البكائيات الإسلامية على الماضي العثماني - مقالات
أحدث المقالات

البكائيات الإسلامية على الماضي العثماني

البكائيات الإسلامية على الماضي العثماني

وليد فكري

 

يحلو للبعض وصف دولة العثمانيين بـ"الخلافة العثمانية"، معمّمين على مجمل تاريخها تلك الصفة التي لم تحملها رسمياً سوى في الفترة بين العامين 1876م و1924م. والدولة العثمانية بالذات هي الموضوع الأكثر "جاذبية" لكثير من هواة ما يمكن وصفه بـ"البكائيات التاريخية" في التاريخ الإسلامي، فهم يستحضرونها كلما أرادوا إقامة النواح على "أمجاد الماضي" أو التدليل على عقيدة يؤمنون بها هي "تآمر العالم على المسلمين". ويصل تعظيمهم التاريخ العثماني والإصرار على إضفاء صفة الخلافة على دولة العثمانيين حد التقديس حيث أن مجرد محاولة نقد هذا التاريخ قد تكون نتيجتها إلقاءهم الاتهامات للناقد بـ"الحقد على الإسلام والمسلمين"، و"تشويه التاريخ الإسلامي" ونحو ذلك من التهم. فلننظر إذاً أمر هذه الخلافة.

قصة انتقال الخلافة إلى العثمانيين

تقول القصة، أن بعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول على المماليك في معركة مرج دابق في العام 1516م، وسقوط الخليفة العباسي في أسره، قام السلطان بإكرامه وتقديم الاحترام له، ثم حصل منه على تنازل عن الخلافة، إضافة للآثار النبوية كالبُردة ومفاتيح الكعبة، ومنذ هذا الوقت أصبح سلاطين آل عثمان هم خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين

المثير أن هذه القصة لم يروها أيٌّ من المؤرخين العثمانيين المعاصرين لاستيلاء سليم الأول على الشام ثم مصر، ولم يتم تداولها قبل القرن الثامن عشر عندما كان السلطان العثماني عبد الحميد الأول (الذي عاش بين عامي 1725م و1789م)، يفاوض قيصر روسيا بشأن التتر المسلمين في شبه جزيرة القرم، محاولاً فرض نوع من الوصاية عليهم مقابل تلك التي كان القيصر يسعى لفرضها على المسيحيين الأرثوذكس باعتبار أن قيصر روسيا هو وريث رعاية المسيحية من قيصرية بيزنطة البائدة. فورد في المادة الثالثة من اتفاقية "كوتشك قينارجه" (عام 1774م)، قوله "وكون ذاتي السلطانية الموسومة بالعدالة هي إمام المسلمين وخليفة الموحدين". ويؤكد الأستاذ الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "العثمانيون"، هذا التناقض بين المؤرخين المعاصرين لسليم الأول وقرنائهم مؤرخي القرن الثامن عشر، ويضيف أن مسألة التنازل عن الخلافة ربما قد رأت النور وقتها كتبرير لتقديم السلاطين العثمانيين أنفسهم كأئمة للمسلمين في كل الأرض. ويضيف أنّ سليم الأول قد ضم لألقابه الألقاب الخليفتية ومنها وصفه بـ"ظل الله على الأرض". كذلك يقول الدكتور صلاح هريدي في كتابه "دراسات في تاريخ العرب الحديث" أنّ البعض قد اعتبروا أن استيلاء سليم الأول على آثار الرسول محمد، الموجودة حتى الآن بمسجد أبي أيوب الأنصاري بتركيا، وحمله الخليفة معه إلى إسطنبول، بمثابة حيازة للخلافة، إلا أن الرسائل المتبادَلة بين سليم الأول وابنه بشأن غزو مصر والشام لم تتضمن أي حديث عن تنازل المتوكل العباسي عن الخلافة لسليم العثماني، ويتفق ذلك مع نظرية الدكتور طقوش بشأن سبب خروج قصة التنازل تلك للنور في القرن الثامن عشر. أما المؤرخ والزعيم الوطني محمد فريد بك فهو يذكر في كتابه "الدولة العلية العثمانية" قصة التنازل ويؤكدها، وهو أمر مفهوم باعتبار أن المؤلف عثماني الهوى وأنه بصفته كشخصية سياسية معاصرة لأواخر أيام الدولة العثمانية كان، كزميله مصطفى كامل باشا (1874م/1908م)، مدافعاً عن فكرة سيادة العثمانيين على البلاد الإسلامية والعربية كبديل للاحتلال البريطاني.

لكنه يقع في تناقض غريب حيث أنه في كتابه كان كلما ذكر سلطاناً ذكره بـ"السلطان الغازي فلان خان"، إلا أنه حين بلغ السلطان محمد رشاد الخامس، أول سلطان بعد الإعلان الرسمي للخلافة في دستور سنة 1876م، ذكره بصفة "خليفة المسلمين وسلطان العثمانيين"، فإذا كان من سبقوه من سلاطين منذ عهد سليم الأول "خلفاء" فلماذا لم يعامل ألقابهم بالمثل؟

أدلة تاريخية ضد فكرة الخلافة العثمانية

يعتبر المؤرخ ابن إياس الحنفي من شهود العيان على غزو العثمانيين مصر، وقد دوّن تلك الوقائع في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور"، ففي سياق الحديث عن محاولات سليم الأول استمالة طومان باي، آخر سلاطين المماليك، قبل غزو سليم لمصر، يذكر ابن إياس أن السلطان العثماني قد أخبر طومان باي في رسالته أنّه–أي سليم الأول– قد تولى الملك بعهد من الخليفة ومن قضاة الشرع، وكانت العادة أن الخليفة يكتب لكل سلطان تقليداً وعهداً بسلطنته. فإذا كان الخليفة العباسي المتوكل قد تنازل لسليم الأول عن خلافته فلِمَ يحتاج هذا الأخير إلى تقليد منه بالمُلك؟ ونلاحظ هنا أنه قد استخدم مصطلح "المُلك" لا "الخلافة". وقول سليم–في نفس الرسالة– أنه "خليفة الله في أرضه" هو مجرد صيغة تعظيم لا يُفهَم منها أنه خليفة بالمعنى الشرعي للمصطلح. كذلك فإن سليم العثماني عندما دخل إلى القاهرة، أُمِرَ الخطباء أن يدعوا له من فوق المنابر بتلك الصيغة "وانصر اللهم السلطان بن السلطان، مالك البرّين والبحرين، وكاسر الجيشين، وسلطان العراقَين، وخادم الحرمين الشريفين، الملك المظفر سليم شاه". بل ولقد حمل سليم الأول الخليفة المتوكل معه إلى القاهرة بغرض استخدام سلطته الروحية في تهدئة المقاومة ضد غزوه، ثم حين عاد إلى إسطنبول حمله معه لكنه ضيّق عليه وحدد إقامته لغضبه بسبب ادعاء البعض إخفاء الخليفة بعض أموال الأمراء المماليك، وبقي الخليفة محدد الإقامة حتى موت سليم ثم انتقل إلى القاهرة حيث مات ودُفِنَ فيها. ويقول المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي في كتابه "عجائب الأثار في التراجم والأخبار" أن سليم الأول بعد دخوله مصر "رجع إلى بلاده وأخذ الخليفة العباسي وانقطعت الخلافة والمبايعة"، نلاحظ هنا أن الجبرتي مؤرخ ينتمي للعصر العثماني، وهو أحد رعايا الدولة العثمانية، لكنه يؤكد "انقطاع الخلافة". وربما أنه مما أثار الارتباك استخدام البعض للقب الخلافة لوصف بعض السلاطين، كالسلطان عبد الحميد الأول لوصف نفسه-كما سلف الذكر، أو كوصف البعض للسلطان عبد العزيز بأنه "قد تولى الخلافة العُظمَى"، أو حتى وصفه في فتوى خلعه لإصابته بـ"اختلال الشعور" بأنه "أمير المؤمنين"، رغم أنه هو نفسه في خطاب توليه السلطانة لم يستخدم هذا الوصف بل استخدم صفة "السلطنة"، وأمّا خلفه مرد الخامس، فحين صدرت فتوى شرعية بعزله بتهمة "إصابته بالجنون"، وُصِفَ بـ"إمام المسلمين"، والإمامة لا تعني بالضرورة الخلافة. فالواضح إذاً أنها كانت مجرد صفة تفخيمية للسلطان وليست صفة رسمية.  أما اكتساب السلطنة العثمانية صفة الخلافة بشكل رسمي فكان في دستور العام 1876م الصادر في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، حيث نص الدستور أن عاصمة الدولة العثمانية هي عاصمة الخلافة، بل وأضاف أن شخص السلطان ذو قدسية تحميه أن يكون مسؤولاً أمام أي شخص، أي أنه أضاف له نوعاً من "العصمة" الخليفتية، وهي عصمة غير مألوفة عند الخلفاء السابقين ما عدا الفاطميين الذين آمنوا بعصمة الإمام. وهنا نَصّ المادة الثالثة من البند الأول من "القانون الأساسي" (الدستور العثماني لسنة 1876): "إن السلطنة السَنية هي بمنزلة الخلافة الإسلامية الكبرى". وأما المادة الرابعة، فتضيف: "إن حضرة السلطان هو حامي الدين الإسلامي بحسب الخلافة". منذ هذا التاريخ نستطيع أن نقول أن الدولة العثمانية قد صارت "خلافة" بالمعنى الرسمي حتى قيام مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء تلك الخلافة عام 1924م.

ولكن، هل هي خلافة، بالمعنى الشرعي؟

الإجابة عن هذا السؤال نجدها في كتاب الفقيه والقاضي أبو الحسن الماوردي (974م–1058م) "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، والذي يعتبر من أهم كتب السياسة الشرعية في التراث الإسلامي. في هذا الكتاب يذكر الماوردي سبعة شروط للإمامة، هي العدالة والعلم وسلامة الحواس وسلامة الأعضاء وحُسن الرأي والشجاعة والنسب القرشي. ويعلق فريد دونر أستاذ تاريخ الشرق الأدنى بجامعة شيكاغو على هذه المسألة، فيقول أنّ للشرعية في الخطاب التاريخي والسياسي للمجتمع الإسلامي ثلاث أشكال: المؤهلات الشخصية للخليفة، والانتماء لقريش، والصبغة الثيوقراطية، باعتبار أنّ عمل هذا الخليفة هو جزء من خطة الله للمؤمنين. وهو هنا يتحدث عن النماذج الأموية والعباسية حيث لم تضف الخلافة الراشدة القدسية الثيوقراطية على أعمال الخليفة. فإن افترضنا أن كل من حمل لقب "خليفة" من سلاطين بني عثمان قد اتصف بالست صفات الأوائل فإنه لم يتصف بالنسب القرشي. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ مسألة قرشية النسب هي من المسائل الخلافية، فقد قال المعارضون لها أنها كانت مجرد ضرورة بعد وفاة الرسول محمد لأن "العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش" كما قال بعض الصحابة، ولكن تلك الضرورة قد تراجعت بتقدم الزمن وتغير الأحوال. والبعض الآخر قالوا بل يحبذ ألا يكون من قريش أو من أية عشيرة أو قبيلة قوية لكي يسهل خلعه إذا ظلم أو أصابته بعض موانع الاستمرار في الإمامة. ولكن ما أجمع عليه الفقهاء المسلمون هو أن على المترشح للخلافة أن يكون قرشياً عملاً بالحديث المنسوب للرسول محمد والمصنف باعتباره صحيحاً. بالتالي فإن وصف سلاطين العثمانيين–وهم غير عرب من الأساس– بالخلافة لا يصح دينياً لو استندنا على تلك المعطيات الفقهية. كذلك فإن ما نص عليه دستور 1876م من عصمة السلطان "إن ذات حضرة السلطان هو مقدس وغير مسؤول" (المادة 5 من البند الأول) تتنافى مع شرط العدل، حيث أن العدل يقتضي خضوع الخليفة للمساءلة إذا أخطأ. بالتالي فإن تحصين شاغل هذا المنصب ينفي عنه صفة الخلافة. وأخيراً، جدير بالذِكر أنّ أغلب المدافعين عن إضفاء صفة "الخلافة" على العثمانيين هم من المنتمين للتيار "الإسلامي"، المتمسكون بشدة بالمدارس الفقهية القديمة وتقديس الأحاديث المنسوبة للرسول محمد، وهو ما يمثل تناقضاً بين موقفهم التاريخي وذلك الديني، حيث أن تلك الأحاديث التي يؤمنون بصحتها وتلك الآراء الفقهية التي يعترفون بها تتعارض وإصرارهم على استخدام لقب "الخلافة" عند ذكر الدولة العثمانية

 المثير للتأمل أن من بين عدة نماذج للخلافة كالراشدة والأموية والعباسية والفاطمية، لها ما لا يُنكَر من الإنجازات السياسية والحضارية، فإن المتباكون على "عظمة الماضي" يستحضرون النموذج العثماني. ويعلل البعض ذلك بقرب عهد سقوط هذا النموذج العثماني قياساً بغيره، أو بتزامن سقوطه مع البدايات الأولى لبعض حركات الإسلام السياسي وتوظيفها صدمة "سقوط الخلافة" للترويج لمشروعها، أو لأن حالة التدهور الحضاري للمجتمعات الإسلامية قد أدت إلى اختصار "الخلافة/الحضارة" في نموذج دولة مقاتلة تحارب باسم الدين كما كانت الدولة العثمانية، أو ربما لأنّها غدت مثالاً عن المواجهة مع أوروبا، وبذلك يخدم استحضارها السرديات التي تحمّل الغرب مسؤولية في ما آلت إليه أحوال العرب. فلعل هذه هي بعض أسباب تمسُك هؤلاء بوصف العثمانيين بالخلفاء رغم أن قضية حملهم تلك الصفة مهلهلة سواء من الناحية التاريخية أو الشرعية. والأهم، أن هذا ليس ذمّاً أو انتقاداً للدولة العثمانية، ولكنه أمرٌ لا بدّ من التفكر في كل أبعاده، عندما نواجه خطاباً يوظف الخلافة العثمانية ويستغل وزنها في ثقافتنا وتاريخنا

مصادر: الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أبو الحسن الماوردي؛ العثمانيون، محمد سهيل طقوش؛ عجائب الأثار في التراجم والأخبار، عبد الرحمن الجبرتي؛ الدولة العلية العثمانية، محمد فريد بك؛ بدائع الزهور في وقائع الدهور، ابن إياس الحنفي؛ مصر المملوكية، هاني حمزة؛ دراسات في تاريخ العرب الحديث، صلاح هريدي.

رصيف 22

Related

Share

Post a Comment

الفئة
علامات البحث

اتصل بنا

*
*
*