الأخ رشيد
الكثير من المسلمين لا يعرفون ما هي المسيحية، ويكتفون فقط بما سمعوه يتردد من إشاعات حولها. بل إن البعض يعتقد أن المسيحية هي مرادف للغرب، فهي في نظرهم توصي بالانحلال الخلقي، والتبرج، والسكر والدعارة، والشذوذ...إلخ، فهل فعلا المسيحية كذلك؟
المسيحية ليست هي الغرب
بُنيت المجتمعات الغربية على بعض المبادئ المسيحية مثل الحرية واحترام حقوق الإنسان، وكانت الكثير من البلدان الغربية إلى حد قريب تتكون من أغلبية مسيحية، لكن اليوم الوضع مختلف، فالكثير من البلدان الغربية تغلب عليها اللادينية، والإلحاد، واللامبالاة بالدين عمومًا، بل وتوجد فيها أديان مختلفة، لذلك لا يمكن لوم المسيحية على ما يوجد في الغرب وما تروج له الأفلام من خلاعة وانحلال خلقي، فهذا لا علاقة للمسيحية به، المسيحية تعلّم عكس ذلك تمامًا. بل تتعرض المسيحية في الغرب للانتقاد والسخرية بسبب تحفظ أتباعها على الكثير من الأمور التي يرونها غير أخلاقية لكنها منتشرة في المجتمعات الغربية.
المسيحية والانحلال الخلقي
المسيحية توصي بالعفة والطهارة، فالمسيح كان رمزًا للعفة لم تسجِّل عليه الأناجيل أي عمل مشين، بل يعتبر في نظر المسيحيين المثال الأعلى للطهارة والقداسة، وكذلك والدته القديسة مريم، فقد تحدثت عنها الأناجيل كونها رمزًا للعفة الجنسية، وتلاميذه أيضا يُعدون نماذج للقداسة والطهارة.
والكتاب المقدس مليء بالآيات التي تحذر من الزنى. مثلًا، فقد جاء في الوصية السابعة من الوصايا العشر "لا تَزْنِ" (سفر الخروج 20 آية 14) وفي الوصية العاشرة نجد أيضا "لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ" (سفر الخروج 20 آية 17) وعندما جاء السيد المسيح أوصى بأكثر من ذلك فقد قال "قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَزْنِ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ." (الإنجيل بحسب رواية متّى، الأصحاح 5 آيات 27 و 28) فهل هذه الوصية تنطبق على ما نراه من أفلام في الكثير من البلدان الغربية؟ إن بطرس أحد أهم تلاميذ المسيح يخاطب المسيحيين ويوصيهم بأن يكونوا قديسين مثل معلمهم الذي دعاهم، أي مثل المسيح نفسه، فقال "بَلْ نَظِيرَ الْقُدُّوسِ الَّذِي دَعَاكُمْ، كُونُوا أَنْتُمْ أَيْضًا قِدِّيسِينَ فِي كُلِّ سِيرَةٍ." (رسالة بطرس الأولى 1 آية 15) وكذلك أوصى بولس الرسول في رسالته بالعفة حيث خاطب المسيحيين في مدينة أفسس قائلا "وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ" (رسالة بولس إلى أهل أفسس 5 آية 3) ليس هذا فحسب بل حتى المثلية الجنسية -التي صارت الآن منتشرة في الكثير من البلدان الغربية- ليست من التعاليم المسيحية في شيء، لأن المسيحية نهت عن ذلك بشدة حيث جاء في التوراة "وَلاَ تُضَاجِعْ ذَكَرًا مُضَاجَعَةَ امْرَأَةٍ. إِنَّهُ رِجْسٌ." (سفر اللاويين 18 آية 22) وفي رسالة بولس الرسول لأهل مدينة كورنثوس نجده يعلم أن مضاجعي الذكور سوف يدانون على أعمالهم، حيث يقول "أَمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الظَّالِمِينَ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ؟ لاَ تَضِلُّوا: لاَ زُنَاةٌ وَلاَ عَبَدَةُ أَوْثَانٍ وَلاَ فَاسِقُونَ وَلاَ مَأْبُونُونَ وَلاَ مُضَاجِعُو ذُكُورٍ وَلاَ سَارِقُونَ وَلاَ طَمَّاعُونَ وَلاَ سِكِّيرُونَ وَلاَ شَتَّامُونَ وَلاَ خَاطِفُونَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ." (رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنثوس 6 آية 9 و 10) هذا غيض من فيض، فكل من يرتكب هذه الأعمال حتى لو كان مسيحيًا بالاسم فهو يخالف تعاليم الإنجيل وتعاليم السيد المسيح مخالفة صريحة، ولذلك لا يمكن لوم المسيحية على مظاهر الانحلال الخلقي بل ينبغي أن يلقى اللوم على مرتكبيها فقط. (وهنا أفرّق بين النهي وبين حرية الشخص، المسيحية لا تتبنى ولا تعلم المثلية، لكن لا يمكن لنا أن نقف ضد حرية الأشخاص، هم أحرار في ما يفعلون لكننا لا نوافقهم).
المسيحية ولباس الحشمة
يعتقد البعض أن المسيحية تعلم التبرج، وتعلّم أتباعها أن يلبسوا لباسًا غير لائق، وهذا غير صحيح، فالمسيحيون مطالبون بأن يعيشوا حياة تليق بمسيحيتهم، الكتاب المقدس يعلم النساء المسيحيات أن "يُزَيِّنَّ ذَوَاتِهِنَّ بِلِبَاسِ الْحِشْمَةِ، مَعَ وَرَعٍ وَتَعَقُّل، لاَ بِضَفَائِرَ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ لآلِئَ أَوْ مَلاَبِسَ كَثِيرَةِ الثَّمَنِ، بَلْ كَمَا يَلِيقُ بِنِسَاءٍ مُتَعَاهِدَاتٍ بِتَقْوَى اللهِ بِأَعْمَال صَالِحَةٍ. (رسالة بولس الأولى إلى تيموثاوس الأصحاح 2 آيات 9 و 10) لكن هذا لا يعني أن تُغطَى المرأةُ تمامًا بحيث تُطمس هويتها، فالمبالغة والتطرف في الاتجاهين غير صحية. التبرج والعري الزائد لا يليق، والتغطية إلى درجة التخلص من ملامح المرأة أيضا لا تليق. لباس الحشمة يعني لباسًا لائقًا دون إفراط أو تفريط. المسيحية لا تأمر بزي معين مثل الحجاب أو النقاب الموجود في الإسلام، فالأمر بزي معين يعني أنه فرض، لكن المسيحية تعلم المبدأ وتترك للمرأة حرية الاختيار بحيث تراعي تقاليد المجتمع الذي تعيش فيه وتلتزم بالذوق العام، فاللباس يتطور ويتغير من مكان لآخر ومن مجتمع لغيره ومن زمن لآخر، لكن المبدأ لا يتغير، المبدأ هو الحشمة في اللباس.
المسيحية والطهارة الداخلية
فوق كل هذا تركز المسيحية على داخل الإنسان، فالكثير من النساء بإمكانهن ارتداء أكثر الألبسة محافظة لكن القلب مليء بالانحراف، لذلك كتب الرسول بطرس أحد تلاميذ المسيح يوصي النساء قائلا "وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ. فَإِنَّهُ هكَذَا كَانَتْ قَدِيمًا النِّسَاءُ الْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا الْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى اللهِ" (رسالة الرسول بطرس الأولى الأًصحاح 3 آيات 3 إلى 5) لأنه ماذا ينتفع الإنسان إن كان المظهر تقيًا والداخل فاسدًا؟!
لقد واجه السيد المسيح أولئك الذين يركزون على المظاهر وينسون داخل الإنسان خصوصًا المتدينين الذين يجعلون المظاهر الدينية واجهة لإخفاء الفساد الداخلي، قال لهم السيد المسيح "وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا." (متى 23 آيات 27 و 28)
جيد أن نلبس لباس الحشمة، لكن الأفضل منه أن يكون داخلنا نقيًا طاهرًا، الدين والحجاب واللباس لا يغير الإنسان، التغيير الحقيقي يحصل داخل قلب الإنسان، فإن كان القلب طاهرًا يكون الخارج أيضا طاهرًا. لذلك قال السيد المسيح عبارة خالدة "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ" (الإنجيل برواية متّى الأصحاح 5 آية 8).
About the Author
الأخ رشيد:
إعلامي، وكاتب، درس العلوم الاقتصادية في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، المغرب، ثم درس الإعلاميات، بعدها حصل على الإجازة في مقارنة الأديان، وحصل أيضا على ماجستير في العلوم السياسية. قدم الأخ رشيد منذ 2006 برامج تلفزيونية، خاصة برنامج "سؤال جريء" الذي تجاوز 550 حلقة، والآن يقدم برنامج بكل وضوح، وكتب ثلاثة كتب لحد الآن: إعجاز القرآن: دراسة وتحليل، داعش والإسلام: من منظور مسلم سابق، مستقبل الإسلام: أركان الإسلام الخفية.