لماذا تُصرّ الجماعات الأصولية على حصر الشريعة الإسلامية في حدودها الدامية؟ - مقالات
أحدث المقالات

لماذا تُصرّ الجماعات الأصولية على حصر الشريعة الإسلامية في حدودها الدامية؟

لماذا تُصرّ الجماعات الأصولية على حصر الشريعة الإسلامية في حدودها الدامية؟

أسماء العماوي:

 

لعل أوّل ما يتبادر إلى ذهن المسلم عند سماع مصطلح الشريعة الإسلامية هو ما يتعلق بإقامة الحدود الدينية المتمثلة في رجم وجلد الزاني وقطع يد السارق وقتل المرتد، إلخ.

لا تأتي هذه الفكرة من فراغ بل تتأسس على مراقبة كيفية تطبيقها في بلدان إسلامية كثيرة كالسعودية وايران والسودان... وعلى خطابات الجماعات الإسلامية المتطرفة ومنها داعش الذي أسس لفترة "دولة" تطبّق الشريعة.

وتكاد عقوبات الحدود الشرعية تلتهم "مفهوم الشريعة" ذاته، إلى حد يطرح إشكالية مفادها أن المشكلة لا تكمُن حصراً في الدعوة إلى تطبيق الشريعة، مع ما قد يُناقض مفهوم الدولة الحديثة، بل بالأساس في كيفية فهمها وأساليب تطبيقها.

الشريعة... إشكالية المفهوم وكيفية التطبيق

تعتبر الحركة الوهابية التي ظهرت مع محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزية العربية، في أواخر القرن الثامن عشر، المشتل الذي نبتت فيه أسس معظم التيارات الإسلامية المعاصرة، المعتدلة منها والمتطرفة، لا سيما أنها ورّثت أفكارها مثل "تطبيق الشريعة الإسلامية" و"الإسلام دين ودولة" لهذه التيارات.

في مصر، أتى على رأس المنظرين لمفهوم تطبيق الشريعة حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين سنة 1928 ومرشدها الأول ورئيس تحرير أول جريدة أصدرتها الجماعة سنة 1933.

كتب البنا مقالات عدّة حول تطبيق الشريعة ومميزاته، وكان ذلك إلى حد بعيد تحت وطأة الامتعاض من تحلل السلطنة العثمانية، آخر الخلافات الإسلامية، وذكر في مقال في جريدة الإخوان المسلمين (عدد 25، سنة 1934)، "أن دستور الدولة ينص على أن الإسلام دينها الرسمي، ويجب أن تراعي الحكومة ذلك وتعمل على تنفيذه، فتُحلّ التشريع الإسلامي محل التشريعات الأخرى التي تصطدم مع شريعة الإسلام".

وفي باكستان، كان أبو الأعلى المودودي، الذي عاش خلال القرن العشرين وأسهم في تأسيس "الجماعة الإسلامية في الهند"، من بين أهم المنظرين لفكرة قيام "الدولة الإسلامية"، فصار أحد أهم رموز حركات الإسلام السياسي الحديثة.

أعلن المودودي رفضه القاطع للدولة المدنية والعلمانية والقومية، وقال في كتابه "الحكومة الإسلامية": "إن المسلمين لو أرادوا أن يعيشوا مسلمين حقيقة، فلا بد من أن يطيعوا الله في دقائق حياتهم وعظائمها، وأن يحكّموا شريعته وقانونه في حياتهم الشخصية والجماعية، إذ الإسلام لا يقبل أبداً أن يُعلن الإنسان إيمانه، بأن الله رب العالمين ثم يصرّف أمور حياته وشؤونها وفق قانون غير إلهي".

تأسيساً على هذه المفاهيم، لم تتوانَ جماعات الإسلام السياسي في مصر عن رفع لافتات من قبيل "نعم للشريعة"، و"الشريعة دستورنا"، التي سطعت في ميادين مصر بعد ثورة يناير 2011، من أجل حشد الجمهور المؤمن وراء سعيها إلى الهيمنة على المجال العام للوصول إلى الحكم.

ومع ذلك، ففي حين اتفقت هذه الجماعات على حضور الشريعة كستار تخفي وراءه أطماعها السياسية، فإنها في المقابل اختلفت حول كيفية تطبيقها.

يذكر الباحث المصري في مركز الدين والسياسة عمر غازي في مقال له بعنوان: "تطبيق الشريعة في مصر بين الواقع والمزايدات" نموذجين اختلفت رؤاهما حول تطبيق الشريعة وهما حازم أبو إسماعيل، وعبد المنعم أبو الفتوح، وكانا مرشحين لرئاسة الدولة المصرية بعد ثورة يناير.

ففي حين يتمثل تطبيق الشريعة، وفقاً لأبي إسماعيل، في تطبيق بعض الأحكام كتحريم الخمور والربا والخلاعة، فإن أبا الفتوح دعا إلى استلهام روحها التي تأمر بالعدل والإحسان لتسمو النفوس، وإلى تطبيق مقاصدها من عدل ورحمة ومصلحة عامة.

وحضر الاختلاف في فهم الشريعة، بين حصرها بكونها حدوداً وأحكاماً وبين اعتبارئها مبادئ كلية قائمة على العدل والمساواة، بقوة أثناء مناقشة التعديلات على الدستور سنة 2012. فقد وقع خلاف حول المادة الثانية وهي مادة الشريعة الإسلامية، فتناحر التيار الإسلامي (السلفي منه على وجه التحديد) مع باقي التيارات الليبرالية، وطالب بأن تكون أحكام الشريعة وليس مبادئها المصدر الرئيسي للتشريع.

تناول هذا المطلب الباحث المصري علي مبروك، في مقال بعنوان "معركة الشريعة بين الأحكام والمبادئ"، واعتبر أنه مؤشر على رغبة في "تحويل التاريخ إلى دين"، مضيفاً أنه "على فرض أن الفقه هو وضع إلهي، فإن ذلك لا ينبغي ألا يحول دون ربط صلاحه بالوقت".

ويشير مبروك في كتابه "مفهوم الشريعة بين تسييس الإسلام وتحريره" إلى أن "مفهوم الشريعة يُعدُّ أحد أكثر المفاهيم خطورةً في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، بسبب ما يسكنه من الغموض والالتباس، الذي جعل من الميسور على جماعات الإسلام السياسي أن تتلاعب به من أجل حشد الجمهور وراء سعيها إلى الهيمنة على المجال العام في تلك المجتمعات".

بدوره، يميّز نصر حامد أبو زيد، في كتابه "دوائر الخوف/ قراءة في خطاب المرأة"، بين الشريعة وبين الفقه الذي هو الاجتهادات البشرية للعلماء المسلمين في مختلف العصور.

ويقول إن مفهوم الشريعة يشير على مستوى التطبيق إلى التأويلات والاستنباطات البشرية (أي الآراء الفقهية السابقة)، مؤكداً "أن مفهوم الشريعة الجاري حصره في تطبيق الحدود، وبعض الأحكام الخاصة بقوانين الميراث، والزواج، والولاية، إلخ، وهي القوانين المطبّقة تطبيقاً حرفياً في معظم الدول الإسلامية، ليست مطبقة بمنهج قرآني منفتح، متسق مع مقاصد القرآن الكلية، بل هي مطبقة وفق تأويلات وتفسيرات فقهية تعكس تقاليد وشرائع مجتمعات خارج التاريخ".

ويخلص أبو زيد إلى أن "الشريعة في الاستخدام القرآني هي الدين" وهذا الدين "هو ما شرعه الله لمحمد، وهو ما سبق أن شرعه للرسل قبله، فالدين واحد، والأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، لأنها قابلة للتطور والنسخ".

صراع التأويلات بين الأحكام والمبادئ

يستند أبو زيد في قوله بعدم صلاحية الأحكام والحدود للتطبيق في العصر الحديث، على قراءة هذه الأحكام ضمن سياقها التاريخي، ويدعو إلى ضرورة تأويلها بما يتوافق مع مقاصد ومبادئ القرآن الجوهرية، على أساس أن الأحكام والحدود هي من المتغيّرات، بينما المبادئ وهي العدل والمساواة، والحرية، والعقل من الثوابت.

ويكتب في "دوائر الخوف": "إننا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة، فنستطيع التمييز في مجال الأحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه لها أسلافنا".

عن حكم "الجزية" على سبيل المثال، يقول إنه أمر قرآني صريح، ولكن تنفيذه كان جارياً في المجتمعات الإسلامية قديماً، وليس على المسلمين تنفيذه اليوم، لأنه كان مناسباً للعصر الذي نزل فيه، ولكن التطور الذي حدث في طبيعة العلاقات الإنسانية وفي بنية المجتمعات أدى إلى اعتماد المواطنة وليس الدين أساساً للاجتماع البشري.

"تبنّت الجماعات الإسلامية الأصولية مفهوم حاكمية الله’ لتكريس هيمنتها السياسية السلطوية"... هل الهدف من الدعوة إلى تطبيق الشريعة كما ظهرت في الأحكام الفقهية القديمة هو السيطرة على حياة الناس؟

"الزعم بأن الخلافة مقام ديني... كان من مصلحة السلاطين... حتى يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم... وما زالوا يعملون على ذلك من طرق شتى، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله"

وبناء على ما أقره أبو زيد، يجوز تأويل معظم الأحكام والحدود الدينية التي ارتبط تشريعها بسياق اجتماعي محدد، والتي تشير في أغلب الأحيان إلى فرض التمييز بين الناس سواء على مستوى طبقي أو ديني أو جندري، بما يتوافق مع المقاصد الجوهرية للشريعة، خاصةً أن المساواة صارت أساس العقد الاجتماعي في المجتمعات الحديثة، كما يوضح أبو زيد.

ولكن الخطاب الأصولي لا يقبل بهذا الفهم للشريعة ويصرّ على أن أحكامها صالحة حرفياً لكل زمان ومكان، ولا يجوز تعطيل حدودها، مغفلاً البعد التاريخي والسياق الاجتماعي لتشريع الأحكام والحدود.

فنرى سيد قطب يؤكد في كتابه "معالم في الطريق" أن دار الإسلام هي تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويصرّ على "ضرورة الصرامة في إقامة الحد وعدم الرأفة في أخذ الفاعلين بجرمهما"، وعلى أن تعطيل الحد أو الترفق في إقامته تراخٍ في دين الله وحقه.

فقه السياسة عند الأصوليين

ارتبطت دعاوي تطبيق الشريعة الإسلامية بنظم سياسية أراد أصحابها تأسيسها على الشريعة باعتبارها مصدراً متعالياً للشرع الإلهي، حسبما جاء في نظرية "الحق الإلهي والحاكمية لله" التي نظّر لها المودودي وقطب، وتبناها حديثاً أيمن الظواهري وأبو بكر البغدادي.

قيام الدولة الإسلامية بحسب هؤلاء يجب أن يتأسس على هذه الحاكمية كغاية مطلقة يتجه إليها الاجتماع الإنساني. ففي تأصيل المودودي لفكرة "الحاكمية الإلهية" كان أوّل مَن أسس لهذا الأمر في العصر الحديث، كأنموذج للمجتمع الصالح الذي يشبه تماماً دولة الرسول.

يعتبر المودودي في كتابه "تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحاضر" أن "الأمر الأساسي الذي قام عليه نظام الحكم الذي أقامه النبي (ص)، هو التسليم بأن السلطة العليا المطلقة ليست إلا لله سبحانه وتعالى، والحكم لله، ولا يجوز لأحد أن يشرّع للناس قانونهم".

ومن بين المفاهيم الرئيسة الأخرى التي قام المودودي بالتأصيل لها، واستعارها منه سيد قطب، مفهوم "الجاهلية"، الذي وضعه كمقابل للحاكمية، إذ يعتبر أن حكم البشر من دون الله نوع من الجاهلية، وكتب في كتابه "موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه، وواقع المسلمين وسبيل النهوض بهم": "يختلف الإسلام عن الجاهلية، لأنه قائم على الحاكمية لله فيما الثاني قائم على الحاكمية للإنسان".

ولعل الإحالة إلى "حاكمية الله" كانت من أهم أدوات خطابات الجماعات الإسلامية الأصولية وتبنتها لتكريس هيمنتها السياسية السلطوية، فالشريعة كما يدعون إليها "لم تكن سوى مظهر من مظاهر السياسة"، كما أوضح محمد عابد الجابري في كتابه "الديمقراطية وحقوق الإنسان".

وتنسحب صفات القداسة والإيمان على الدول الإسلامية المطبقة لـ"شرع الله" على حكامها المناط بهم تطبيق الشريعة، فلا يجوز الاعتراض على حكمهم أو محاولة الخروج عليهم، لان ذلك يُعتبر "خروجاً معلناً وصريحاً عن الدين الإسلامي"، بحسب المودودي في كتابه "تطبيق الشريعة الإسلامية في العصر الحديث".

وأتت هذه التنظيرات الأساسية في أدبيات حركات الإسلام السياسي، بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفي إطار الدعوة إلى إعادة إحياء الخلافة الإسلاميّة، وهزمت أفكاراً إسلامية معارضة مثل أفكار الشيخ علي عبد الرازق الذي اعتبر أن الخلافة والحكومة الإسلامية ليستا من أصول الدين، في كتابه "الإسلام وأصول الحكم".

ومما كتبه عبد الرازق أن "وحدة العرب كما عُرفت كانت وحدة إسلاميّة لا سياسيّة، وكانت زعامة الرسول فيهم زعامة دينيّة لا مدنيّة، وكان خضوعهم له خضوع عقيدة وإيمان، لا خضوع حكومة وسلطان"، و"أن الزعم بأن الخلافة مقام ديني... كان من مصلحة السلاطين... حتى يتخذوا من الدين دروعاً تحمي عروشهم... وما زالوا يعملون على ذلك من طرق شتى، حتى أفهموا الناس أن طاعة الأئمة من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله".

رصيف 22

 

 

 

 

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*