بابكر فيصل
تناولت في مقال سابق موضوع الربا كما تطرحه جماعات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين، وأوضحت أن الفائدة البنكية ليست هي الربا المقصود في القرآن كما يزعم هؤلاء، وعددت الأسباب التي تبين أهمية الفائدة في الاقتصاد الحديث، وأن البنوك كمؤسسات مالية تلعب دورا مهما في تشجيع الادخار وتطبيق السياسات النقدية وتحريك الاستثمار عبر دائرة لا يكتمل اتصالها إلا بمنح الفائدة.
كذلك قلت إن البدائل المعروفة بصيغ التمويل الإسلامي (أشهرها المرابحة) ليست سوى حيل فقهية للالتفاف على نسبة الفائدة، ذلك لأن تجربة البنوك التي يطلق عليها مسمى "البنوك الإسلامية" أثبتت أن النسب الفعلية التي تؤخذ في هذه البدائل تكون في العادة أكثر ارتفاعا من نسبة الفائدة وتمثل استغلالا حقيقيا لحاجة المدين.
ومن ناحية أخرى فإن العديد من علماء الاقتصاد والخبراء الماليين وغيرهم من المهتمين بهذا الشأن ظلوا ينتقدون تجربة البنوك الإسلامية وأثرها المدمر على الاقتصاد السوداني، بينما كان تيار الإسلام السياسي ينكر الدور السلبي الذي لعبته تلك البنوك ويستمر في نشر دعايته التي تستغل المشاعر الدينية لدى عامة الناس وتؤكد أن الله يبارك أموال تلك البنوك لأنها تدار وفقا للشريعة وتضبط بموجهات فقه المعاملات الإسلامي.
ولكن وقعت مفاجأة كبرى الأسبوع الماضي، أكدت ما ظللنا نقوله ويقوله غيرنا منذ سنوات طويلة حول حقيقة معاملات البنوك الإسلامية، حيث أدلى جنرال السودان عمر البشير بتصريحات في غاية الخطورة في هذا الإطار قال فيها إن: "المرابحات في البنوك السودانية نتائجها أسوأ من أي نظام ربوي موجود في العالم".
وأضاف أنه "بمراجعة أداء المصارف العالمية وجد أن التعامل بسعر الفائدة لا يتعدى 2 أو 3 بالمئة، إلا أنه في المرابحة لدى البنوك يصل إلى 15 بالمئة"، وتساءل: "أعطوني أي نظام ربوي في العالم يأخذ أرباح 15 بالمئة؟".
ومع اعتراف حاكم السودان بفشل البنوك الإسلامية واستغلالها لحاجة المدينين بصورة بشعة، إلا أنه وكعادة أهل الإسلام السياسي لجأ لتبرير ذلك الفشل بتبني نظرية المؤامرة وإلقاء اللوم على جهات أخرى، حيث قال إن العقول التي تدير تلك البنوك هي "نتاج نظام مصرفي غربي وضعي علماني يهيمن على تفكيرهم وأدائهم، وهذه هي نتائجه!".
بالطبع لن ينطلي كلام الجنرال على أحد، حيث أنه ومنذ أن ركب السلطة عبر الانقلاب العسكري قبل ثلاثين عاما طبَّق سياسة أسماها "أسلمة المصارف"، منع بموجبها البنوك من العمل بسعر الفائدة، وفرض عليها التعامل بصيغ التمويل المسماة إسلامية، وفوق هذا وذاك قام بإلزام كل البنوك بتعيين جسم اسمه "هيئة الرقابة الشرعية" يتكون من عدد من رجال الدين مهمتهم إجازة أو رفض صيغ التعامل وفقا للشريعة الإسلامية.
ومن هنا، فإن أول ما يطرأ على الذهن عند النظر في حجة الجنرال الواهية حول سيطرة العقلية الوضعية على القائمين على أمر إدارة البنوك هو السؤال حول الكيفية التي كانت تُمرِّر بها هيئات الرقابة الشرعية طوال العقود الثلاثة الماضية المعاملات التي تصل فيها نسبة الفائدة لـ 15 بالمئة؟ ولماذا صمتت الجهات الحكومية المسؤولة، من شاكلة المصرف المركزي ووزارة المالية، على استمرار هذه المعاملات طيلة هذه السنوات حتى اكتشفها الجنرال فجأة وبعبقرية يحسد عليها؟
حقيقة الأمر هي أن المصارف المسماة إسلامية وليدة فلسفة اقتصادية طفيلية لا يحركها اهتمام كبير بتوجيه التمويل للأنشطة التنموية طويلة الأمد وكبيرة المخاطر مثل الصناعة أو الزراعة، بل تصبُّ كل اهتمامها في معاملات السمسرة قصيرة الأجل وذات العائد السريع المضمون، وهو الأمر الذي جعل تلك المصارف توجه أكثر من 70 بالمئة من مواردها للتمويل عبر صيغة المرابحة التي تلائم طبيعة أهدافها.
وليس أدلّ على قولنا هذا من شهادة مؤسسي تجربة البنوك الإسلامية أمثال الشيخ صالح الكامل والدكتور أحمد النجار، اللذين أوضحا أن صيغ التعامل المطروحة من قبل تلك البنوك لم تأتِ بجديد يذكر، ولم تسهم في دفع التنمية والإنتاج، بل ركزت جلّ عملها في تمويل العمليات قصيرة الأجل وعالية العائد.
غير أن الأمر المثير للدهشة في هذا الصدد هو قول الجنرال البشير إنه سيسعى لمعالجة الخلل الكبير في ممارسات المصارف الإسلامية بترتيب لقاء مع "مجالس الرقابة الشرعية في المصارف لبحث عدم اللجوء إلى المرابحات في المعاملات والصيغ الإسلامية المطبقة إلا عند الضرورة وتطبيق صيغ أخرى!".
وكأن الجنرال بحديثه هذا يعمل بعجز بيت أبو نواس الشهير: "داوني بالتي كانت هي الداء"، فالجميع يعلم أن كارثة البنوك الإسلامية وقفت وراءها هذه الهيئات الشرعية، حيث تكونت أول هيئة لأول بنك تجاري إسلامي في العالم "بنك فيصل الإسلامي السوداني" على أسس دينية بحتة، واختفى فيها دور الاقتصاديين والمحللين الماليين والمهنيين والحرفيين ورجال الأعمال وغيرهم من أصحاب المصلحة في الاقتصاد السوداني.
إن أعضاء الهيئات الشرعية ليست لديهم معرفة حقيقية بالمجالات الاقتصادية والمالية التي تمكنهم من الإفتاء في الاقتصاد والذي يعتبر من أكثر العلوم الاجتماعية تعقيدا وتشعبا خاصة في عصر العولمة وثورة تقنية معلومات، وهم يتشاركون مع الجهات التنفيذية في تحمل المسؤولية الرئيسية في الانهيار الكبير الذي آلت إليه أوضاع الجهاز المصرفي في السودان، وبالتالي فإنه لا يؤمل أن يأتي من طرفهم الحل للمشكل الذي صنعوه بأيديهم.
كانت المصارف السودانية تقوم بدورها الاقتصادي المنوط بها بكفاءة ومهنية، ولم يشكل وجودها عبئا على الاقتصاد السوداني، ولكن بعد سيطرة الإخوان المسلمين وتطبيق سياسة أسلمة البنوك وتبني صيغ المعاملات المسماة شرعية، تحولت تلك المصارف، بسبب تحميلها للعملاء كل المخاطر المالية والإدارية المرتبطة بعملية التمويل ودفع مقدم الجدية وارتفاع العمولات البنكية إضافة للمحسوبية السياسية، إلى أدوات لوأد الاستثمار وسوء توزيع الدخل القومي وتركيز المال في أيدي فئة قليلة من الموالين للسلطة الحاكمة.
وهكذا فإنه إذا أردنا أن يعود الاقتصاد السوداني إلى سيرته الأولى ويندمج في الاقتصاد العالمي مثل جميع الدول، وأن ترجع البنوك لأداء وظيفتها المسهلة لعملية التنمية كما كانت في السابق، فلا مناص من العودة إلى الطريقة التقليدية التي كانت تعمل بها المصارف قبل سياسة الأسلمة، والتي تعتمد بالأساس على التعامل بسعر الفائدة بوصفها الطريقة المثلى لجذب المدخرات وتحريك الاستثمار وزيادة الإنتاج.