عمار المأمون:
يمتلك التراث الإسلامي موقفاً صارماً من مفهوم "الكلام"، إذ تقسم أنواعه وطبقاته وأشكاله ومعانيه، والنبي محمد بن عبد الله نفسه، عفا عمن سمّمه "زينب بنت الحارث"، وأهدر دم من هجاه "كعب بن زهير"، لكنه قتل القصاص "النضر بن الحارث" حين كان أسير حرب. القص في سياق حكاية النضر كان يهدد حقيقة النبوة والحكايات القرآنية، وهذا ما ينسحب على تقسيمات الكلام وأثر كل واحد منها على "الحق" وعلى المؤمن نفسه، فهناك كلام منهي عنه بسبب سوئه، وهناك ما لا طائل منه كالثرثرة، وهناك "الرفث" وكلام الفحش أثناء النكاح، هذه التصنيفات تتحرك دوماً في سبيل جعل اللسان مشغولاً بذكر الله في الحياة الدنيا، تجنباً للعاقبة، ومحاولة لضبطه وصدّه عن الشطط.
نقرأ ضمن التصورات القرآنية عن كلام أهل الجنة، لكن وقبل الخوض فيه، لابد من الإشارة إلى أن الجنة مساحة توقف فيها الحساب، وحُسمت فيها المصائر، والملذات هناك مباحة، لا ندم ولا قلق، سكانها "يتساءلون" ويغنون و"يدعون" و"يسلّمون"، لكنهم، وحسب سورة النبأ، لا يسمعون فيها لغواً ولا كِذّاباً، هناك نفي للغو من الكلام دون مبرر واضح، بعض تفسيرات الآية تقول بما أنهم يشربون الخمر من "كأس دهاق"، أي دائمة الامتلاء، فلا لغو ولا كذب ناتج عن السكر، لكن خمر الجنة لا يُسكر! والتفسير الثاني يرى الجنة بأكملها لا تحوي "كلاماً لا طائل منه".
في كلا الحالتين، سواء كانت الـ"لا" تنفي لغو الخمر أو تنفي اللغو بأكمله من الجنة، هناك إشكالية في طبيعة نعيم الجنة بسبب هذه الـ"لا"، إذ ترى بعض الآراء الاعتزالية أن حركات أهل النار والجنة تتناهى حد السكون، وحسب أبو هذيل العلاف، هم يسكنون بالملذات في النعيم، حيث لا أمر ولا حساب ولا نهي ولا تكليف، هذا الرأي يعكس لا إنسانية أهل الجنة، وغياب وعيهم بذواتهم، خصوصاً فيما يتعلق بمتع الكلام والثرثرة واللغو واللعب واللهو والكذب، التي تقوم على أساس النقص في المعرفة، ليتحرك الكلام بينهم كشكل من أشكال المتخيل، وهنا تأتي عدمية الجنة، بوصفها "يقيناً" لا جدل فيه، لا جداً ولا مزاحاً، الأهم ألا ندماء في الجنة، فالنديم يحكي ويؤلف، يخفي ويظهر، يقصّ ويسرد ، إذ "لا طائل من كلامه" لأن كل ما يقول قد يذهب في حال الصحو.
خلوّ الجنة من اللهو والكذب وألعاب الكلام، يعني نفي التاريخ واختلاف أشكاله، وغياب تدليل غرور الذات ومتعة التأليف والرياء والتبجح، كل من فيها متواضع، وهنا يمكن أن يضح مفهوم آخر للـ"سكون"، أي أن أهل الجنة ذوات مكتملة لا تلعب أو تتخيّل، محرومة من أشد الألعاب غواية، التأليف والتلفيق، وهنا تبرز غرابة هذا "الغياب"، كونه لا عذاب في الجنة ولا حساب على ما يقال، فلا أحد يخرج من الجنة مطروداً لإثم ما بعد دخوله إليها.
كراهية في الأرض،كراهية في السماء
هناك عداوة ضد المتكلمين والقصاصين أساسها سحر الحكاية وأسلوب الكلام، وقدرة الاثنين على التأثير والإمتاع وقلب العقول، لأن في ذلك تأثيراً على "الحق" وتشكيكاً بمكانته السردية، خصوصاً أن "الله عز وجل يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه تخلل الباقرة بلسانها"، هناك خوف دائم من الحكاية أدى إلى تصنيف الكلام إلى "باطل" و"حق" وغيرها من الفئات التي قد لا ترتبط بالفصاحة والقدرة اللغوية، بل بمطابقة أصل ما أو الاختلاف عنه.
هذه "الكراهية" الأرضية للقص تظهر أيضاً في السماء، فأهل الجنة لا يكذبون على بعضهم البعض، أو لا يتكاذبون، كون السؤال والتشكيك و"الكذب" المرتبط بالكلام، يعكس تاريخ الخلق بـ"كلمة" حق، ثم نفي آدم وحواء منها أيضاً بسبب "لغو" وتساؤلات تشكك بحقيقة الجنة نفسها، وجدوى الكلام الرباني، خصوصاً أن سورة النبأ نفسها تبدأ بـ"عم يتساءلون"، وفي التتمة نقرأ: "رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً، يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآباً، إنا أنذرناكم عذاباً قريباً يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً".
تشير السورة إلى أنواع الكلام المباح للملائكة ولسكان جهنم وهيمنة الله على ما يقال، وكأن الكذب والثرثرة يهددان قوانين الجنة، كما حدث في قصة التفاحة و"اللغو" حولها بين آدم وحواء، في مخالفة لكلام الله، ذات الأمر في حكاية الشيطان الذي "لغا" وطرح سؤالاً أدّى إلى طرده خارجاً، وهنا يمكن أن نتلمس قيمة اللغو والكذب في الجنة، بأنه يراهن على "بشرية" من هم هناك، صفة تهدد تماسك ملذات الجنة وجدواها، هي فقط "سكون" على حد تعبير أبو هذيل.
متع عقيمة
إن كان نقيض اللغو هو الاستذكار وعدم الزيغ عن الحق و"أخلاق الإسلام"، فمكونات اللغو، إن قاربنا التفسيرين المرتبطين بالخمر والجنة، ترتبط بما يزيح الوعي إدراك الله وحقيقة وجوده.
فالهزل، السفه، الجهل، اللهو والتدليس كلها تندرج تحت اللغو، أي كل ما هو غير جدّي وغير محكم، فكلام أهل الجنة مفرط في جديته، متكرر، لا اختلاف فيه ولا سوء اقتباس، هو كلام ضد الكرنفال، كون المقدس فيه يبقى مقدساً، ولا معجم لملذات وبذاءات أهل الجنة، هم لا يسخرون من عبادات الدنيا التي قاموا بها بعد أن "جاءهم الحق"، خصوصاً أنها منفصلة عن ذات الله ولا تهدد تكوينه، فالاكتمال والسكون والتشابه يجعلون أهل الجنة ذوي متع عقيمة، لا اختلاف أو لبس بينهم، ملذاتهم "صورية"، لا تستمر في الزمن كونه نفسه انتفى، فلا تعليق أو اختلاف فيما يحصل، أشبه ببركة راكدة صافية، يتأمل فيها الله ظله الصادق الناصع.