بقلم بابكر فيصل بابكر
قال بيان صادر عن الحملة الدولية للتضامن مع مسيحيي السودان إن قوات أمنية هدمت الكنيسة الإنجيلية بضاحية الحاج يوسف في العاصمة الخرطوم في الثاني عشر من الشهر الجاري، ووصفت الحدث بأنه حلقة في سلسلة انتهاكات منظمة تمارس على الحريات الدينية واستهداف المسيحيين في السودان.
وأفادت الحملة أن القوات صادرت كل ممتلكات الكنيسة وفرضت طوقا أمنيا على المكان ومنعت التصوير والتغطية الإعلامية. واستنهضت الحملة الدعم الدولي للوقوف في وجه ما أسمته "الانتهاكات الممنهجة".
لم يك التعدي على الكنيسة الإنجيلية الأول من نوعه في ظل سيطرة النظام الإسلاموي الشمولي الحاكم في السودان منذ عام 1989، فقد سبقته ممارسات كثيرة مشابهة كان آخرها هدم كنيسة في ضاحية سوبا، جنوبي الخرطوم في أيار/مايو من العام الماضي.
وكانت الحكومة السودانية قد أرجأت العام الماضي تنفيذ قرار بهدم 27 كنيسة، ليس لأنها قد قررت تغيير سياستها تجاه دور عبادة المسيحيين، ولكن لأنها كانت تطمح في ألا تؤثر الخطوة على قرار أميركي وشيك الصدور بخصوص رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان منذ عقدين من الزمن.
إن المأزق الحقيقي للنظام الإسلاموي السوداني يتمثل في انطلاقه من أفكار وممارسات مستدعاة من خزانة التراث ويراد لها أن تطبق لحل قضايا ومشاكل الوقت الراهن
ولا يستطيع المراقب للأوضاع السودانية إلا أن يضع ممارسات النظام الحاكم في إطارها الفكري الصحيح حتى يدرك أن هذه التصرفات لم تتولد من فراغ، وأن الحجج التي تسوقها الحكومة لتبرير هدم الكنائس من شاكلة أنها شيدت بطريقة عشوائية ليست سوى تبريرات واهية لا تصمد أمام الأدلة والبراهين المنطقية.
لم تشهد العاصمة السودانية أية حوادث هدم لدور عبادة المسيحيين في الماضي، بل ظلت أجراس الكنائس تدق بانتظام والعباد يؤدون صلواتهم باطمئنان؛ إلى أن جاء النظام الإسلاموي رافعا شعارات تطبيق الشريعة والتوجه الحضاري الرسالي الذي يهدف إلى توحيد العالم الإسلامي واستعادة أمجاد الخلافة.
وفي إطار هذا التوجه، برز موضوع العلاقة مع الآخر غير المسلم. وكان من ضمن المراجع الموجهة لسياسات النظام الإسلاموي في هذا الخصوص هو وثيقة "العهدة العمرية"، وهي كتاب كتبه الخليفة عمر بن الخطاب لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون عام 638 للميلاد يوضح لهم فيه حقوقهم والواجبات التي تقع على عاتقهم.
وقد كتب سعد أحمد سعد، وهو أحد الأعضاء البارزين في هيئة علماء السودان (المرجعية الدينية الحكومية) في هذا الخصوص معلقا على شكوى شخص مسيحي من هدم السلطات الحكومية لكنيسة في ضاحية أمبدة بالخرطوم: "إن الأمر معروف ومضمن في الشروط العمرية وهو منع استحداث كنائس في بلاد المسلمين، أو البلاد المفتوحة".
وهو في حديثه أعلاه يشير لنص العهدة العمرية المنسوب لعبد الرحمن بن غنم، والذي قال فيه: "كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه ألا يحدثوا في مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب".
هذه هي إذن الخلفية الفكرية الحقيقية التي تقف وراء السياسات الحكومية الهادفة للاعتداء على الكنائس، ولا عبرة بحجة الحكومة القائلة إن الكنائس شيدت بصورة عشوائية، حيث قامت جماعة متطرفة وبتواطؤ السلطات الحكومية بهدم كنيسة عمرها أكثر من مائة سنة في حي "الجريف غرب" العريق بالخرطوم في عام 2012 ولم يستطع أصحابها إعادة بنائها حتى اليوم رغم إحاطة الحكومة بتفاصيل الحادثة.
وحتى إذا افترضنا جدلا صحة ادعاء الحكومة بأن هذه الكنائس قد شيدت بطريقة غير قانونية، فإن هذا يقودنا إلى التساؤل عن مغزى رفض السلطات منح المواطنين المسيحيين التراخيص اللازمة عندما يقدمون طلبا لتشييد كنيسة؟ ولن نجد الإجابة إلا في تلافيف المرجعيات الفكرية للنظام الحاكم والتي أشرنا إليها أعلاه.
إن المأزق الحقيقي للنظام الإسلاموي السوداني يتمثل في انطلاقه من أفكار وممارسات مستدعاة من خزانة التراث ويراد لها أن تطبق لحل قضايا ومشاكل الوقت الراهن دون مراعاة للفروقات والتطورات الزمنية، ودون إعمال العقل في النظر لتلك الأفكار لمعرفة مدى مواءمتها لأحوال العصر.
عندما كتبت العهدة العمرية كان العالم في نظر المسلمين ينقسم إلى فسطاطين: دار الإسلام ودار الكفر. وكان العرف السائد في العلاقة بين الطرفين هو أن يملي المنتصر شروطه على المهزوم. وفي هذا السياق جاء فرض الجزية وتطور فقه المعاملات مع غير المسلمين، ومن ضمن ذلك شروط بناء دور العبادة.
أما وقد تبدلت الأحوال بعد مرور مئات السنين، فإنه يتوجب على حكام السودان وعلى عضو هيئة العلماء المذكور أن يدركوا أننا نعيش في عصر استحدث مفهوم "الدولة/الأمة" الذي لم يك معروفا في زمن صدور العهدة العمرية، وهي دولة تنبني فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة وليس على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو النوع.
ومن المعلوم أنه في ظل هذه الدولة لا يتم النظر في طلبات تشييد دور العبادة من منطلق عقيدة دينية محددة، بل إن الأمر برمته يقع في إطار الترتيبات الإدارية التي تنظر فيها السلطات المحلية ومن ثم تصدر تصديقا بالبناء شأنه شأن كل مكتبة عامة أو ملعب أو مدرسة.