منير بشاي
لم يتوقف الكلام منذ سنة 2009 عما يسمّى قانون بناء دور العبادة الموحد. وكان هذا تطبيقا للشعارات التى كانت تتردد زاعمةً أن هناك شيئًا فى مصر اسمه "مواطنة" تساوي بين جميع المواطنين فى الحقوق والواجبات. ومن البدهي أن العبادة حق أصيل من حقوق الإنسان قبل أن يكون حقا من حقوق المواطنة.
وفى ذلك الوقت، أرسلت مصر مندوبها لدى المجلس الدولي لحقوق الإنسان في جنيف ليدافع هناك عن سجلها فى بناء الكنائس مدعية أنه منذ 2005 وحتى 2009 تم إصدار 138 تصريحا لبناء كنائس جديدة فى مصر، فى الوقت الذى لا تُصدر تصاريح لبناء مساجد فى مصر بشكل مطلق. وأضاف أن المجلس القومي المصري لحقوق الانسان قدّم مشروع بناء دور العبادة الموحد وأن الحكومة بصدد مناقشته وعرضه على الجهات المختصة.
أراد مندوب مصر أن يوحي للعالم بأن مصر ترجح كفة المسيحيين. فبحسب كلامه، فإن الطرف الذى أصابه الغبن فى موضوع بناء دور العبادة هو الطرف المسلم. ومن المؤكد أننا لا نرضى بهذا الغبن، ونضم صوتنا إلى صوته طلبا للمساواة بين الجميع.
وتدور الأيام، ويصدر دستور الإخوان، ثمّ تحدث ثورة، ويُطرد الإخوان ويلغى دستورهم، ويُعَد دستور جديد. وفعلًا يوضع فيه بند واضح يفرض على مجلس النواب الجديد أن يصدر فى أول فترة انعقاده قانونا ينظم دور العبادة (كلها وليس بعضها) ويسمّى قانون بناء دور العبادة الموحد (وليس دور العبادة التى تنتمي إلى دين معيّن بالذات). ورحبنا جميعا بهذا القانون المرتقب. فالمساواة لا تغضب أحدًا. فإذا كانت المساجد تعاني من الظلم، فإننا أول من يطالب برفع الظلم عنها ومساواتها الكاملة بالكنائس.
لكن فوجئنا قانون دور العبادة الموحد وقد تغير اسمه إلى قانون بناء الكنائس. فلماذا حدث هذا؟ وكيف حدث تغيير لشيء تم التصويت عليه وإقراره فى استفتاء من الشعب المصرى كله؟ وعندما استفسرنا عن سبب التغيير، قيل لنا إن السبب يكمن في أن المساجد لا تعاني المشاكل فى بنائها، ولذلك يجب أن نتركها جانبا. وبما أن الكنائس هى التى تعاني من المشاكل لبنائها، يلزم وجود قانون لحلها. لكن لو قبِلنا هذا التفسير، فهل كان هذا التغيير المفاجئ تبريرًا للتلاعب في ما تم إقراره؟ فالحكمة من دمج جميع دور العبادة فى قانون واحد هو حل مشكلة التفرقة فى التعامل مع دور العبادة من أساسها، حيث تسود المساواة المطلقة فى الحقوق والإجراءات والتراخيص بين جميع دور العبادة. وبهذه المساواة وحدها يتم رفع الظلم عن الطرف المظلوم.
وفي ما يتعلق بي شخصيًّا، لم أصدّق عندما قيل لنا إنه سيصدر قانون يساوي بين دور العبادة كلها لتعامَل كلها على قدم المساواة. وأثبتت الأيام صدق توقعاتي أن هذا كله من نسج الخيال. فكما قال الشاعر: "كان صرحًا من خيال فهوى."
وها هم الآن يحاولون صياغة قانون جديد لبناء الكنائس (فقط) يحاول إعادة استنساخ ما سبق تشريعه من قوانين تعسفية مجحفة فرضت لتقييد بناء الكنائس بدءا بالعهدة العمرية، ومرورًا بالخط الهمايوني، وانتهاء بالشروط العشرة لمحمّد العزبي باشا. ويعني هذا أن للقانون هدفًا لا علاقة له بالعدل.
لهذه المسألة خلفيتها التاريخية التي بدأت عندما أصدر الخليفة عمر بن الخطاب ما يطلق عليه العهدة العمرية، وهى شروط فُرضت على أهل الشام من أهل الذمّة (المسيحيين واليهود)، من بينها "أن لا يحدثوا فى مدينتهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب." وتُرجمت هذه العهدة إلى قانون يسمّى حُكم بناء الكنائس فى ديار الإسلام، وهو يقضى بعدم بناء الكنائس فى المدن الجديدة التى استحدثها المسلمون. أما المدن القديمة التى فتحها المسلمون، فتُترك الكنائس فيها كما هي، إذا كانت المدن هذه فُتحت صلحا، إلى أن تتهدم ولا يعاد بناؤها. وأما المدن التي فتحها المسلمون عنوة، فتُهدم كنائسها.
واستمر الوضع على هذا المنوال حتى أواخر عهد الخلافة العثمانية. لكن تحت ضغوط مارستها الدول الأوروبية، اضطر الخليفة العثمانى إلى إصدار الخط الهمايونى سنة 1856 الذي كان خطوة تقدمية فى ذلك الوقت. وهو قانون يضمن بناء الكنائس فى الولايات التابعة للخلافة بشرط الموافقة الشخصية من الباب العالي ممثلا فى الخليفة نفسه. ومن هنا جاء مبدأ ضرورة موافقة أعلى سلطة فى البلاد على التصريح ببناء الكنائس وترميمها. وحتى بعد أن خوّل الرئيس مبارك المحافظين سلطة ترميم الكنائس القديمة وبناء كنيسة جديدة مكان كنيسة قديمة، ظلت سلطة بناء كنيسة جديدة فى مكان جديد في يد الرئيس وحده.
واليوم يثار الموضوع من جديد. وتبتدئ أصابع التغيير باللعب. فبدلًا من أن يكون هناك قانون موحد لبناء جميع دور العبادة، انكمش القانون ليصبح قانونا لبناء الكنائس وحدها. وعُرض الموضوع على قادة الكنائس لإبداء رأيهم، فقدموا توصياتهم. لكن فوجئنا بتقديم القانون إلى مجلس النواب فى صيغته الأولى من دون أي اعتبار لرأي قادة الكنائس.
وفى النهاية ظهرت مسودة القانون الجديد الذى لم يختلف كثيرا عما سبق. بل إنه أضاف قيودًا تعسفية جديدة. وقد أبقى القانون الجديد على شروط كثيرة وضعها العزبي باشا في سنة 1934، ومنها ربط تصريح بناء الكنيسة بعدد المسيحيين فى المنطقة التى يراد بناء الكنيسة فيها. ويعني هذا أنه لو أن هنالك عشرين مسيحي فى قرية ما يريدون بناء مكان صغير يصلّون فيه، فلن يسمح لهم بذلك. بل إنه لن يسمح لهم بدعوة قسيس لممارسة الشعائر داخل غرفة في منزل. ولو حدث شيء من هذا، ستحرق بيوت، وتسيل دماء، وتهجر عائلات، كما هو حادث الآن.
والخلاصة هي أن الأمور لا تدعو إلى التفاؤل. ومن الغريب أن يستمر هذا التعنت بالنسبة لبناء الكنائس، حيث إنها أماكن لا تقوم بأية نشاط سوى رفع الصلوات إلى الله. فلماذا يخشون الكنائس إلى هذه الدرجة؟ هل لأنها ترفع دعوى المظلوم إلى الله؟ وهل يستطيع إنسان مهما كان جبروته ان يقف بين الانسان وربه؟ ويتبقى الاحتمال الذي ربما ما يزال يصدقه بعضهم، وهو أن المسيحيين يكدسون الأسلحة فى الكنائس التي ينوون استعمالها ضد المسلمين فى يوم من الأيام! وهذه، بطبيعة الحال، كذبة أشاعتها الجهات التي تقف بقوة ضد فكرة وجود قانون موحد لدور العبادة، وتغذّي الكراهية تجاه المسيحيين، وتثير الفتن لتحقيق مراميها.