أحمد سيف النصر:
عاصر أبو حامد الغزالي نشوء دولتين قامت كل واحدة منها على حركة دينية في المغرب الأقصى، هما دولتيْ المرابطين والموحدين. وبالرغم من سلبيته إزاء أحداث هجمات الصليبيين على المسلمين في عصره، وموقفه الهادئ من الحروب الصليبية، إلا أنه لم يكن بعيداً عن الحياة السياسية، بل كانت له مواقف سياسية عديدة مع مؤسسي الدولتين المذكورتين.
فقد كثرت الكتابات والمراسلات بين الغزالي ويوسف ابن تاشفين، مؤسس دولة المرابطين، والذي كان يستشيره في حربه وسلمه وسياسته، حتى شرع الغزالي في الارتحال إليه من بغداد، ولكن المنية عاجلت ابن تاشفين، فصرف الغزالي التفكير في الذهاب إلى المغرب.
وتصوِّر بعض المصادر علاقة محمد بن تومرت، مؤسس دولة الموحدين والأب الروحي لها، مع الغزالي على أنها كانت علاقة المريد مع الشيخ، إذ تقول إنه تعلّم وتربى على يديه لمدة ثلاث سنوات، كما ساهم في نشر المذهب الأشعري الذي تعلم أصوله من الغزالي داخل المغرب. ولكن مصادر كثيرة فاحصة للروايات التاريخية تنفي فكرة وقوع اللقاء بينهما من الأساس.
الغزالي وابن تاشفين
بدأت علاقة الغزالي بيوسف بن تاشفين عقب تحرك ألفونسو السادس لاسترداد ممالك الأندلس من المسلمين، وسقوط مدينة طليطلة بيده عام 478هـ/ 1085م، ثم حصاره لمدينة سرقسطة. عندها، رأى ملوك الطوائف في الأندلس ضرورة الاستنجاد ببن تاشفين، بسبب تهديد ممالكهم، وكتبوا له يسنتصرونه ليخلصهم من ألفونسو السادس.
واستجاب بن تاشفين لطلب النجدة، واستطاع تحقيق نصر عسكري ضد جيوش ألفونسو السادس في معركة الزلاقة الشهيرة سنة 479 هـ/ 1086م، ثم ترك ملوك الطوائف لممالكهم، ورحل إلى المغرب. ويبدو أن هذا الموقف نال إعجاب الغزالي، لدرجة أنه لقّبه في إحدى رسائله بأمير المؤمنين. ويصف الغزالي ابن تاشفين، فيقول عنه: "أجاز البحر بنفسه ورجاله وماله، وجاهد في الله حق جهاده، ومنحه الله استئصال شأفة المشركين، والإفراج عن حوزة المسلمين، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين، وأمده بالنصر والتمكين… نسأل الله أن يخلد ملك الأمير ويؤيده تخليداً لا ينقطع أبد الدهر"، بحسب الوثائق التي أوردها محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس/ عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس".
تكاثرت بعدها الكتب والوفود من علماء وبعض وجهاء الأندلس إلى ابن تاشفين بسبب فساد ملوكهم وطغيانهم، وجنوحهم إلى ممالأة القشتاليين، واستنزاف بعضهم البعض في الحروب والمؤامرات على حساب عامة الناس، فأراد مؤسس دولة المرابطين أن يحصل على سند شرعي يُبرر تصرفه نحو ملوك الطوائف، فجمع العلماء من مراكش يستفتيهم في الأمر، كما أرسل عدة رسائل إلى علماء المشرق، وقد أفتى الفقهاء وأهل الشورى من المغرب والأندلس بوجوب انتزاع الأمر من أيدي ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب، وسارت إلى ابن تاشفين بذلك فتاوي أهل المغرب، وأهل المشرق الأعلام، مثل أبي حامد الغزالي، والطرطوشي، وغيرهما، بحسب ما روى ابن خلدون.
وحسب الرواية التي أوردها المؤرخ ابن الكردبوس في كتابه "تاريخ الأندلس"، لم يكن ابن تاشفين مرتاحاً لفكرة خلع ملوك الطوائف، وخرق الاتفاق الذي عقده معهم، وحين اجتمع مع الفقهاء، قال لهم: "كيف يجوز لي خلعهم وقد عاهدتهم، وارتبطت معهم على إبقائهم؟"، فأجابه الفقهاء بالقول: "إنْ كانوا عاهدوك فهاهم قد ناقضوك، وأرسلوا إلى ألفونسو أن يكونوا معه عليك حتى يوقعوك بين يديه ويعود أمرهم إليه، فبادرهم بخلعهم بجمعهم، ونحن بين يدي الله المحاسَبون، فإن أذنبنا فنحن لا أنت المعاقبون، فإنك إنْ تركتهم وأنت قادر عليهم أعادوا بقية بلاد المسلمين إلى الروم، وكنت أنت المحاسب بين يدي الله تعالى".
ويبدو أن ابن تاشفين لم يقتنع بعد بما قاله فقهاء مراكش، ولذلك أرسل إلى علماء المشرق، ومن ضمنهم الغزالي الذي جاء جوابه في فتوى طويلة، محفوظة في خزانة الرباط، وأوردها محمد عبد الله عنان في كتابه المذكور، دعم فيها موقف ابن تاشفين في صراعه تجاه ملوك الطوائف، وأحقيته بضم سائر الممالك الإسلامية المتفرقة في الأندلس، ولم يتحرك ابن تاشفين إلى الأندلس إلا بعد أن جاءته فتوى الغزالي، والتي قال فيها: "إن يوسف على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر… وإذا نادى الملكُ المشمولُ بشعار الخلافة العباسية وجبت طاعته، وكل مَن تمرد واستعصى فحكمه حكم الباغي، ومن حق الأمير أن يردّه بالسيف وأن يقاتل القوة المتمردة على طاعته".
عبر ابن تاشفين الأندلس بجيش للمرة الثالثة عام 490 هـ، وتنادى ملوك الطوائف لمواجهته واستنجدوا عليه بممالك المسيحيين، إلا أنه هزمهم، وقتل منهم عمر بن الأفطس وولديه بسبب موالاتهم للقشتاليين، كما قتل المستعين بن هود، وأسر عبد الله وتميم بن بلكين، والمعتمد بن عباد. وكان من المفترض أن يقتل الأخير لأنه استعان بجيش ألفونسو لقتاله، لكن مقولته الشهيرة التي قالها حين نصحه البعض بألا يستدعي ابن تاشفين ورجاله من المرابطين خوفاً من استيلائهم على الأندلس، وهي: "رَعيُ الجِمال خَيرٌ من رَعيِ الخَنازِير"، حفظت رأسه، فقرر ابن تاشفين نفيه إلى أغمات في المغرب ليرعى الجمال.
مع تولي علي بن يوسف بن تاشفين مقاليد الحكم خلفاً لأبيه، لم تستمر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الغزالي ورأس دولة المرابطين، وكان سبب التوتر قرار إحراق كتابه "إحياء علوم الدين"
ضم ابن تاشفين 13 عرشاً من ممالك الأندلس ووحدها مع المغرب تحت راية واحدة، ولما وصل الخبر بذلك إلى الغزالي، توطدت علاقة بابن تاشفين، وزاد إعجابه به، وأرسل إليه عدة رسائل يؤازره فيها، ويدعم حكمه في الأندلس، كما حضه على العدل والتمسك بالخير، ووصل الأمر أن سعى له عند خلفاء بني العباس كي يعترفوا بشرعية حكمه، وبشرعية ما فعله بملوك الطوائف، وبالفعل وصله تقليد الولاية من الخليفة العباسي، تسمى ابن تاشفين فيه بأمير المسلمين، وهو أول مَن لُقّب بذلك من ملوك الإسلام، بحسب ما أوضح محمد المنتصر في دراسته عن الغزالي والمغرب، المنشورة ضمن كتاب "أبو حامد الغزالي في الذكرى المئوية التاسعة لميلاده".
ويبدو أن شخصية ابن تاشفين حظيت بإعجاب العزالي، ولذلك أطنب عليه في بعض رسائله، وفي الدور الذي قام به، وآزره في كل خطواته. ويحكي ابن خلكان، في "وفيات الأعيان"، أن الغزالي ارتحل إلي الإسكندرية قاصداً الركوب في البحر إلى بلاد المغرب كي يلتقي بيوسف بن تاشفين الذي طالما تمنى أن يراه ويرى دولته الجديدة التي سمع عنها العجائب، ولكن بينما هو في السفر علم بوفاة الأمير، فعدل عن رحلته، وعاد إلى وطنه في طوس.
إحراق كتاب "الإحياء"
مع تولي علي بن يوسف بن تاشفين مقاليد الحكم خلفاً لأبيه، لم تستمر العلاقة الوطيدة التي كانت بين الغزالي ورأس دولة المرابطين، وكان سبب التوتر كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين"، والذي بلغ من الصيت والشهرة مبلغاً عظيماً، حتى تناسخه العامة والخاصة.
وصل كتاب "الإحياء" إلى الأندلس والمغرب سنة 503 هـ، وفي ذلك العهد، كان الفقهاء في دولة المرابطين قد تبوأوا مكانة رفيعة، وساهموا في رسم الإطار السياسي للدولة، وكانوا شركاء في أمور الإدارة والحرب والحكم، الأمر الذي أهّلهم لتصدر الهرم الاجتماعي في المجتمع الأندلسي والمغربي، وتجاوزوا مرتبة المرجع والمستشار التشريعي ليصبحوا كما عبّر المؤرخ المغربي عبد الواحد المراكشي: "أمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، فانصرفت وجوه الناس إليهم وكثرت أموالهم واتسعت مكاسبهم".
اشتد الجدل بين مؤيد ومعارض لكتاب الغزالي، وقامت من أجله معارك استمرت أيضاً بعد موت الغزالي. كان المعارضين الأكثر عدداً والأقوى نفوذاً، فشنوا حملة شعواء على "الإحياء" بسبب ما أبداه الغزالي من تذمر للفقهاء وانتقاصه منهم، إذ فضل تسميتهم بعلماء الدنيا، كما عدّ مرتبة الفقيه أقل من مرتبة المتصوف، إضافة إلى اتهامه الفقهاء بالاهتمام بفروع الشريعة دون الأصول، وأيضاً ما حواه الكتاب من أحاديث ضعيفة وموضوعة، وكذلك انتصار كاتبه لآراء المتكلمين من مذهب الأشاعرة. ولذلك، اعتبر فقهاء المرابطين أن الكتاب يحمل أفكاراً دخيلة على منهجهم ومجتمعهم الذي كان "سلفي العقيدة"، فقد كان المذهب المالكي هو المذهب الرسمي للدولة، فأهل المغرب والأندلس مالكية الأصول والفروع، ومالكية في العقائد والحكم والعبادات، حسب ما يوضح محمد المنتصر، في دراسته عن الغزالي والمغرب.
يعدّ المؤرخ ابن القطان حادث إحراق كتاب الغزالي "إحياء علوم الدين" سبباً لسقوط دولة المرابطين، إذ علّق على هذا الحادث بالقول: "كان إحراق هؤلاء الجهلة لهذا الكتاب العظيم الذي ما ألف مثله سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم على يد هذا الأمير العزيز القائم بالحق"
ويأتي القاضي أبي القاسم بن حمدين كواحد من أهم الفقهاء في بلاد المغرب والأندلس ممَّن تصدّوا لكتاب "الإحياء"، فما إنْ وقع الكتاب بيده، وقرأه حتى ثارت ثائرته، ورفع الأمر إلى علي بن يوسف بن تاشفين، ومن المعروف أن دولة المرابطين دولة فقهاء، نشأت ابتداءً على أساس دعوة الفقيه عبد الله بن ياسين، وبالتالي كان الأمير لا يخرج عن رأيهم في الأحكام وسياسية الدولة. وحين اجتمع ابن تاشفين مع الفقهاء، اقنعوه بوجوب حرق كتاب "الإحياء"، وأفتوه بأنه لا تجوز قراءته بحال، ومع كون معارضة البعض للحرق، مثل الفقيه أبو الفضل النحوي، والذي قال لهم: "وددت أني لم أنظر في عمري غير كتاب الإحياء"، إلا أن المعارضين كانوا أقلية، وبالتالي غلب ابن حمدين ومَن رأى رأيه، وأثاروا معهم العامة وطلبة العلم، فما كان لعلي بن تاشفين إلا أن يستجيب لرأي الأكثرية.
وكتب علي بن تاشفين إلى أقطار مملكته بمنع تداول كتاب "الإحياء"، ومصادرة كل النسخ التي بيعت، والتفتيش عنه في المكتبات العامة والخاصة، وأخذ الأيمان المغلظة من الناس بأنهم لا يملكون نسخاً منه. وبعد أن جمعت نسخ الكتاب، أمر علي بن تاشفين بقرار رسمي وبفتوى فقيه قرطبة ابن حمدين، بأن توضع في صحون مساجد الأندلس والمغرب، ليصب الزيت عليها، ثم توقد فيها النيران، فتحرق على مرأى أعيان الناس وعامتهم. ويروي ابن القطان المراكشي، في كتابه "نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان"، أن هذا الحادث وقع في أول عام 503 هـ.
وتوالى بعدها إحراق كتاب "الإحياء" في سائر بلاد الأندلس والمغرب، وإنزال أشد العقوبات بمَن وُجد عنده نسخة منه، من سفك دمه والاستيلاء على ماله، واشتد الأمر بذلك، بحسب الرواية التي أوردها المؤرخ عبد الواحد المراكشي في "المعجب في تلخيص أخبار المغرب".
كما أن حملة الحرب على كتاب "الإحياء" لم تقتصر على عهد الأمير علي بن يوسف، بل امتدت كذلك إلي ابنه تاشفين بن علي، والذي بعث برسالة إلى أهل بلنسية، جاء فيها: "ومتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة، وخاصة وفقكم الله كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على مَن يتهم بكتمانها"، بحسب ما أورده محمد عبد الله عنان في كتابه عن عصر المرابطين والموحدين. وجدير بالملاحظة أن معارضة كتاب "الإحياء" لم تقتصر على المرابطين وأهل المغرب فقط.
دعاء الغزالي وابن تومرت
ذكر عبد الواحد المراكشي أن محمد بن تومرت هو من قبائل المغرب، رحل إلى المشرق لطلب العلم، ولقي في المشرق أئمة الأشعرية وأخذ عنهم، واستحسن طريقهم في الانتصار للعقائد، والذب عنها بالحجج العقلية. وقد نبغ ابن تومرت في الأصول والاعتقادات، بحسب ما ذكر ابن خلدون، ومن جملة مَن لقي من العلماء أبو حامد الغزالي، وقد تلقى عنه علم الكلام على مذهب الأشاعرة، ولازم صحبته ثلاث سنوات.
وبحسب الرواية التي أوردها ابن القطان، حين بلغ الغزالي أمر حرق كتابه "الإحياء"، أضابه حزن شديد. وبالرغم من أنه كان من أشد المساندين لدولة المرابطين، إلا أنه رَفَع يديه بالدعاء عليها بزوال ملكها، وكان مما قاله: "اللهم مزق ملكهم كما مزقوه (الكتاب)، وأذهب دولتهم كما أحرقوه"، وكان من بين الحضور محمد بن تومرت، فرجاه في الدعاء وقال له: أيها الأمام، ادع الله أن يجعل ذلك على يدي، فقال له الغزالي: سيجعل الله ذلك على يديك، وخرج ابن تومرت من عند الغزالي عازماً على الترحال إلى بلاده المغرب، وكان مقتنعاً بأن دعوة الإمام لا ترد.
ويذكر المؤرخ ابن أبي زرع أن الغزالي كان كثيراً ما يشير إلى ابن تومرت، وقد أثار غضبه على سلطة المرابطين من خلال تشجيعه على الثورة ضدهم بعد أن أحرقوا كتابه، فكان الغزالي يقول عن ابن تومرت في المجالس: "لا بد لهذا البربري من دولة، أنى أن يثور بالمغرب الأقصي ويظهر أمره ويعلو سلطانه ويتسع ملكه، فإن ذلك ظاهر عليه في صفاته، وبائن عليه في شمائله، وردت بذلك الأخبار، ودلت عليه العلامات والآثار".
ويعد المؤرخ ابن القطان حادث إحراق كتاب الغزالي سبباً لسقوط دولة المرابطين، إذ علّق في كتابه "أخبار الزمان" على هذا الحادث بالقول: "وقد كان إحراق هؤلاء الجهلة لهذا الكتاب العظيم الذي ما ألف مثله سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم على يد هذا الأمير العزيز القائم بالحق". وبالتالي، استغل ابن تومرت هذا الحادث لأهدافه السياسية، وأغرته دعوة الغزالي للانتقام من بن تاشفين، وانطلق من خلالها يحارب الدولة المرابطية.
وما كادت تنتهي أيام علي بن يوسف، حتى أطل ابن تومرت بثورته على المرابطين بعد موت شيخه الغزالي بتسع سنين، وحرض الناس على عدم طاعة المرابطين وفقهائهم، واتهمهم بالتجسيم والتشبيه، ووصل الأمر إلى اتهامهم بالكفر واستحلال دمائهم، إلى أن تمكن مع أتباعه من إسقاط دولتهم، ثم عاد كتاب الإحياء للظهور، وتحول إلى دستور لمتصوفة المغرب والأندلس.
رصيف 22