عبد السميع جميل:
المذاهب الفقهية السنية تجاوز ت 90 مذهبًا. كان هناك مثًلا مذاهب طاووس في اليمن، ومكحول، والأوزاعي في الشام، ومسلم بن يسار، ومحمد بن سيرين، وأبي أيوب السختياني في البصرة، وسفيان الثوري، وإبراهيم النخعي، وحماد بن أبي سليمان، شيخ أبي حنيفة في الكوفة، وداوود الظاهري في بغداد، وفي المدينة سعيد بن مسيب، وعروة بن الزبير، ونافع مولى ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وربيعة بن عبد الرحمن المشهور بربيعة الرأي.
حتى في الأندلس كان ابن حزم، وفي نيسابور إسحاق بن راهويه، شيخ البخاري، وفي مصر الليث بن سعد. اختفت كلها ولم يبق سوى المذاهب الأربعة.
لماذا المذاهب الأربعة بالتحديد؟
في الجزء السادس من “وفيات الأعيان” يقول ابن حزم الأندلسي: “مذهبان انتشرا في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي قضاء القضاة أبو يوسف يعقوب، صاحب أبي حنيفة، كانت القضاة من قبله، فكان لا يولي قضاء البلدان من أقصى المشرق إلى أقصى إفريقية إلا أصحابه والمنتمين إليه وإلى مذهبه، والثاني مذهب مالك بن أنس عندنا في بلاد الأندلس”.
ابن قتيبة هو الآخر في “السياسة والإمامة” ينقل على لسان الإمام مالك نفسه حواره مع الخليفة المنصور العباسي سنة 136هـ، بهدف استمالته لنشر مذهبه على الجميع بقوة السلطة، فقال: “قال لي: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودونه ودون منه كتبًا، وتجنب شدائد عبد الله بن عمر، ورخص عبد الله بن عباس، وشواذ عبد الله بن مسعود، واقصد إلى أواسط الأمور، وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك، ونبثها في الأمصار، ونعهد إليهم أن لا يخالفوها ولا يقضوا بسواها.
فقلت له: أصلح الله الأمير إن أهل العراق لا يرضون علمنا ولا يرون في عملهم رأينا. فقال أبو جعفر: يحملون عليه، ونضرب عليه هاماتهم بالسيف، ونقطع طي ظهورهم بالسياط”.
انتشر المذهب المالكي في الأندلس أيضًا بفضل تلميذ مالك يحيى بن يحيى الليثي، الذي كان مقربًا من السلطة الأموية هناك طبقًا لقول ابن حزم: “فإنّ يحيى بن يحيى كان مكينًا عند السلطان، مقبول القول في القضاة، فكان لا يلي قاضٍ في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه، والناس سراع إلى الدنيا، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به”.
وكذلك الأمر في أفريقية/ تونس، فقد عمل الفقيه المالكي سحنون التنوخي على نشر المذهب المالكي في تونس حين تولى منصب القضاء سنة 234هـ في دولة الأغالبة. بالإضافة لتمرد المعز بن باديس سنة 441هـ على الدولة الفاطمية في المغرب، ومحاربته للمذهب الشيعي، جاعلًا المذهب المالكي مذهبًا رسميًا لبلاد المغرب العربي حتى الآن.
هكذا ساهمت السلطة في شهرة وانتشار المذهبين، الحنفي والمالكي، وهو ما تكرر مع المذهب الشافعي أيضًا، فقد انتشر هو الآخر في مصر والشام والعراق حتى جاءت الدولة الفاطمية وأبطلت العمل به لصالح المذهب الشيعي الإسماعيلي للدولة الفاطمية،
ثم جاء صلاح الدين الأيوبي سنة 565هـ فأسقط الدولة الفاطمية، وفرض المذهبين الشافعي والمالكي على الناس، كما يقول المقريزي: “فلما كان في سنة ست وستين أبطل المكوس من ديار مصر، وهدم دار المعونة بمصر، وعمرها مدرسة للشافعية، وأنشأ مدرسة أخرى للمالكية، وعزل قضاة مصر الشيعة، وقلد القضاء صدر الدين عبد الملك بن درباس الشافعي، وجعل إليه الحكم في إقليم مصر كله، وعزل سائر القضاة في الأقاليم، واستناب قضاة شافعية، فتظاهر الناس من تلك السنة بمذهب مالك والشافعي، واختفى مذهب الشيعة إلى أن نسي من مصر”.
تكرر السيناريو مع المذهب الحنبلي علي يد المتوكل العباسي الذي انحاز لابن حنبل وأهل الحديث عمومًا ضد المعتزلة، وقدم لهم الأموال والهدايا، وقربهم إليه بحسب ابن كثير في “البداية والنهاية”، بقوله: “وكان مسير أحمد إلى المتوكل في سنة سبع وثلاثين ومائتين، ثم مكث إلى سنة وفاته، وما من يوم إلا ويسأل عنه المتوكل ويوفد إليه في أمور يشاوره فيها، ويستشيره”.
لذلك أطلق الحنابلة على المتوكل وصف محيى السنة؛ لأن مصطلح “أهل السنة” لم يظهر في تاريخ المسلمين إلا في عهد المتوكل سنة 234هـ، وفق ما ذكره المسعوديّ، بقوله: ”أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل، والترك لما كان الناس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة”.
وهو ما تكرر في القرن الخامس الهجري مع الخليفة العباسي القادر بالله الذي أصدر سنة 408هـ بيانه الشهير بـ “العقيدة القادرية” الذي انحاز فيه تمامًا لعقائد الحنابلة، وقلدهم منصب القضاء وقربهم إليه، وكان على رأسهم القاضي الحنبلي الشهير أبو يعلى الفراء، ما أدى إلى انتشار المذهب الحنبلي في كثير من أحياء بغداد.
ظل الأمر كذلك حتى جاءت دولة المماليك واعتمدت رسميًا تلك المذاهب الأربعة فقط، طبقًا لما ذكره المقريزي في “المواعظ والاعتبار”: “فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولى بمصر أربعة قضاة، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي، فاستمر ذلك من سنة 665ه، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام، وعودي من تمذهب بغيرها، وأنكر عليه، ولم يول قاض ولا قبلت شهادة أحد، ولا قدم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلدا لأحد هذه المذاهب، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة بوجوب اتباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها”.
ما سر انحياز السلطة لتلك المذاهب الأربعة تحديدًا؟
لم يكن في الأمر وجاهة أو ميزة لانتشار تلك المذاهب الأربعة دون غيرها، إلا رغبة السلطة التي وجدت في تلك المذاهب تبريرًا لأفعالها بداية من الدعوة لوجوب طاعة الحاكم، وحرمة الخروج عليه وإن كان ظالمًا، وصولًا إلى إضفاء الشرعية الدينية على هؤلاء الحكام.
فالدولة العثمانية – مثلًا – لم تجد لنفسها شرعية دينية لحكم المسلمين وفق المذاهب الفقهية السنية، المالكية والشافعية والحنبلية، التي تشترط في الخليفة أن يكون عربيًا قرشيًا، وهو شرط غير ممكن مع السلاطين العثمانيين، كونهم أتراكًا.
ولذلك استحسن الأتراك مذهب أبي حنيفة، لأنه لم يشترط القرشية في الخليفة، ومن ثمَّ انحازوا رسميًا لمذهبه، وعملوا على نشره بين الناس بكل الطرق، حتى أصبح أشهر مذهب فقهي بسبب سيطرة الدولة العثمانية على مساحات واسعة من العالم العربي ما يقرب من سبعة قرون من الزمن.
انحازت الدولة العباسية للمذهب الحنفي من قبل أيضًا بسبب “الحيل الشرعية” التي توسع فيها القاضي أبي يوسف، وانحاز حكام الأندلس والمغرب العربي إلى المذهب المالكي لضمان ولاء العامة، وانحاز السلاجقة والأيوبيون من بعدهم للمذهب الشافعي لاستخدامه سلاحًا في الحرب ضد المذهب الشيعي الإسماعيلي، وكذلك انحاز المتوكل والقادر بالله للمذهب الحنبلي لضمان وجوب طاعة الحاكم وحرمة الخروج عليه وإن كان ظالمًا، وهو الأمر الذي أضاع فرصة عظيمة على العالم العربي – منذ عهد المتوكل – كانت قادرة على صناعة مصير مختلف لمجتمعاتنا قبل عصر الأنوار الأوروبي بسبعة قرون كاملة.
وذلك على يد المعتزلة الذين عرفوا بعشق الفلسفة والعلوم، والاهتمام بحركة الترجمة والانفتاح على الثقافات والحضارات الأخرى، وتقديم العقل على النقل، ورفع القداسة عن الشخصيات التاريخية والدينية والسياسية، وغيرها من المميزات التي كانت قادرة على وضع مجتمعاتنا على بداية عصر نهضة حقيقي لولا انقلاب المتوكل وانحيازه للحنابلة مثل غيره من الحكام الذين انحازوا لأكثر المذاهب الرجعية خدمة لمصالحهم.