بابكر فيصل:
أشرت في الجزء الأول من هذا المقال إلى ما كتبه الداعية الإسلامي محب الدين الخطيب قبل أكثر من نصف قرن عن افتقار جماعة الإخوان المسلمين لرؤية واضحة حول ماهية الدولة الإسلامية التي يدعون لقيامها، إضافة لمطالبته بضرورة التركيز على البعد التربوي الذي يضمن إعداد جيل جديد يتحمل أعباء بناء تلك الدولة.
المعضلة الكبرى التي تعاني منها جماعة الإخوان المسلمين تتمثل في أفكارها ومنطلقاتها الأساسية التي تتماهى ووتشابك عضويا مع الدين، وبما أن الأخير بطبيعته معني بالحقائق المطلقة بينما السياسة في أصلها نسبية، فإن ذلك الأمر يخلق تناقضا جوهريا في تفكير وممارسات وخطاب وتوجهات الجماعة.
إن التداخل العضوي مع الدين، والذي يوهم بتوفير الإجابات الكاملة لجميع الأسئلة، يعفي أصحاب ذلك التوجه من السعي لإستحداث وتطوير البرامج والحلول التفصيلية للمشاكل والقضايا المرتبطة بالسياسة، ولذلك فإنهم يكتفون بالشعارات بإعتبار أن الدين يملك حلا لجميع المشاكل، وبمجرد وصولهم للسطة يكتشفون مدى العجز والقصور في مفاهيمهم وتصوراتهم لشؤون الحكم وإدارة الدولة.
خطورة الادعاء بتملك الإجابات النهائية لجميع المشاكل تتمثل في أنها تجعل أصحابه بعيدين عن الواقع، ولا يكترثون للأصوات التي تدعوهم للتريث وعدم الإستعجال في الوصول للسلطة من دون إعداد كاف، كما فعل محب الدين الخطيب في مقاله المذكور، وهذا هو الفخ الذي وقع فيه الترابي قبل أن يستفيق من وهم ذلك الادعاء، حيث كان يقول إن الدعوة للتأني في إستلام السلطة والتمهيد لذلك بإجراء دراسات عميقة ليست سوى (حيلة شائعة لتعويق إقامة النظام الإسلامي) وكان ينادي بالتطبيق الفوري ومن ثم يأتي التجويد حتى تبين له سطحية فكرته وخطل رؤيته بعد التجربة الفاشلة في السودان.
لم يدرك الترابي أن خطأهم الأساسي تمثل في وعيهم الزائف ومحاولة فهمهم للواقع من خلال مسلمات (شعارات ومقولات وقواعد فقهية) توهموا أنها صحيحة وتستند إلى براهين غير قابلة للنقد أو النقض، وأكدوا بأنها تشتمل على الحلول النهائية لجميع الإشكالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المعاصرة. فات عليهم أن محاولة التفاعل الفوقي مع مجريات الواقع ستؤدي لفشل التطبيقات بسبب تصادمها الحتمي مع ذلك الواقع الذي يقع خارج حدود تلك الشعارات والمقولات اللاتاريخية والحاسمة.
من جانب آخر، فقد شهدت تجربة وصول الإخوان المسلمين لسدة الحكم في مصر عام 2012 ذات الملامح التي صاحبت تجربتهم في السودان، حيث فشلت الجماعة في الترويج والدعاية لأفكارها التي طرحتها لبناء الدولة المصرية وأسمتها "مشروع النهضة"، والذي لم يك في حقيقته مشروعا واضح المعالم، ولم يخرج في إطاره العام من ذات الشعارت التي كانوا يرفعونها في السابق.
وإذ يجادل البعض في أن أجهزة الدولة المصرية لم تتعاون مع الإخوان وحكومتهم، فإنهم إنما يغضون الطرف عن أن العامل الأهم في فشل الجماعة هو أنها لم تمتلك خططا ناجعة لإصلاح مؤسسات الدولة، فضلا عن غياب فلسفة تحكم القرار الاقتصادي أو رؤية تقود السياسة الخارجية، وهي ذات الأمور التي حذر منها محب الدين الخطيب قبل أكثر من نصف قرن من الزمان في مقاله المشار إليه.
ونحن إذ نستشهد برؤية الخطيب في عدم إمتلاك الإخوان المسلمين لرؤية أو تصورات واضحة للدولة الإسلامية التي ينشدون إقامتها، فإننا لا نتفق معه في مطالبته للإخوان أن "يصبروا عشرين سنة أخرى يربون فيها جيلا يعيش للإسلام وأنظمته"، ذلك لأن أمر تسيير الحكم لا ينبني على إعداد الكادر وفقا لتصورات أيديلوجية لجماعة ما، وإنما يعتمد على طبيعة النظام السياسي الذي يحكم الدولة.
قد أثبتت تجربة حكم الإخوان للسودان طيلة ثلاثين عاما أن سبب الفشل الذريع الذي منى به حكمهم يكمن في رؤاهم ومنطلقاتهم الفكرية، وفي مقدمتها موقفهم غير المبدئي من قضية الديمقراطية، حيث وصلوا للسلطة عبر الانقلاب العسكري، وطبقوا خطة للتمكين السياسي قاموا بموجبها بعملية إحلال شبه كاملة للعاملين بأجهزة الدولة، واستبدلوهم بأعضاء الجماعة الذين تربوا في أحضانها لعشرات السنين، ومع ذلك فإن نموذج حكمهم كان الأسوأ في تاريخ السودان منذ خروج المستعمر البريطاني في عام 1956.
إن الدرس الأهم الذي يجب أن تتعلمه الجماعة من تجربة حكمها للسودان يتمثل في أن داءها الحقيقي يكمن في فكرها الشمولي المتماهي مع طبيعة النظام الاستبدادي، وليس الأمر متعلقا بنوعية الأشخاص كما ظن خطأ محب الدين الخطيب، ذلك لأن السلطة في أصلها مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وقد تعلمت الإنسانية في مسيرتها الطويلة أنه لا بد من تقييد هذه السلطة وممارسة الرقابة المستمرة عليها والسماح بتداولها بطريقة سلمية، وقد ثبت أن النظام الديمقراطي هو أكثر أنظمة الحكم فاعلية في القيام بهذه المهام.
وعلى مستوى الأفراد الحاكمين ثبت أن الاعتماد على الكوابح الإنسانية الداخلية مثل الإيمان والتقوى والضمير وغيرها – وهي الأمور التي يعول عليها الخطيب - لا تكفي وحدها لحماية هؤلاء الأفراد من فساد السلطة، وبالتالي تم إخضاعهم لقيود خارجية متمثلة في اللوائح والنظم والقوانين، وهو الأمر الذي أهدرته الجماعة بالكامل، وتعاملت مع خلاصة التجارب الإنسانية بإستخفاف كبير وعنجهية شديدة، فذبحت القوانين، وأحكمت سيطرتها على السلطة بالكامل، وحطمت جميع الكوابح الخارجية، وأخيرا اكتشفت أن أفرادها بشرا وليسوا ملائكة.
قد أثبتت التجربة أن الدين لم يكن إلا مطية ركبتها الجماعة من أجل الوصول للسلطة وتحقيق الأهداف الدنيوية التي لا تمت للقيم الدينية الأساسية بصلة، حيث استشرى الفساد بين منسوبيها، وفي أجهزة الدولة وتدهورت الأخلاق العامة بصورة غير مسبوقة في تاريخ السودان الحديث، بينما ساد نمط من التدين الشكلي الذي يحتفي بالمظاهر الخارجية مثل إطلاق اللحية وإظهار زبيبة الصلاة، ولا يكترث للقيم الأساسية مثل الحرية والعدل والصدق والأمانة.
وهو الأمر الذي اعترف به الترابي نفسه في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة عندما قال إن "الفساد انتشر في مفاصل الدولة تحت سمعي وبصري وعجزي". وأوضح أن السلطة (الدنيا) قد فتنت أعضاء جماعته وانساقوا خلفها لأنهم منذ البداية كانوا "يجهلون أن السلطة يمكن أن تفتن من تربى وتزكى في حركة دينية عشرات السنين".
إذن، أزمة الإخوان لا تتعلق فقط بعدم وضوح رؤيتهم لماهية الدولة الإسلامية التي ينشدون إقامتها أو عجزهم عن إعداد الكادر الجدير بالقيام بتلك المهمة، وإنما هى أيضا أزمة في المفاهيم والأفكار والمنطلقات النظرية التي قامت عليها الجماعة، وهو الأمر الذي يتطلب من القائمين على أمرها إجراء تغييرات جذرية تتماشى مع مقتضيات العصر وتواكب المفاهيم الحديثة للأحزاب السياسية المدنية وتقطع مع إرث الشمولية الذي وسم الجماعة طوال تاريخها.
فشلت الجماعة في تدارك أخطاءها وتصحيح تجاربها منذ أن كتب محب الدين الخطيب مقالته في خمسينيات القرن الماضي وحتى الآن، مما نتج عنه تكرار الفشل عند وصولهم للسلطة في السودان ومصر، وربما كان هذا هو السبب الذي جعل الدكتور كمال أبو المجد يقول أن حال الإخوان المسلمين كحال أسرة البوربون : لا يتذكرون شيئا، ولا يتعلمون شيئا، فهل ياترى ستستمر الجماعة على هذا الحال أم ستتغير في المستقبل ؟