آية عبد الرحمن
الدين علاقة شديدة الخصوصية في حياة كل إنسان، يفترض ألا تعني سواه، ولكن ماذا لو عرّضك تغيير معتقدك للنبذ الاجتماعي، أو الاعتداء البدني، أو... السجن والقتل؟
هذا ما يحدث في مصر حيث تتمسك الدولة بالإسلام ديناً رسمياً لها، فترحّب بمَن يعتنقه، وتتجاهل الراغب في تركه، وتندلع فتن طائفية متكررة لمجرد أن شخصاً اعتنق ديناً جديداً.
ورغم أن الدستور يؤكد أن حرية المعتقد مكفولة لجميع المواطنين، فإن آلاف المصريين يعانون من صعوبة تغيير معتقدهم في الأوراق الرسمية، ما يعطل حياتهم الشخصية، ويدمر استقرارهم النفسي، خصوصاً في ظل الضغط الاجتماعي للأسرة ورجال الدين عليهم ليبقوا على عقيدتهم ولا يجلبوا "العار" لعائلاتهم.
فما الواقع الذي يعيشه من غيروا ديانتهم في مصر، أو يريدون ذلك؟ وكيف تنقلب حياتهم رأساً على عقب بسبب قرار يفترض أنه لا يخص سواهم، لكن مجتمعاً كاملاً يحاكمهم عليه؟
الدولة لا تعترف بغير المسلمين
ينص الدستور المصري صراحة على أن حرية المعتقد مكفولة لكل مصري. على أرض الواقع، يسمح القانون لأي شخص باعتناق الإسلام عن طريق التوجه إلى الأزهر وإصدار شهادة تغيير دين. يُخطر الأزهر قسم الشرطة ومصلحة الأحوال المدنية، ما يمهد الطريق لتغيير خانة الديانة في البطاقة الشخصية، والأوراق الرسمية كافة.
ولكن على الجانب الآخر، لا يسمح القانون المصري للمسلمين بتغيير دياناتهم إلى أيّة ديانة أخرى، ولا تتوافر إجراءات لاتخاذ هذه الخطوة بشكل قانوني.
وكانت المحاكم المصرية قد شهدت أول دعوى من مسلم يريد تغيير ديانته إلى المسيحية في أوراقه الرسمية عام 2007، وتبعتها العديد من الدعاوى في السنوات التالية، لكن الرفض كان مصيرها جميعاً، وقالت المحكمة في حيثيات رفضها إن "الإسلام لا يسمح بالردة".
أسباب تغيير الديانة في مصر
تتعدد الأسباب التي تدفع المصريين لتغيير دياناتهم، منها الاقتناع بالدين الجديد، أو عدم الاقتناع بالدين القديم، أو الرغبة في الزواج من شخص على دين آخر، كما يلجأ كثير من المسيحيين لإشهار إسلامهم للتملص من معضلة الطلاق والزواج الثاني.
هاني. أ، مواطن مصري اعتنق الإسلام بعدما اقتنع بشريعته، ووجدها الأنسب لحياته، لكنه تعرض لضغوط كبيرة من عائلته ورجال الدين المسيحيين، كما واجه صعوبة في إتمام الإجراءات الرسمية.
يقول هاني لرصيف22: "ضغطت عليّ الأسرة والكنسية لأتراجع عن قراري، لكنني مضيت قدماً وأشهرت إسلامي. أصعب ما مررت به في هذه التجربة هو مفارقة عائلتي، وسوء معاملة أصدقائي القدامى، لكنني أشعر بالراحة لقراري".
يُعامل هاني معاملة جيدة من المسلمين في محيطه الاجتماعي الجديد، وهو أمر معتاد في مصر، إذ يُعامل مَن يغير دينه بحفاوة من طائفته الجديدة، تكريماً له على خوض رحلة البحث عن الرب واختيار "الدين الصحيح"، وهو نفس ما اختبره كريم عيسى بعد تحوله إلى المسيحية، إذ يحيطه رفاقه المسيحيون بالحب والمودة، "لأن الله محبة" كما يقول.
يقول كريم عيسى لرصيف22: "اقتنعت بالمسيحية ووجدت فيها السلام النفسي، لكنني لم أحاول تغيير ديانتي في الأوراق الرسمية لتفادي المشكلات التي ستطاردني على المستويين الأمني والاجتماعي، ويكفي الضغوط التي مارستها عليّ عائلتي، والصراعات الكبيرة التي دارت بيننا".
تعرّض عيسى لضغوط كبيرة من أسرته، ومن بعض رجال الدين المسلمين الذين حاولوا التحدث إليه وإقناعه بالبقاء على الإسلام، فاحتفظ بإيمانه المسيحي سرّاً لتفادي الضغوط النفسية.
يقول عيسى: "عائلتي تعرف أني لا أومن بالإسلام، وتشك أنني غيرت ديني، لكنني لم أقل هذا صراحة، وبالتالي فالأمور مستقرة بيننا الآن، وما زلت على تواصل معهم".
أعلن عيسى عن دينه الحقيقي أمام قلة "مستنيرة" من أصدقائه، بحسب تعبيره، وتقبلوا الأمر بشكل حضاري أراحه نفسيّاً. يقول: "تملؤني راحة تامة، وإذا اقتضى الأمر أن أُقتَل لأجل إيماني فهو ربح لي وسعادة".
لا تتوقف الصعوبات المجتمعية عند الراغبين في التحول من الإسلام للمسيحية والعكس، بل يعتبر التحول من المذهب السني إلى الشيعي بين المسلمين أمراً لا يقل حساسية، وهو ما مرت به مروة ص.، التي قالت لرصيف22: "منذ تحولت إلى المذهب الشيعي أعيش في هلع من أن تكتشف عائلتي كتبي الدينية الجديدة، أو أن يراني أحد وأنا أصلي".
اختبرت مروة في رحلة إيمانها ضغوطاً اجتماعية ونفسية كبيرة، فقد أفصحت لبعض زملاء عملها عن تشيّعها فكان رد فعلهم عنيفاً، وهددوها بإبلاغ المديرين. أما في محيط مذهبها الجديد فتتعرض لضغوط كبيرة من رفاقها لتخبر عائلتها بحقيقتها، ويتهمونها بالجبن لأنها تخشى خسارة أهلها.
تقول مروة: "لم أندم على إيماني الجديد رغم ما أتعرض له، مَن لا يبحث ويفكر هو شخص غبي، وأدرك أنه من الوارد أن أغير ديانتي مستقبلاً، ولكنني مرتاحة الآن".
وبعيداً عن الإسلام والمسيحية، مر يوسف ك. بتجربة فريدة من نوعها، إذ تحول إلى الديانة اليهودية، وهو الأمر الذي لم يستطع مواجهة المجتمع المصري به. يقول: "اقتنعت باليهودية وقررت التحول إليها، ولكن لم يكن أمامي من سبيل سوى السفر للخارج لأتمكن من تغيير ديانتي".
مارست عائلة يوسف ضغوطاً كبيرة عليه ليتراجع عن قراره، وكذلك حاول رجال الدين ثنيه عن ترك الإسلام، فكان الهروب هو الحل الوحيد ليعيش كما اختار لنفسه.
يتحفظ يوسف في ذكر الضغوط التي مورست عليه، لكنه يؤكد أنه تلقى تهديدات عرضت حياته للخطر. وبعد خروجه من مصر انقطعت صلته بعائلته، ولم يرغب في إخبارنا كيف عامله أصدقاؤه، وكيف أصبحت حياته الآن.
الملحدون المصريون لا مكان لكم هنا
تزداد الأمور صعوبة في حياة المصريين الملحدين واللادينيين، فالدولة المصرية لا تعترف بوجودهم، فضلاً عن كتابة معتقدهم في الأوراق الرسمية، ويلاحقون بحزمة من التهم الجاهزة، أبرزها ازدراء الأديان، وتهديد السلم العام، بجانب ملاحقتهم بالعنف والإيذاء الجسدي حال إفصاحهم عن أفكارهم للمحيطين بهم، والذي يصل للتهديد بالقتل.
تقول نسمة لرصيف22: "أنا ملحدة، ولا أملك سوى اللجوء لدولة علمانية تحميني".
تنتمي نسمة لأسرة مسلمة متدينة أجبرتها على التمسك بمظاهر الدين منذ الصغر، وقد جابهتها بعنف حين عبّرت عن أفكارها، وهددتها أمها بالطرد من المنزل، أما على مواقع التواصل الاجتماعي فتأتيها بانتظام رسائل تهددها بالقتل، وتتهمها بالكفر والعهر.
التجربة الأسرية القاسية نفسها تعرضت لها سارة ن. التي أفصحت عن أفكارها لأمها فقط، فهاجمتها وهددتها بالطرد من المنزل، وأنها ستحترق في الجحيم. رد فعل الأم العنيف كان سبباً في التزام سارة الصمت وكتمان أفكارها حتى عن أقرب أصدقائها لتفادي النبذ الاجتماعي.
العواقب المخيفة لتغيير ديانة النساء
إذا كان تغيير الشخص لدينه أمراً محفوفاً بالمخاطر، فإن الموضوع يصبح أكثر حساسية إذا كان هذا الشخص امرأة، إذ تتداخل الحمية الدينية مع مفاهيم الشرف والحفاظ على العرض لتنتج كوارث أبسطها الفتن الطائفية.
وقد شهدت مصر جرائم قتل مروعة بسبب تغيير دين السيدات، مثلما حدث للسيدة مروة أحمد، التي هربت من أسرتها بالفيوم لتتزوج مسيحيّاً، وعندما عادت إليهم ذبحها عمها وابناه، في حادثة هزت مصر في نوفمبر 2015.
رغم أن الدستور المصري يكفل حرية المعتقد، يسمح القانون لأي شخص باعتناق الإسلام ولكنه لا يسمح للمسلمين بتغيير دياناتهم
لم تتوقف كارثة حادثة مروة عند قتلها، بل إن أسرتها عقدت جلسة صلح مع أسرة زوجها المسيحي، واشترطت عليهم بيع منزلهم وترك قريتهم. وبعد رفضهم اشتعل الوضع، واضطرت الشرطة للتمركز جوار منزل العائلة المسيحية لمنع أي اشتباكات.
وفيما يعتبر القتل والضرب والحبس والمطاردة، عقوبة العائلة للفتاة التي تغير دينها، فإن التهجير عقوبة جماعية لعائلة الشاب الذي غيرت الفتاة دينها بسببه.
التظاهر أمام الكنائس أيضاً يعتبر أحد أساليب رفض تغيير ديانة النساء في مصر، فإذا كانت مسيحية وأسلمت، أو هربت مع حبيب مسلم، يتظاهر أقباط قريتها أو مدينتها أمام الكنيسة التابعين لها، لإعادتها لأسرتها، مثلما حدث في مدينة العاشر من رمضان في مايو 2015، عندما هربت فتاة تدعى جاكلين مع حبيبها شكري، وتزوجته عرفيّاً، حتى عثرت عليها الشرطة في الإسكندرية وأعادتها لأسرتها.
المسلمون أيضاً يقصدون الكنائس للتظاهر، كما حدث في مايو 2011، عندما تظاهر مئات السلفيين أمام كنيسة "مار مينا" في إمبابة بمحافظة الجيزة، مطالبين بإعادة فتاة تدعى عبير قيل إنها أسلمت واحتجزها مسيحيون في الكنيسة، فاندلعت اشتباكات عنيفة استعملت فيها قنابل المولوتوف وطلقات الرصاص، وانتهت بمقتل نحو 10 أشخاص، وجرح المئات، في واحد من أقبح حوادث الفتنة الطائفية بمصر.
كيف تنظر الدولة المصرية لتغيير الديانة؟
يقول السيد إسحق إبراهيم، مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، لرصيف22 إن مشكلة تغيير الديانة في مصر لها ثلاثة أبعاد، قانوني واجتماعي وسياسي، لكل منها تأثيرها على القضية.
ويشرح: "البعد القانوني لتغيير الديانة في مصر هو أن القانون المصري يسمح بتغيير الدين في اتجاه واحد، هو إشهار الإسلام فقط، فيما يتعذر على المسلم اعتناق أي دين آخر، ولا توجد إجراءات رسمية محددة لإتمام هذا الأمر".
أما البعد الاجتماعي فهو أن قطاعاً عريضاً من المصريين ينظر لتغيير الدين كنوع من العار الاجتماعي، كما لا يعتبر الدين قراراً شخصيّاً يخص الفرد وحده، بل يخص عائلته ومحيطه المحلي حيث يعيش، ويواجه الأمر برفض كبير في أغلب الأحوال، وخصوصاً إذا كان مَن غيَّر دينه امرأة، عندها تتعرض عائلتها لضغوط من الجميع، ويُنظر إليها باعتبارها فشلت في تربية بناتها وتقويمهن، وإذا كانت لديها أخوات تتأثر فرصهن في الزواج والحياة المستقرة.
ويكمل إبراهيم: "أما البعد السياسي فيتعلق برؤية الدولة لنفسها كدولة إسلامية، وأن جزءاً من مهامها هو الحفاظ على القيم والتقاليد الإسلامية، وألا تتعارض القوانين مع الشريعة".
ويُرجِع إبراهيم جزءاً من مشكلة تغيير الديانة في مصر لوجود فكرة خاطئة تعتنقها الدولة، مفادها أن السماح بحرية تغيير الدين من شأنه التأثير على النظام العام، وتهديد سلامة الوطن بتوترات اجتماعية واسعة التأثير قد تعجز الدولة عن السيطرة عليها.
ويقول الحقوقي بـ"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية" إن الكنيسة المصرية كمؤسسة رسمية ترفض اتخاذ أي إجراءات لتحويل المسلمين للمسيحية، أما رجال الدين فمن الوارد أن يمد بعضهم يد العون للراغبين في هذا، عن طريق تعميدهم سرّاً، وتعليمهم الصلاة، وذلك بعيداً عن أعين الأمن لئلا تطالهم تهمة "التنصير"، رغم أن التنصير ليس جريمة طبقاً للقانون، أو تهم أخرى مثل التحريض على الفتنة الطائفية، وتهديد وحدة المجتمع.
هؤلاء دمرهم تغيير ديانتهم في مصر
يؤدي تغيير الديانة إلى السجن أحياناً في مصر، ولعل أشهر واقعة على هذا ما حدث للشاب محمد حجازي، الذي رفع أول دعوى قضائية في تاريخ البلاد لتغيير ديانته في أوراقه الرسمية عام 2007، لكن المحكمة رفضت الدعوى.
تزوج حجازي شابة تدعى زينب، اعتنقت المسيحية بدورها، وأنجبا طفلة طلبا تسجيلها كمسيحية، إلا أن السلطات المصرية رفضت وسجلتها مسلمة في شهادة الميلاد. كافح حجازي كثيراً لتغيير ديانته رسميّاً، حتى قُبض عليه عام 2013، ووجهت له تهمة نشر أخبار كاذبة تحرض على إثارة الفتنة.
بعد انتهاء مدة حبسه وخروجه عام 2016، نشر حجازي فيديو شهيراً على موقع يوتيوب، استفتحه بالتحية الإسلامية، ونطق فيه الشهادتين معلناً عودته للإسلام، مؤكداً أنه لن يظهر في وسائل الإعلام مجدداً، ويرجو من الجميع أن يتركوه وشأنه.
وفي فبراير 2015، حُكم على الشاب المصري شريف جابر بالسجن لمدة عام، بعد اعتقاله بتهمة ازدراء الأديان والدعوة للإلحاد على مواقع التواصل الاجتماعي.
وفي أكتوبر 2014 تعرض الناشط الحقوقي الملحد أحمد حرقان وزوجته لمحاولة اغتيال أمام منزلهما بالإسكندرية، وعند لجوئهما لقسم الشرطة للإبلاغ عن الحادثة، احتجزهما الأمن بدلاً من الجناة.
كذلك اعتقل الملحد المصري ألبير صابر بتهمة ازدراء الأديان، وتعرض للضرب والتعذيب خلال التحقيق معه، ثم صدر ضده حكم بالسجن ثلاثة أعوام، لكنه سافر إلى أوروبا قبل الحكم بيوم واحد، ليحظى بحرية يتوق لها آلاف المصريين المقيدين عن التعبير عن معتقداتهم، في مجتمع يؤمن بأن "مَن بدل دينه فاقتلوه" جنباً إلى جنب "لا إكراه في الدين".