ابراهيم بديوى
المتابع للسياسة التركية في القضايا المختلفة يدرك حجم تأثر القرار التركي بقضايا الداخل وشبكات المصالح الخارجية من حلف الناتو للاتحاد الأوروبي للشريك الأمريكي، ولعل هذا ما أجّل تدخل الأتراك في سوريا والعراق، الجارين، والذين يمكن اعتبارهما دون مبالغة فناءً خلفيًا لتركيا، يتأذى مما يدور فيهما أمنها القومي بشكل مباشر، وكانت في لحظة ما قبل درع الفرات قاب قوسين أو أدنى من العزل شبه الكامل عن المنطقة العربية بشريط الأكراد الحدودي الذي كاد يصل ما بين كانتوني شرق وغرب الفرات.
لكن ليلة الـ 15 من يوليو (تموز) لعام 2016 كانت فارقة في حسم الكثير من القضايا الداخلية، إذ جرى تطويع الجيش الذي تربى على الانقلابات أكثر مما تربى على الحروب، وتقليم أظفاره، وإخضاعه لسلطة الدولة المدنية، وشيئًا فشيئًا تخلص الرئيس من أعدائه ومعارضيه وعزز صلاحياته كرئيس باستفتاء الشعب على التعديلات الدستورية في أبريل (نيسان) الماضي. خطواتٍ رآها مؤيدوه تناسب الظرف الراهن لاتخاذ الإجراءات بوتيرة أسرع، بعيدًا عن تعقيدات النظام البرلماني المعتمد في الأساس على محاصصة السلطة ومن ثم مشاركة القرار.
اقرأ أيضًا: «التعذيب في تركيا».. حين وصلت «ديمقراطية السود» لأفق مسدود
ولم يُختبر الرجل بعدها إلا في مواطن الاختبار الأول، والتي بات قرارها بيد أصحاب القرار الدولي، الذين جعلوا لهم موطئ قدم منذ بداية الأزمة، كان الحال في سوريا رهين الولايات المتحدة وحلفائها على الأرض من أعداء أردوغان، من الأكراد، وكذاك كان المعسكر الشرقي بوجوده الراسخ على الأرض، وكان هامش المناورة التركية ضيقًا إلا من تصريحات عالية النبرة، لا يتبعها قرار، ولا ينبني عليها عمل.
حتى كانت الأزمة الخليجية الراهنة اختبارًا للرجل، تجمّع غير عدوٍ من أعدائه في محور السعودية لمقاطعة الصديقة قطر، وأهمهم خصمه ترامب الذي خذله قبل أيام بتسليح أكراد سوريا لتحرير الرقة بعيدًا عن المشاركة التركية، التي لطالما طلبتها تركيا مرارًا وتكرارًا.
الرئيس المصري هو الآخر اصطف مع المملكة وأعلن مقاطعة قطر في ساعات الأزمة الأولى، ومعروفٌ أن بين الرجلين «ما صنع الحداد!» ناهيك عن قيادة الإمارات العربية للحملة مع السعودية، وكانت تسريبات السفير الإماراتي يوسف العتيبة قد أشارت إلى المشاركة الإماراتية في انقلاب تركيا الفاشل، حتى كانت الأزمة امتحانًا لانحيازات تركيا الدولة، وهل تختلف عن تركيا أردوغان، أم أن الرئيس بات قادرًا فعلًا على تحريك دفة الأمور؟
1- كيف بدأ التفاعل التركي مع الأزمة؟
قادت دولة البحرين سرب المقاطعين لدولة قطر في ساعات الصباح الأولى من يوم الاثنين، الخامس من يونيو (حزيران)، تبعها – بالترتيب – المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والحكومة اليمنية وما أُطلق عليها حكومة شرقي ليبيا، ولحقت بالركب جزر المالديف، قبل أن يخرج وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، في تمام الثانية عشر بتوقيت القاهرة، أي بعد قرابة الثمانِ ساعات من اندلاع الأزمة، ليعلن أن بلاده مستعدة لتطبيع العلاقات من جديد بين دول الخليج.
نقلت بعد ذلك بساعتين، وكالة TRT) العربية) عن أوغلو أن بلاده تأسف لقطع بعض دول الخليج العلاقات مع قطر ودعاهم لمواصلة الحوار، ثم أعلنت أنقرة بانتصاف الخامسة عصرًا عن استعدادها للعمل على إيجاد حلٍ للأزمة الخليجية، ليخرج متحدثٌ باسم الرئاسة التركية وينقل لوكالات الإعلام إعراب الدولة التركية عن حزنها إزاء قطع بعض دول الخليج علاقاتها مع قطر، وفرض العقوبات عليها، وشدد على ضرورة مواصلة الحوار لحل الأزمة بين الأصدقاء في الخليج، «الذين تربطنا بهم علاقات استراتيجية».
سيل من الاتهامات كِيل لتركيا أردوغان، فيما ظهر للوهلة الأولى أنه حياد في وقت الاصطفافات، في وقت بدا وكأن السعودية تستجمع الحلفاء بأوزانهم المتفاوتة، وجرى ربط التصريحات التركية الدبلوماسية بشعاراتٍ يرفعها العدالة والتنمية وشخص أردوغان، وعُقدت مقارنة بين موقف قطر ليلة الانقلاب التركي الفاشل إذ كان الأمير القطري، تميم بن حمد أول من هاتف أردوغان ليلة الانقلاب وبين مواقف تركيا الأولى، لكن الأمور سرعان ما كشفت عن أشياء أخرى.
2- لماذا رأت تركيا أن عليها الاصطفاف مع قطر؟
ترى تركيا ويرى المتابعون للشأن الإقليمي أن الاصطفاف الفعلي في هذه الأزمة مفروضٌ على تركيا فرضًا؛ إذ من غير المقبول أن تتلمس العبارات الوسط على غرار ضرورة الحوار ودعم المساعي الدبلوماسية والحفاظ على العلاقات بين الأطراف المعنية، وذلك لعدة أسباب:
1- أمير قطر لم ينتظر انقشاع الظلام ليلة الـ 15 من يوليو (تموز) وكان أول من اتصل بالرئيس التركي، وغطت الجزيرة ليلة دامية شهدتها تركيا، وكانت إحدى النوافذ العالمية لنقل ما حدث إلى العالم الخارجي.
2- بالنظر إلى عمق الأزمة المتمحور حول التذمر السعودي – الإماراتي من رعاية الدولة القطرية لجماعة الإخوان المسلمين، التي هي وثيقة الصلة بالحزب الحاكم في تركيا، وبالتالي فإن الدعم التركي المأمول هو دعمٌ لبقاء عناصر الجماعة الفارين من مصر إلى قطر، والاتهامات ذاتها الموجهة لقطر يمكن بسهولة جدًا توجيهها لتركيا في المستقبل، ومن ثم فالاصطفاف التركي مع قطر اليوم هو دفاع متقدم عن النظام في أنقرة.
3- تلاقي الأجندات التركية والقطرية في العديد من الملفات وأبرزها، موقفهما المشترك من الأحداث المصرية في 2013 التي عُزل فيها الرئيس السابق محمد مرسي وتولى الجيش فيها إدارة البلاد، ورفضهما بدرجة ما للسلطة المصرية الحالية، كذلك الملف السوري، والملف الليبي يجدان فيهما تقاربًا أكثر من الآخرين.
4- الشعور التركي برغبة الفاعلين دوليًا وإقليميًا عزلها عن الامتداد العربي، وترسخ لدى تركيا هذا بمنعها من خوض معارك كبيرة في العراق (معركة تحرير الموصل) وسوريا (معركة تحرير الرقة التي انطلقت أول أمس الثلاثاء بدعم أمريكي لقوات سوريا الديمقراطية التي يشكل الأكراد أكثريتها)، وعليه فإن هزيمة حلفائها في المنطقة يعني القضاء تمامًا على تواجدها الفاعل، وكذلك تمثل الأزمة مفتاحًا للمنطقة قبل أن يسبق إليها غيرها، لاسيما وأن إيران على لسان مستشار رئيسها أعلنت في ساعات الأزمة الأولى أن قطع العلاقات ليس هو الطريق السليم لحل الأزمات، كما أبدت استعدادها توريد المواد الغذائية للشعب القطري بديلًا عن القطيعة السعودية.
5- كان القرار السعودي – الإماراتي قاسيًا بحق قطر، ومخالفًا لمواثيق حقوق الإنسان في التنقل والتجارة الحرة، وهو أشبه في ضراوته ببيانات الحروب، وبموجب اتفاقات التعاون العسكري المبرمة بين الجانبين التركي والقطري وآخرها الاتفاق على إنشاء القاعدة العسكرية التركية في قطر، فإنّ على تركيا التزامٌ الاصطفاف مع حليفتها، صحيح أنه لا يجمعهما اتفاق دفاع مشترك، لكن هذا لا يعفي تركيا من الالتزام الأدبي تجاه قطر.
3- كيف دعمت تركيا قطر؟ 4 خطوات تشرح لك
امتازت الدبلوماسية التركية بالتأنّي حيال الأزمة، ربما لم يرفع المسؤولون الأتراك صوتهم؛ لأن لديهم هذه المرة ما يضطلعون به على خلاف الوضع في سوريا والعراق، حيث هامش المناورة الضيق والإحساس بالخطر المباشر دونما مناورة كان سائدًا، وربما تأخر الاصطفاف لقراءة المصالح وتقييمها، فلتركيا علاقات اقتصادية بجميع الدول الخليجية ينبغي تقييمها قبل الاصطفاف.
(1) في اليوم الأول للأزمة أعلنت الخطوط الجوية التركية توجيه أربع طائرات شحنٍ (لم تكن مُدرجة بجدول الخطوط التركية) إلى قطر للتخفيف من وطأة الحصار، إذ تستورد الدولة القطرية قرابة الـ 40% من احتياجها الغذائي برًا من الجارين السعودي والإماراتي. صحيح أن كُلفة الشحن لهذه المنتجات ستتضاعف للاستبدال بالنقل البري البحري والجوي، لكن دولة ذات ناتج محلي إجمالي يقارب 170 مليار دولار لن تتأثر كغيرها.
(2) مساء الخامس من يونيو (حزيران) أجرى الرئيس التركي اتصالات بالعديد من زعماء العالم، وحرصت الرئاسة التركية على تعليل تحركها؛ كونها الرئيس الدوري لمنظمة التعاون الإسلامي، وكان أمير الكويت راعي مساعي المصالحة ضمن هؤلاء الزعماء الذين لجأ إليهم أردوغان.
(3) كان الاصطفاف واضحًا صباح اليوم التالي 6 يونيو (حزيران( بتصريح لرئيس الوزراء بن علي يلدرم، بأنه لا يجب زعزعة العلاقات بين الدول استنادًا لأخبار مزيفة على حد وصفه، وتبنى يلدرم وجهة النظر القطرية بوصفه للتصريحات المنسوبة لأميرها بالمزيفة.
(4) في اليومين الأول والثاني من الأزمة شهد التحرك التركي شدًا وجذبًا بين الحث على الحوار، وتبني وجهة النظر القطرية حول ما اعتبرته الدوحة فبركة تصريحات الأمير، وانتهاءً بتقديم غطاء آمن للأغذية للشعب القطري، حتى كان يوم الأزمة الثالث شاهدًا على التحول الأكبر نحو مزيد من الانخراط. وتبنى البرلمان التركي قرارًا بزيادة التواجد العسكري التركي على الأراضي القطرية، طبقًا لما هو متفق عليه بين الجانبين من شراكة عسكرية.
وكانت هذه الاتفاقات المتعلقة بتعزيز التعاون العسكري بين الدوحة وأنقرة قد اُبرمت أواخر العام 2015 وعُدلت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وتمنح تركيا حق إنشاء قواعد عسكرية في قطر ونشر جنود بها، تُحدَّد أعدادهم بالتشاور بين البلدين، واستضافت قطر قبل الأزمة 200 جندي تركي لأغراض التدريب وتقديم المشورة، في انتظار أن يُزاد عددهم إلى 5000 بعد مصادقة البرلمان التركي، ويعزز هذا التحرك العسكري (على عكس ما يبدو عليه) سبل الحوار بين الفرقاء الخليجيين كما رآه متابعون، باعتباره رادعًا لأي تدخلات عسكرية من محور السعودية، الإمارات، مصر، لاسيما أن التحرك تزامن مع استضافة أنقرة لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف للتباحث بشأن الأزمة، وكذلك عقد الرئيس التركي عدة اتصالات شملت الملك السعودي، وأمير دولة الكويت، الشيخ صباح الأحمد الصباح.
تلخص الدعم التركي لقطر في دعمها لمساعي الحل الدبلوماسي وتبني الحوار للتخفيف من وطأة الموجة الأولى، والتي بدت عاتية، ثم بفتحها خطًا للأمن الغذائي القطري لئلا يتأزم الداخل القطري وهو ما كانت تأمله دول المقاطعة لإجبار تميم على تغيير السياسات الإقليمية، التي تراها الدول الخليجية الثلاث ومصر مزعزةً لأمنها وسلامتها، ثم تبنت تركيا على لسان رئيس وزرائها الرواية القطرية بفبركة التصريحات المنسوبة لأمير قطر والتي كانت شرارة الأزمة الأولى، وبعدها اتجهت تركيا للدعم العسكري مخافة أن تتدهور الأزمة للحسم العسكري، وبجانب هذا لا تزال تركيا تسعى للحل الدبلوماسي والوساطة، فهل تُفلح؟
4- هل تنجح المساعي التركية في احتواء الأزمة؟
الحقيقة أن نجاح المساعي التركية من عدمه على الأرجح مرهون برغبة الأطراف الخليجية في التهدئة، وهو ما لا توجد مؤشرات بشأنه حتى الآن، إذ لا تزال بعض الدول تساند القرارت السعودية دون أن تكون لها عداوات مباشرة مع قطر، وهو الأمر الذي ساهم برأي متابعين في (أقلمة) القضية دون (خلجنتها)، أي تحويلها لنزاع إقليمي غير خليجي بحت، وسمح لدول الإقليم الداعمة لقطر بالتدخل وإعلان المساندة والرغبة لدى بعضهم جامحة في إلحاق الضرر بالمملكة العربية السعودية، لا سيما إذا ما تناولنا المساعي الإيرانية، والتي حمّلت أحداثها الدامية أمس على لسان الحرس الثوري اتهامات للسعودية، بالرغم انتفاء الصلة وغياب الدليل.
كذلك تركيا ليست على علاقات جيدة بمحور المقاطعة، فالسعودية سرعان ما ألغت طلبيةً عسكرية كان يتم التحضير لها بين الجانب السعودي والتركي بقيمة 2 مليار دولار عقب قمة الرياض مباشرةً، كذلك الإمارات ومصر على طرفي نقيض من السياسة التركية، الداعمة بدرجة ما لفصائل الإسلام السياسي في مصر وسوريا وليبيا، ولا يُنتظر أن يكون لمساعيها الدبلوماسية تأثير إيجابي لحل الأزمة.