محمد خروب:
في تصريح مثير ولافت «توقّع» مطران السريان الارثوذكس في جبل لبنان جورج صليبا, «أن المسيحيين قد يختفون من العالم العربي, بسبب الأحداث التي تعصِف في أرجائه».. وهو «توقّع» مُخيف نحسَبه ناقوس خطر كبير على مستقبل العالم العربي نفسه, بمختلف فسيفسائه الدينية والإثنية والثقافية والاجتماعية وروح التعدّدية, التي شكّلت «هويّته» في مراحلها المختلفة. خصوصاًعلى النحو الذي استقرّت عليه في بدايات القرن العشرين وصولا الى مرحلة الخلاص من الاستعمار, بطرق ومقاربات عديدة, أقلّها بروز الهوية «العربية» وإن في شكل تم «تَمزيقه» بفعل اتفاقية سايكس - بيكو, التي ما تزال مفاعيلها مُستمرّة حتى الان, وجرَت - وما تزال, محاولات إطاحة ذلك الاتفاق بعد قرن من سريانِه, تمهيدا لخطوات وإجراءات تفتيتية اخرى, لم يكن «الربيع العربي» سوى محاولة جديدة وإن كانت اكثر عنفا وخطورة, كادت تأخذنا الى أوضاع أكثر كارثية وخرابا «وجوديا», تكاد تكون فيها «سايكس - بيكو»مَطلَبا ضروريا مُقارِنة بما كان يُخطّط في الغرف السوداء ومراكز الابحاث والاكاديميا الصهيواميركية, التي وجدَت لها من يُعاونُها في بلاد العرب، أنظِمة وتنظيمات جهادية تكفيرية... على حدٍ سواء.
رياح الربيع العربي السوداء والعاتية, ما تزال تهب على اكثر من ساحة عربية وكانت وصَلت ذروتها في سنواتها الثلاث الاولى التي تلت العام 2011 كما اتخذَت مسارات جديدة, حفرَت عميقاً في بنى المجتمعات العربية على اكثر من صعيد, سياسي واقتصادي وثقافي وخصوصا اجتماعي, ارتكزت على بث المزيد من الفرقة والتطرّف والغلوّ في قراءة وتفسير النص الديني، يرفض الإعتراف بالشريك الوطني على أسس دينية مُفبرَكة ومُتهافِتة, بل تذهب بعيدا في الفرز الطائفي والمذهبي على النحو الذي شهدناه في المذابح وعمليات التنكيل والتدمير والاستباحة والسبي التي طالت اتباع طوائف ومذاهب من الدين نفسه, كذلك في الإستهداف المُمنهَج الذي طال ابناء الطوائف المسيحية المختلفة, على نحو أُريدَ منه دفعهم للهجرة او التخلّص منهم, بأساليب لا مُبالغة في وصفِها بانها «تطهير ديني» محمولا على بعضها كـَ «تطهير عِرقي», ترتقي الى مرتبة حروب الإبادة وجرائم الحرب موصوفة, وذلك كلّهِ كان يتم تحت تفسيرات وقراءات ظلامِية مُتزمتة, لا تستند الى أي أسس دينية او فِكرية او أخلاقية, ما بالك وطنية وإنسانية؟
قد يكون نيافة المطران ، بالَغ (نوعاً ماً) في القول: إن المسيحيين في الشرق العربي, كانوا اكثر المُتضرّرين من الأحداث التي عصفت بالمنطقة مؤخرا، »مُشدّداً على ان السكان المسيحيين في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين وبعض مناطق تركيا، اضّطُهِدوا، وهو ما تسبّب بنزوح أعداد كبيرة منهم,» إلاّ ان أقواله لا تخرُج في واقع الحال, عن الحقيقة التي تقول ان موجة الارهاب العاتية التي هبّت على المنطقة العربية وما تزال تهّب, رغم تراجُع حِدّتها في بعض الساحات العربية, وتواصُلِها او محاولات إنعاش بعضها, على اكثر من ساحة وبأساليب ومقاربات جديدة، تُسهِم ضمن امور اخرى في مزيد من التفتيت والفرقة والانقسام أُفقيا وعاموديا، انما استهدفت النسيج الوطني والاجتماعي في الاقطار العربية التي تعرّضت لتلك الموجة, وكانت اطيافها وشرائِحها المُختلِفة هدفا رئيسا ووقودا للمؤامرة, التي «صُمِّمَت» لهذا القطر العربي أو ذاك، وكان العراق ثم سوريا (ليبيا واليمن) على رأس المطلوب شطبهما من الخريطة الجيوسياسية، وإعادة ترتيب المنطقة انطلاقا منهما. تماما كما كانت الحال عندما تم وضع اتفاق سايكس - بيكو موضع التنفيذ, بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وتقاسُم الامبراطوريتان الفرنسية والبريطانية «الترِكة العثمانية».
كما شكَّل انتهاء الحرب الباردة على النحو الذي انتهت اليه, فرصة ثمينة للإمبريالية الاميركية والصهيونية العالمية ومروق بعض العرب, للإنقضاض على المشرق العربي وغزوه عسكريا منذ تسعينيات القرن الماضي وحرب الخليج الأُولى (تحرير الكويت), ثم انتهاز الفرصة التي سنحَت لتصفية القضية الفلسطينية )مؤتمر مدريد) ولاحقا اوسلو وغزو العراق وعملية السور الواقي (إعادة احتلال مدن وقرى الضفة الغربية), وصولاً الى ما نحن عليه الآن من تيهٍ وانقسام وتبعية وارتهان وعلاقات مُتنامِية مع العدو الصهيوني, وتمزّق خطير في النسيج الوطني والاجتماعي وانهيار اقتصادي في اكثر من قطر عربي,طال في الدرجة الاولى شركاء الوطن وملح ارضه الذين لم يأتوا اليه غُزاة او فاتحين. أقصِد مسيحيو الشرق العربي وبناتِه. ما منح أشرِعَة الاعداء في الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني رياحا جديدة,لتعميق ثقافة الكراهية التي تولى الظلاميون والمتطرفون والمتعصبون بثّها عبر «فتاواهم» والارتكابات التي قارفوها,وخروجهم على كل ما هو انساني ووطني واخلاقي. بل ذهبوا ابعد من ذلك عندما طُلِب منهم وكانوا مُهيّئين لذلك,إعادة إحياء الفتنة المذهبِية, التي برزت الآن على رأس جدول أعمال بعض الانظمة العربية التي ترى في ايران العدو الرئيسي, ولا تمانِع في الإستعانة - حدود التحالف مع العدو الصهيوني, كي تُبعِد الخطر «الشيعي» المزعوم... عنها.
هاجر عدد كبير من مسيحيي الشرق العربي الى الغرب (العلماني), الذي استقبلهم ليس لأسباب انسانية بالتأكيد, وانما لتبرير سياساته العنصرية ضد الشرق العربي وتسويغ حربه المزعومة على الارهاب,ولم يسأل احد عن سِرّ الإحتضان والتحالف المكشوف بين اجهزة الغرب الاستعماري الإستخبارية(في ضمنها اسرائيل) والمنظمات الإرهابية, وخصوصا الجهادية والتكفيرية منها, التي ما تزال قائمة حتى الان وخصوصا داعش وجبهة النصرة/ تحرير الشام، كما تواصِل واشنطن وخصوصا انقرة توظيفهما في مشاريعهما الرامية الى نسف كل محاولات ايجاد حلول سياسية للازمات التي تعصف بالمنطقة وبخاصة في سوريا.
ماذا عن مسيحيي فلسطين؟
اسألوا واشنطن كما باريس ولندن, التي تصمت عن جرائم الاحتلال الصهيوني وابتلاعه لمزيد من الأراضي والاوقاف المسيحية, التي تتواطأ بعض قياداتها الروحية من أجل تصفيتها عبر بيعها وتشريد رعاياها وتسهيل تهجيرهم, على النحو الكارثي الذي باتت عليه أعداد المسيحيين الفلسطينيين في فلسطين التاريخية.