عبدالله بن بجاد العتيبي:
الظواهر الكبرى في المجتمعات في أي مجالٍ كانت، تحتاج لنظرة باحثةٍ وزوايا رؤية متعددة ومستويات مختلفة لمحاولة الإحاطة بها، وبالتالي النجاح في فهمها وتوصيفها، وبالتالي اختيار الطريقة الأفضل للتعامل معها.
من تلك الظواهر المهمة، ظاهرة دعوات التجديد للخطاب الديني، والمقصود هنا هو الطرح الصحوي للتجديد الديني، الذي مرّ بنظريات شمولية في البدايات، ثم بعدما أصبحت راسخة بات الطرح الصحوي هامشياً جداً في تفسير المقصود بالتجديد.
بدايةً، كانت طروحات أبو الأعلى المودودي وحسن البنا وبعدهما سيد قطب هي دعوات ثورية بالفعل، لقد اختطفت الإسلام التقليدي وشوهته، وملأته بالكراهية والعنف والدموية والسياسة، وبنت له بنيةً قريبة من الأيديولوجيات الغربية حينذاك، فتأثر بعض تلك الطروحات بالأحزاب القومية الأوروبية كالنازية والفاشية، وبعضها تأثر بالشيوعية واليسار بشكل عامٍ، وأصبح أكبر أهداف الإسلام ليس التوحيد والعبادة، بل الحياة الدنيا والحصول على السلطة بأي ثمنٍ.
بعدما استمرت هذه الطروحات المؤسسة للإسلام السياسي عقوداً، ورسخت في أذهان أجيالٍ كانت تعتقد أن هذه الطروحات هي الإسلام، انتقل المشهد الصحوي إلى طروحات أقلّ معنى وأقل تأثيراً وهامشية إلى حدٍ بعيدٍ، تتحدث مرة عن علم المقاصد الشرعية، ومرة عن التيسير الفقهي في مسائل فرعية جداً، كالغناء والزي والموسيقى ونحوها، مع ثبات الهدف الأسمى في المنظومة الشمولية التي بناها المؤسسون للإسلام السياسي، وهو الوصول إلى السلطة بأي طريقة وأي ثمن.
لقد أثبتت التجارب أن هذه الجماعات الصحوية، كلما نزعت نحو التيسير الفقهي فإنما ذلك للتركيز على الطموح السياسي الذي تعمل لأجله، فهي غير صادقة في تيسيرها الفقهي، وإنما تستخدمه للهدف السياسي، حدث هذا في طروحات بعض رموز جماعة «الإخوان» كمحمد الغزالي ويوسف القرضاوي وغيرهما كثير، ولكنهم بالمقابل يدعمون العمليات الانتحارية للجماعات الإرهابية.
بعض فروع جماعة «الإخوان» وجماعات الإسلام السياسي، التي تبنّت العنف الديني في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى اليوم، كانت كلما فشلت وتم هدم مشروعها وهزيمتها أمنياً هزيمة ساحقة تلجأ للتجديد الصحوي في خطابها، ومثلت هذا التوجه كل الحركات التي تبنّت ما كان يسمّى بـ «المراجعات» في أكثر من بلد عربي.
فضيحة التوجه الأول للغزالي والقرضاوي وأشباههما كانت مدوية، حين دخل الغزالي للشهادة في قضية اغتيال فرج فودة، وحوّل القضية ضد المجرمين القتلة إلى مسألة خلافية تعرف فقهياً بـ «الافتئات على السلطان»، ما يوضح أن التجديد الذي كانوا يدعونه شكلي وهامشي في الفروع فقط، مع الإبقاء على الهدف الصحوي الأكبر، وهو الوصول للسلطة بأي سبيل كان.
وفضيحة التوجه الثاني، وما كان يعرف بـ «المراجعات»، أن كل هؤلاء الذين كتبوا وقادوا تلك المراجعات قد عادوا إلى ما كانوا عليه حين حانت لحظة الفوضى، وانطلق ما كان يعرف بـ«الربيع العربي»، وهو ربيع الأصولية والإرهاب، وعاد حلم الوصول إلى السلطة جذعاً وقوياً ومتقداً في النفوس.
وكثيراً ما كانت الدعوات الصحوية للتجديد تصدر بدافع النفاق للسلطة القائمة أو لتحصيل مكاسب شخصية لا لإيمان حقيقي بأهمية التجديد، وحاجة المجتمعات المسلمة له، وطبيعة الحياة المتغيرة للبشر، والمنافقون داء قاتل للدول والشعوب على حدٍ سواء.
أخيراً، الأهم في هذا السياق هو الانتباه للطروحات الجديدة التي يقدمها بعض الصحويين كطروحات للتجديد الديني، بعد تصنيف جماعاتهم ورموزهم إرهابياً في أهم الدول العربية المؤثرة، فالدافع الأول اليوم لهذه الطروحات هو النفاق وإعادة التموضع مجدداً، للبحث عن مخارج جديدة تبقيهم في المشهد، وتبقي حلم السلطة قائماً في نفوسهم، وإنْ نقضوا غزلهم أنكاثاً وتبنّوا عكس ما كانوا يطرحون من قبل.