التدافع الدولي ومحاربة الإرهاب - مقالات
أحدث المقالات

التدافع الدولي ومحاربة الإرهاب

التدافع الدولي ومحاربة الإرهاب

يناقش الكاتب والأكاديمي جيلبير أشكار في كتابه «صدمة الوحشية، الإرهاب والاضطراب العالمي»، موضوعاً سبق له أن كتب عنه أعمالاً واسعة الانتشار في ذروة الاهتمام العالمي به في السنوات اللاحقة لهجمات 11 سبتمبر ألا وهو تحدي الإرهاب العالمي والتداعيات الكارثية المترتبة عليه لجهة التأثير سلباً على العلاقات الدولية، ومن ثم بنية النظام العالمي ككل. بل إن هذا الكتاب نفسه الذي أصدره هذا العام هو في الواقع تطوير وإعادة تحرير لأحد كتبه السابقة في ذات الموضوع نفسه. هذا فضلاً عن كون أشكار يعتبر أحد أكثر المتخصصين في أوروبا في الشؤون الشرق أوسطية، حيث إنه لبناني- فرنسي، وعلى معرفة واسعة بالمشهدين السياسي والثقافي في المنطقة العربية الإسلامية، كما أصدر أيضاً من قبل عدة كتب عن المنطقة منها على سبيل المثال لا الحصر «العرب والفوضى»، و«الحرب العربية- الإسرائيلية»، كما كتب أيضاً عن انتفاضات ما سمى الربيع العربي كتاباً مهماً بعنوان: «إرادة الشعب، استكشاف راديكالي للانتفاضات العربية». وحين جنح هذا الربيع إلى التطرف والعنف والصخب والفوضى وتكشف عن كوارث وحروب أهلية وإبادات ودمار واسع نشر أيضاً عنه كتاباً آخر بعنوان: «سقوط الانتفاضات العربية». ولعل مما يزيد أيضاً من مصداقية هذا الكاتب كونه يصدر عن خبرة ثقافية أوروبية ثلاثية الأبعاد إن صح التعبير، حيث عمل المؤلف في الجامعات والمدارس العليا في كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ولذلك فقد اجتمع في مقاربته كثير مما تفرق لدى كتاب ومثقفي هذه المدارس الثقافية الثلاث الأهم في القارة العجوز. وقد وصفت مجلة لوموند ديبلوماتيك كتابه هذا عن صدمة الوحشية بأنه «يستحق القراءة حقاً، لأنه النص الأكثر قوة ودقة وصرامة منهجية مما يمكن قراءته حول هذه الحرب» الدولية على الإرهاب.

وعلى ذكر الحرب الدولية على الإرهاب يقول أشكار في هذا الكتاب «صدمة البربرية (الوحشية)»، إن الستة عشر عاماً التي مرت الآن بعد هجمات 11 سبتمبر قد شهدت استمراراً، بل تغولاً أحياناً لأعمال العنف والهجمات المرتبطة بالإرهاب، على رغم الحرب الدولية الواسعة على الإرهاب بمشاركة قوية من مختلف دول وشعوب العالم. وهذا ما جعل كثيرين يرون في دوامة الإرهاب والجهود الدولية الرامية للقضاء عليه نوعاً من الحرب المفتوحة التي لا تبدو لها نهاية قريبة، إن كانت لها نهاية أصلاً. وإن كان احتقان وصخب الموقف قد خف أيضاً مع مرور الزمن بذهاب أحد وجهي الصدمة اللذين انخرطا في صراعات الحرب على الإرهاب في بداياتها الأولى، وهو عصبة المحافظين الجدد في أميركا التي تزامنت انطلاقة هذه الحرب مع فترة تنفذها وتغلغل بعض رموزها في مفاصل إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بوش الابن. وهنا اعتبر الكاتب أن بداية هذا الصراع المرير المديد مثلت في الواقع حالة اصطدام صاخبة بين أصوليتين متعصبتين لا تكاد أي منها تقل عنفاً وتطرفاً عن الأخرى، هما أصولية اليمين المحافظ المتطرف في الجانب الغربي، وأصولية الجماعات الراديكالية الإسلاموية المعادية للغرب في الجانب العربي الإسلامي. وقد تزامن اصطدام هاتين الأصوليتين في المنطلق مع شيوع مقولة صراع الحضارات التي روج لها المنظر الأميركي هنتينغتون، فضلاً عن جنوح قطاعات غير قليلة من الإعلام الغربي يومها للنفخ أيضاً في رماد كافة صور العداء والجفاء بين الشرق والغرب، على نحو زاد الفجوة السياسية والجفوة الثقافية بين الجانبين وهدد بالامتداد حتى إلى مواقف وتمثلات الشرائح الشعبية والأفراد العاديين.

ويربط الكاتب بصفة خاصة بين التداعيات المباشرة لهجمات سبتمبر والتداعيات اللاحقة لها، فبعد الهجمات مباشرة انخرطت إدارة بوش في حرب مفتوحة قادتها للتدخل في أفغانستان وطرد نظام حركة «طالبان» منها وملاحقة فلول تنظيم «القاعدة»، ثم في مرحلة لاحقة غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، وقد تبعت هاتين الحربين حالة اضطراب إقليمي كبرى تكشفت عن تغول عنف الجماعات الأصولية الإسلاموية ليس فقط ضد أميركا والغرب، وإنما أيضاً ضد الشعوب العربية والإسلامية نفسها. ومنذ تلك الفترة دخلت منطقة الشرق الأوسط الكبير في حالة من عدم الاستقرار العارم هي التي أدت بعد قرابة عقد من الزمن إلى الانتفاضات والفوضى والحروب الأهلية ضمن ما سمي في الإعلام الغربي بـ«الربيع العربي»، وهي حالة فوضى وعنف تغولت فيها جماعات الإسلام السياسي وحولت بلداناً كاملة إلى دول فاشلة، وما زالت أهوالها وصراعاتها المريرة مستمرة حتى الآن في العديد من تلك البلدان.

تماماً مثلما أن الحال في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي شهد هو أيضاً تردياً ملحوظاً ضمن نتائج حالة الاضطراب الإقليمي والدولي الناجمة عن الحرب على الإرهاب أولاً، ثم فوضى ارتماء العديد من دول المنطقة في حالة صراع داخلي لا يبقي ولا يذر، تالياً.

ويتوقف الكاتب أيضاً بشكل خاص مع ما يعتبره خلفيات اجتماعية وثقافية لظاهرة تفشي التطرف والراديكالية في قطاعات من بعض المجتمعات المسلمة، بكفية مكنت الجماعات والتنظيمات الأصولية العنيفة من تهديد أمان واستقرار هذه المجتمعات المسلمة نفسها، وفي مرحلة تالية أمان واستقرار المجتمعات الغربية. وهنا يرى أن إحباطات التنمية وانعدام فرص العمل والأمل أسقطت من الطبقة الوسطى كثيراً من اليائسين والبائسين والمهمشين ليرتموا في أحابيل العنف والتطرف، وزاد الأمر سوءاً العلاقة المرتبكة أصلاً مع الغرب، والصور النمطية التي يقدم نفسه فيها، أو تلك التي يقدمه خصومه فيها أيضاً.

وعلى صعيد عالمي أوسع اعتبر الكاتب أن إعادة الاستقرار الشامل وترسيخ السلام الدائم غير ممكنين من خلال مقاربات القوة الخشنة وحدها، ذلك أن تكريس السلام في العالم لا يمكن أن يولد من البربرية، ومحاولات الإفناء المتبادل بين الخصوم المتصارعين، وذلك لأن سياسات العنف قد تؤجج العنف، وسياسات التطرف تفاقم التطرف المضاد، ولذا فلابد من مقاربة أوسع أفقاً، وأكثر وعياً بتعقيدات وتحديات العالم المعاصر. ومن ذلك مثلاً أنه لابد من اجتراح مقاربات وحلول سياسية لأسباب الصراعات في العالم، وتجفيف منابع التطرف، ونبذ السياسات والمواقف الحدية المتعصبة من كل شكل ولون. وهنا يرى الكاتب أن السياسات الغربية، وخاصة الأميركية في عهد بوش، عانت من قصور إدراكي في فهم أبعاد وحجم التحدي، كما كانت استجاباتها أيضاً موضعية ولحظية، ولم تستند إلى فهم عميق لخصوصيات المنطقة الشرق أوسطية، في مفهومها الواسع. والحال أن هذا القصور لم يكن خاصاً أيضاً بطرق التعامل مع هذه المنطقة تحديداً دون غيرها، بل كان عرَضاً من أعراض مقاربة أوسع، إذ منذ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وانهيار المعسكر الشيوعي، ظهر ما يسمى الأحادية القطبية الأميركية، وراحت واشنطن تتبع سياسات أحادية، وهو ما زاد حينها من بؤر الصراعات والاستقطابات المناهضة للسياسة الأميركية ليس في الشرق الأوسط فقط، وإنما في دول الجنوب والعالم النامي بصفة عامة.

ويرى بعض من كتبوا عن هذا العمل أن قراءته لخلفيات التطرف الإسلاموي العنيف تتسم بالعمق وخاصة لجهة مقاربته للجذور الاجتماعية والدينية التأويلية لظهور هذا التحدي، كما ينذر أيضاً بأن هذه الظاهرة الخطيرة لا تبدو في الظروف الراهنة برسم الاختفاء أو الانقراض، وذلك لأن العلاجات الكفيلة بالقضاء عليها لا يزال كثير منها لم يجترح حتى الآن، وهنا يختلف أشكار بشكل خاص مع المستعرب الفرنسي الشهير جيل كيبيل حين يتحدث عما يسميه هذا الأخير «ما بعد الإسلاموية»، إذ يرى أشكار أن التحدي الإسلاموي سيبقى زمناً ممتداً مؤرقاً للعالم، ما لم يتم سد كافة الذرائع والأسباب التي أدت إليه، وهذه مهمة دولية شاملة لابد أن تنخرط فيها المنطقة الشرق أوسطية نفسها، والغرب، ويلزم الاشتغال فيها أيضاً على أكثر من صعيد مثل الثقافة والسياسة والاقتصاد والتدابير الوقائية والتوعوية، وكل ما من شأنه تجفيف منابع التطرف والإرهاب، ومن ثم وضع حد لهذا الحال العالمي الموسوم بعدم اليقين والعنف والرعب والاضطراب العام.

حسن ولد المختار

الكتاب: صدمة الوحشية، الإرهاب والاضطراب العالمي

المؤلف: جيلبير أشكار

الناشر: سيلبسي

تاريخ النشر: 2017

الاتحاد

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*