصرف ليستغفر ويتوب إلى الله فيذهب الرجل ويعود ليقول له طهرني.
أما الحديث الذي يدعو للاستغراب فقد أورده البخاري عن ابن عباس، قال: لما أتى ماعز بن مالك النبي قال له لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت قال لا يا رسول الله، قال: "أنكتها" لا يكني، قال: فعند ذلك أمر برجمه!
محط الاستغراب هو أن يُنسب إلى الرسول الكريم النطق بهذا اللفظ الفاحش في حين أنه كان بإمكانه أن يُكني عنه بكلمة أخرى تتناسب مع مكانته الشريفة، وبدلا عن رفض هذه الرواية البائنة الضعف إلا أن دعاة تطبيق عقوبة الرجم برروا استخدام هذا اللفظ بقولهم إنه لا توجد كلمة أخرى غيره تحمل ذلك المعنى المحدد الذي قصده الرسول، وبالتالي فإن "الحاجة" هي التي دعت لاستخدامه ولا غضاضة في ذلك لأن الحاجة تبيح استخدام اللفظ وإن كان فاحشا!
ومن ذلك قول ابن تيمية في الفتاوى "إبداء فعل النكاح باللفظ الصريح يسمى فحشاء وتفحشا، فكشف الأعضاء والفعل للبصر ككشف ذلك للسمع. وكل واحد من الكشفين يسمى وصفا كما قال عليه السلام: "لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظر إليها" ويقال: فلان يصف فلانا وثوب يصف البشرة، ثم إن كل واحد من إظهار ذلك للسمع والبصر يباح للحاجة، بل يستحب إذا لم يحصل المستحب أو الواجب إلا بذلك".
ولا نظن أن الحاجة هي التي منعت الرسول عن أن يُكني، ذلك أن هناك كلمات أخرى تُعبِّر عن فعل النكاح ولا تدع مجالا للشك والاحتمال بأن يكون ماعز قد فعله أم لا، ومنها كلمة "الوطء" وكذلك كلمة "الجماع" التي يُعرِّفها الفقهاء بأنها "تحقُّق إيلاج الذكر في فرج الأنثى".
وفي حديث أبو هريرة عن النبي أنه قيل له: أنطأ في الجنة؟، قال: نعم والذي نفسي بيده دحما دحما (أي بدفع شديد)، فإذا قام عنها رجعت مطهرة بكرا. مما يعني أن مفردة الوطء تحمل نفس معنى الكلمة الفاحشة التي زعم راوي الحديث أن الرسول استخدمها.
يتضح من هذا العرض لروايات حديث ماعز أنها شديدة الاضطراب وتحتوي على تفاصيل متعارضة، ولذا فإنها لا ترقى لأن يؤخذ بها كدليل قاطع على تطبيق عقوبة الرجم، ذلك لأن حرمة النفس البشرية تعتبر من أعظم الحرمات، وأن من أعظم الجرائم أن تقتل تلك النفس بغير حكم أنزله الله تعالى الذي خلقها.