هل يعلن تنظيم داعش عن كل العمليات التي يقف وراءها أم أنه يفضّل أحياناً إبقاء حالة من الغموض حول مسؤوليته في بعض العمليات؟
يسود تقدير بأن داعش يعلن عن كل العمليات التي خطط لها أو ارتُكبت بإلهام منه؛ بل إن بعض التقارير الإعلامية تقول إن التنظيم بدأ في ظل هزائمه يعلن مسؤوليته عن عمليات إرهابية لم يرتكبها؛ وذلك للإبقاء على صورته الدموية المخيفة.
ولكن، هناك تقدير آخر يرى أنه عكس الانطباع بمباهاة التنظيم بدمويته، فإنه في بعض الأحيان يتجنب الإعلان عن عمليات تُظهر التحقيقات أنه يقف وراءها، حسب تقرير لصحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
التقرير عرض حالات لم يعلن التنظيم فيها عن أسماء مرتكبي العمليات الإرهابية التي نفذها، آخرها هجوم مانهاتن بنيويورك الذي وقع الثلاثاء 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017 وراح ضحيته 8 قتلى، بينهم 6 أجانب واثنان أميركيان.
التقرير حاول معرفة سبب هذا التغير في استراتيجية التنظيم الإعلامية.
اعتداءات باريس
تمثل اعتداءات باريس الشهيرة نموذجاً لاستراتيجية الصمت المتبعة أحياناً من قِبل التنظيم حتى لو بشكل جزئي.
ففي الساعات التي سبقت هذه الاعتداءات الإرهابية التي وقعت منذ عامين، استقلت وحدة من مقاتلي تنظيم داعش، تتألف من 10 أشخاص، سياراتها إلى المدينة، حيث أقاموا بأحد الفنادق قبل وضع الأحزمة الناسفة حول أجسادهم.
وبعد مضي أسبوع، أصدر تنظيم داعش فيديو يثني على أفراد تلك الوحدة باعتبارهم "أسوداً"، يضم مقاطع مصورة لكل مقاتل في أثناء تعهده بالولاء لتنظيم داعش.
وكانت تلك المقاطع المصورة تتضمن كل المقاتلين باستثناء صلاح عبد السلام، العضو الوحيد الذي لم يلقَ حتفه خلال الاعتداءات وتمكن من الفرار. وقد تم إلقاء القبض عليه بمخبئه في بلجيكا بعد مطاردة استمرت شهوراً.
ويقول المحللون إنه لم يذكر حتى يومنا هذا الكثير أمام المحققين الذين مارسوا ضغوطاً عليه للإدلاء بالتفاصيل عن كيفية وضع خطة أسوأ اعتداء إرهابي في تاريخ فرنسا.
ويشير تغيّب عبد السلام عن الإصدارات المتعددة التي أطلقها التنظيم –والتي تضمنت صوراً لشقيقه الأكبر، الذي فجر حزامه الناسف بأحد مقاهي باريس في نفس ليلة تلك الاعتداءات الإرهابية- إلى ما قد يصبح توجهاً شائعاً لدى داعش.
وقد يساعد ذلك في توضيح سبب عدم قيام تنظيم داعش بالإعلان عن مسؤوليته عن الاعتداء الذي قام به سائق شاحنة مانهاتن في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2017، قبل إلقاء الشرطة القبض عليه وإعلانها أنه عضو بالتنظيم.
لماذا يمتنع عن الإعلان عن بعض الأسماء؟
يلفت تقرير نيوريورك تايمز إلى أنه رغم بعض الاستثناءات، لا يعلن تنظيم داعش مسؤوليته عن أي اعتداءات حينما يقع أحد أعضائه، في أيدي السلطات.
ويعلق جان تشارلي بريزار، مدير مركز تحليل الإرهاب في باريس، على إغفال داعش اسم المعتدي العاشر في هجمات باريس من قائمة الدعاية التي أطلقها التنظيم، قائلاً: "كما لو لم يكن موجوداً في الأساس".
انتهج تنظيم داعش هذه الممارسة بغض النظر عما إذا كان المنفذ قد تم إيفاده بصورة مباشرة من قبل التنظيم أو استلهم تعاليمه عن بُعد من خلال شبكة الإنترنت.
المعبد اليهودي
ومن بين الاعتداءات التي أكد المحققون ارتباطها بالتنظيم -والتي لم يعلن مسؤوليته عنها مطلقاً، رغم حجم الخسائر التي سببتها- الهجمات التي تم شنها على المعبد اليهودي في بروكسل عاصمة بلجيكا عام 2014، والتي أودت بحياة 4 أشخاص، وعلى قطار ثاليس عام 2015، والتي أدت إلى إصابة 3 أشخاص.
وفي العام الماضي (2016)، حينما ألقت الشرطة القبض على أحمد خان رحيمي، الذي زرع القنابل في نيوجيرسي وحي مانهاتن بتشيلسي، وجدت أيضاً أن صحيفته الملطخة بالدماء تتضمن إشارة إلى أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم داعش، والزعيم الذي يدعو إلى تنظيم الاعتداءات ضد الغرب. ومع ذلك، لم يعلن التنظيم مسؤوليته عن الاعتداءات التي نظمها رحيمي.
ولم يعلن تنظيم داعش مؤخراً مسؤوليته عن حادث الشاحنة الذي وقع في ستوكهولم في أبريل/نيسان الماضي 2017، رغم أن مقترف الحادث كان من بين أعضاء التنظيم.
ولم يعلن التنظيم مسؤوليته أيضاً عن الاعتداء بالسيارة الذي وقع في إدمونتون بكندا، منذ أكثر من شهر، ونفذه شخص قضى بعض الوقت يرفع عَلم تنظيم داعش على لوحة عدادات سيارته من طراز شيفروليه ماليبو قبل استخدامها في الاصطدام بالحواجز المرورية.
وكان إلقاء القبض على منفذ الاعتداء هو العنصر المشترك في كل هذه الحوادث.
وبعد أكثر من 24 ساعة من إلقاء القبض على السائق في اعتداء مانهاتن الذي أودى بحياة 8 أشخاص، ظل الجناح الإعلامي للتنظيم يلتزم الصمت، رغم ترك رسالة تنص على "صمود التنظيم للأبد"، في إشارة إلى شعار التنظيم.
ورغم طلب سايبوف أن يعلق عَلم "داعش" في غرفته بالمستشفى، فضلاً عن وجود العديد من مقاطع الفيديو التي تحتوي على مشاهد قتل عنيفة على هاتفه المحمول، فإن وسائل الإعلام لم تشر إلى تبني التنظيم المتطرف العملية حتى كتابة هذا الموضوع
خلال 24 ساعة
وتأتي سياسة عدم إعلان المسؤولية في ظل فقدان التنظيم مناطق في سوريا والعراق خلال الشهور الأخيرة؛ ما أدى إلى خسارة 90% من أراضي الخلافة التي كان يسيطر عليها.
وربما من المتوقع أن يؤدي الإعلان عن مسؤوليته عن حادث الشاحنة في نيويورك، وهو أسوأ الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها المدينة منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، إلى رسم صورة واضحة لقوة التنظيم.
وتشير إحصاءات صحيفة نيويورك تايمز حول الاعتداءات التي تجاوز عددها 40 على الأهداف الغربية التي أعلن التنظيم مسؤوليته عنها منذ عام 2014- إلى أن تنظيم داعش يعلن في المعتاد مسؤوليته عن الاعتداءات خلال 24 ساعة من وقوعها، رغم وجود بعض الاستثناءات، التي تضمنت اعتداءين خلال الصيف الماضي، أعلن التنظيم مسؤوليته عنهما بعد انقضاء شهر من وقوعهما.
وترى "نيويورك تايمز" أنه من المحتمل أن يكون التنظيم ينظم أوراقه ببساطة.
وتعد الاعتبارات البراغماتية من بين الاعتبارات التي يأخذ بها التنظيم والتي تمنعه من إعلان مسؤوليته عن الاعتداءات، على الرغم من أن كل الأدلة تشير إلى مسؤوليته عنها.
الإخلاص
وقال رافائيل جلوك، الباحث المستقل الذي يركز على البصمة الرقمية للتنظيم ويشارك بنفسه في العديد من المنتديات الإلكترونية التابعة للتنظيم: "الأمر يتعلق في الأساس بالإخلاص. ولن يتشجع أحد على تنفيذ أي من الهجمات التي ينظمها داعش إذا كان يعلم أنه سيتم التخلي عنه عند إلقاء القبض عليه. سوف يتعارض ذلك مع عملية التجنيد بالتنظيم ويساعد على إلغاء الاعتداء التالي".
وذكر أمارناث أماراسينجام، كبير الباحثين بمعهد الحوار الاستراتيجي الذي أجرى لقاءات مع أتباع تنظيم داعش عبر شبكة الإنترنت، أن أعضاء التنظيم أوضحوا له أن عدم إعلان المسؤولية عن الاعتداءات يستهدف حماية المقاتلين.
وقال: "أعتقد أنه أمر يتعلق بالتواصل الداخلي ووسيلة لطمأنة المؤيدين بعدم تخلي التنظيم عنهم في حالة اعتقالهم".
السعي وراء الموت
في المقابل، ذكر آخرون أن تنظيم داعش يشجع أتباعه على الموت في مواجهة الشرطة خلال العمليات الانتحارية. وحينما ينجو المقاتل، تصبح المهمة منقوصة، بحسب ما ذكره بريزار.
وقد تأكدت هذه النظرية من خلال العديد من الاعتداءات الأخيرة، ومن بينها اعتداءات جسر لندن وبرشلونة خلال هذا الصيف، حيث كان المعتدون يرتدون أحزمة ناسفة زائفة (بهدف جلب رد فعل من الأمن.(
وتسعى تعليمات التنظيم عبر الإنترنت إلى تعليم الأتباع كيفية صناعة صديريات متشابهة يتم ارتداؤها لأغراض استجلاب نيران قوات إنفاذ القانون.
وقد يوضح الدافع أيضاً سبب خروج المتهم في اعتداء مانهاتن، سيفولو سايبوف، من شاحنته المستأجرة مسلحاً بمسدسه وبندقيته، وكلاهما لا يكفي لإحداث أضرار جسيمة، ولكنهما يبدوان كذلك أمام الشرطة.
وقال بريزار: "من المفترض أن يلقى حتفه في أثناء المواجهة، بحسب منطقه وعقيدته".
ورفض بريزار وآخرون فكرة تفسير عدم إعلان المسؤولية عن الاعتداء جراء فشله من وجهة نظر التنظيم.
فقد أكد التنظيم مسؤوليته من قبلُ عن اعتداءات تم إحباطها، مثل الاعتداء الذي نفذه أحد أعضائه بسيارته المحملة بالمتفجرات حينما صدمها بسيارة الشرطة في شارع الشانزليزيه بباريس خلال شهر يونيو/حزيران.
ولم يصب أحد حينذاك سوى المعتدي، الذي وضعته فرنسا ضمن قائمة الإرهابيين المطلوبين.
وقد لقي المعتدي مصرعه وأعلن تنظيم داعش بعد فترة وجيزة مسؤوليته عن الاعتداء، واعتبره تذكِرة للقوى الغربية بأن "المعركة قد وصلت إلى أراضيها".