عبد العزيز الفضالي:
لا يزال المصريون الذين يدينون بالمسيحية في انتظار إقرار وإنفاذ قانونهم الموحد للأحوال الشخصية الذي يمثل استحقاقاً دستورياً ضمن استحقاقات كثيرة لم يلتفت لها البرلمان المصري في تشكيليه منذ إقرار الدستور المعمول به حالياً عام 2014، ثم تعديلاته التي جرى تمريرها في 2019.
وكرر المواطنون الذين يدينون بالمسيحية الدفع بالقانون مرة ثانية على أجندة الحوار الوطني أملاً في لفت الأنظار إليه ووضعه على قائمة التوصيات التي تعهد رئيس الجمهورية بالنظر فيها عقب إتمام جلسات الحوار الوطني، الذي لا تزال جلساته مستمرة إلى اللحظة.
في حال إقراره سيكون هذا أول قانون موحد للأحوال الشخصية للمسيحيين المصريين على اختلاف كنائسهم، إذ لا تزال القضايا والأمور الشخصية للمواطنين المسيحيين تخضع لقانون الأحوال الشخصية المصري المؤسس على الشريعة الإسلامية السنية، فيما يحتكم المسيحيون كل إلى شريعة طائفته بحسب الكنائس الثلاثة التي تعمل بشكل مشروع في مصر (القبطية الأرذوثكسية والكاثوليكية والإنجيلية)، كما يأتي القانون بعد سنوات عدة من الجدل والمناقشات بين الكنائس المصرية ووزارة العدل، ما تطلب التوافق بين جميع الأطراف المعنية، خاصة في ظل اختلاف لوائح الزواج والطلاق بين الكنائس المصرية.
وقد واجه القانون تحديات عدة خلال مسيرة تشريعه التي لم تنته بعد، كان على رأسها صعوبة التوصل إلى اتفاق عام بين الكنائس المصرية حول قانون موحد ينظم جميع أحوالهم الشخصية، وانتظار موافقة قيادات كنسية بالخارج، واستبعاد عدد من الطوائف المسيحية غير المعترف بها أو المُجرّم الانتماء إليها "مثل شهود يهوه" من المشاركة في إعداد القانون، ومحاولة التفاعل مع مستجدات العصر في قضايا الأحوال الشخصية، بالإضافة إلى بعض الأطراف التي رأت أن بعض مواد مشروع القانون الجديد "تتعارض مع تعاليم الشريعة الإسلامية" والمبادئ القانونية المبنية عليها، وهو ما أخر إصدار القانون إلى اليوم، فيما لا يزال مصيره غير معروف عقب طرحه على مائدة الحوار الوطني.
مطالبات قديمة
منذ إقرار الدستور المصري في 2014، بدأت الكنائس في إعداد قانون موحد للأحوال الشخصية للمسيحيين بناءً على المادة الثالثة من الدستور، التي أعطت الحق للمسيحيين في العودة إلى مبادئ شريعتهم لتنظيم أحوالهم الشخصية، غير أن المشروع ظل متأرجحاً بين وزارة العدل الممثلة عن الحكومة المصرية، والكنائس الثلاثة العاملة في مصر، بسبب الخلافات المتعددة سواء بين الكنائس وبعضها البعض أو بسبب تحفظات من الوزارة لم تعلن أسبابها.
ومؤخراً أعلنت وزارة العدل أنها تعتزم التقدم بالصيغة النهائية لمشروع القانون خلال دور الانعقاد القادم لمجلس النواب المصري في العام 2024.
ليست هذه المرة الأولى التي حاولت فيها الكنائس المصرية إعداد والسعي لإقرار قانون موحد للأحوال الشخصية، حيث فشلت كل المحاولات السابقة بسبب تراكم العوائق، مثل عدم قدرة الكنائس على الاتفاق، ورفض الدولة لإصدار قانون يجمع لوائح الكنائس الثلاثة كل على حدة، واستمرار الخلافات بين الدولة والكنائس بشأن مواد متعارضة مع الشريعة الإسلامية التي يضعها الدستور الساري حالياص كمصدر رئيسي للتشريع حسب المادة الثانية التي ألحقت به منذ تعديلات دستور 1971 التي تم تمريرها في 1980، لتصبح ثابتة في كافة الدساتير المُقرَّة والمعدلة لاحقاً.
وفي هذا الإطار يقول منصف سليمان المستشار القانوني للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أكبر الكنائس في مصر، لرصيف22: " إن الكنائس المصرية تنتظر قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين منذ السبعينيات، وقد قدمت مسودات للحكومة مراراً دون تحقيق أي تقدم، ولكن بعد تأكيد الدستور المصري على الاعتبار بالشريعة المسيحية في الأحوال الشخصية للمسيحيين، كان من الضروري وضع مشروع قانون يتناسب مع الوضع الجديد". ووفقًا لسليمان، توصلت الكنائس الثلاث (الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية) إلى اتفاق قبل ثلاث سنوات، وتقدموا بالمشروع لوزارة العدل، ومع ذلك فقد واجه المشروع تحديات تتعلق بضرورة توسيع قاعدة التوافق بين الكنائس وانتظار موافقة الفاتيكان بعد ترجمة المشروع إلى اللغة اللاتينية بناءً على طلب الكاثوليك.
وعن آلية صياغة وإعداد القانون قال سليمان: "كان لدي كل كنيسة لائحة خاصة بها تتعلق بتنظيم شؤون طائفتها، وهو ما جعل كل كنيسة تتقدم بمسودة مشروع للقانون طبقا للائحتها، وكان علينا العمل على جمع تلك اللوائح في قانون موحد، وهو ما قامت به اللجنة التي شكلها وزير العدل عبر أكثر من خمسة عشر اجتماعا بمشاركة ممثلي الكنائس الثلاثة، حيث مارست اللجنة جهدا ضخما للوصول إلى المشروع النهائي للقانون".
ويوضح في ذلك الإطار التحدي الخاص بالاتفاق على مواد في مشروع القانون تتوافق عليها الكنائس الثلاثة بعد فشل الفكرة المبدئية بتضمين لوائح الكنائس الثلاثة في مشروع القانون: "لم يكن من المعقول أن يخرج القانون ليضم باباً لكل كنيسة، لأنه سيفقد مبدأ وحدة القانون بين جميع المسيحيين، لذا فقد اتفقت الكنائس على الأبواب التي لا خلاف حولها كالخطبة والزواج والنفقات والرؤية والمواريث، ثم شرعنا في صياغة المواد المختلف حولها كالطلاق وبطلان الزواج والزواج الثاني وموانع الزواج، بمبدأ استثناءات الأصل، فوضعنا مواد تخص كل طائفة في مواطن الاختلاف".
أبرز مواد مشروع القانون
خلال إحدى لقاءاته التليفزيونية في مارس/ أذار الماضي، أكد القس أندريه زكي رئيس الطائفة الإنجيلية بمصر، أن مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين أصبح جاهزاً لدى وزارة العدل بالفعل، وأن نسبة التوافق بين الكنائس المصرية الثلاثة في المواد المقترحة للقانون تصل إلى 95%، بينما تمثل نسبة الـ5% حجم الاختلافات بين الكنائس، مشيراً إلى أن "مسألة الطلاق مثلاً تعد أبرز الخلافات بين الكنائس، حيث لا تسمح الكنيسة الأرثوذكسية بالطلاق إلا لعلة الزنا أو تغيير الدين، فيما لا تعترف الكنيسة الكاثوليكية بالطلاق أصلاً، وتسمح بالانعزال الجسدي، ويعد الاتفاق بين الكنائس على جواز الطلاق في حالة الهجر المتصل لمدة 4 سنوات أبرز المواد المستحدثة بالقانون".
فيما يؤكد منصف سليمان، المستشار القانوني للكنيسة الأرثوذكسية في تصريحاته لرصيف22 أن مشروع القانون الذي تم إعداده، قد أقر منهجية التوسع في مسببات بطلان الزواج والتطليق في الكنيستين الأرثوذكسية والإنجيلية، "لتشمل الغش والخداع والهجر، وتغيير الدين، والعجز الجنسي حال رفض الطرف الآخر، والمثلية الجنسية، والزنا الفعلي والحكمي، والأمراض المزمنة التي لا يرجى شفاؤها كالجنون" وذلك بحسب تصريحاته.
واعتبر سليمان أن توسعة قاعدة أسباب الطلاق هي "أهم مكتسبات القانون الجديد"، يضاف إليها السماح بالزواج الثاني "للطرف الضحية في الزواج الأول، بينما يصبح من حق القيادة الدينية لكل طائفة أن تسمح بالزواج الثاني من عدمه للمخطئ"، مشيراً أن الكنيسة الكاثوليكية لا يوجد في عقيدتها طلاق، وكل أسباب الطلاق لا تسرى عليهم، وتعتمد بطلان عقد الزواج بسبب وجود عطل في أصل الزواج من الأساس.
وعن قضيتي المواريث والتبني، يقول المستشار جميل حليم الممثل القانوني للكنيسة الكاثوليكية بلجنة صياغة القانون في تصريحات لرصيف22 أن هناك اتفاق عام بين الكنائس المصرية بشأن المواريث، ولم يكن هناك جدال بشأنها داخل اللجنة، حيث تنص الشريعة المسيحية على مساواة الذكر والأنثى في الإرث بجميع الدرجات العائلية، مشيراً إلى أن عدداً من المحاكم المصرية قد أقرت هذا الحق للأقباط عبر عدة أحكام قضائية سابقة، ويضيف حليم: " اتفقنا على أن كل ما يتركه البابا البطريرك (أي رأس الكنيسة) من مال أو عقارات أو منقولات سوف يؤول إلى البطريركية، وكل ما يتركه الأساقفة كذلك يؤول إلى أبرشياتهم، وكل ما يتركه الرهبان يؤول إلى الأديرة، ولا يجوز أن يرث البطاركة والأساقفة والرهبان أقارب لهم".
فيما أكد المستشار القانوني للكنيسة الكاثوليكية أن مشروع القانون الجديد لا يشمل باباً للتبني، بعدما اقترحته الكنائس خلال الفترة السابقة، حيث تنازلت الكنائس المصرية عنه بسبب اختلافه مع الشريعة الإسلامية، واحتماليته في فتح باب اختلاط الأنساب حتى رغم تشديد إجراءاته وشروطه.
إغلاق باب الخلاص
في ظل معاناة متضرري الأحوال الشخصية من الأقباط، وعدم رضاهم عن قرارات المجمع المقدس التي تجبرهم على استمرار الزواج رغم سوء وتدهور العلاقة بين الزوجين، اضطر آلاف المسيحيين لاستخدام أبواب خلفية للتحايل على لوائح الكنيسة المكبلة للحياة الأسرية، حيث طفت على السطح إجراءات تغيير الملة والطائفة، التي امتهنها بعض المحامين والجمعيات القبطية بالتنسيق مع بعض الكنائس في الداخل أو الخارج، وتفتح تلك الشهادات الباب أمام المحكمة للتطليق أو الخلع طبقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية.
إلا أن مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسيحيين الجديد قد أغلق هذا الباب نهائياً، وفي هذا السياق يقول المستشار منصف سليمان: "تم حل هذه القضية الشائكة تماما في مشروع القانون الجديد، فبالرغم أن الزواج لا يكون إلا من نفس الطائفة، إلا أن تغيير الملة أو الطائفة لن يصبح سببا لبطلان الزواج أو الطلاق، حيث اتفقت الكنائس الثلاث بعدم الاعتداد بتغيير الملة كدافع مسبب للطلاق أو بطلان الزواج، ليكون الأصل هو الاعتداد بشريعة عقد الزواج، وهو ما يغلق هذا الباب الخلفي الذي عانت منه الكنائس كثيراً".
ما يعني أن القانون في صيغته الجديدة سيزيد من السلطة الممنوحة للكنائس في اتخاذ القرارات الشخصية في حياة المواطنين المسيحيين ويضيق من سبل الانفصال بين الزوجين في حال فشل العلاقة الزوجية.
لجان التوفيق وتسوية المنازعات
سعت الكنائس المصرية خلال مشروع قانونها الجديد إلى إعلاء سلطة الكنائس مقابل المحاكم في قضايا الزواج والطلاق، لذا فقد اتفقت الكنائس على أن يتم تشكيل لجنة لتسوية المنازعات في كل محكمة ابتدائية لتسعى للتوفيق وحل الخلافات قبل رفع دعاوى الطلاق والخلع للأزواج المسيحيين، ويقول المستشار القانوني للكنيسة القبطية: "استحدثنا لجان للتوفيق للعمل على تسوية المنازعات قبل اللجوء لمحاكم الأسرة المدنية، حيث يشترط مشروع القانون الجديد عدم جواز نظر الدعاوى القضائية المتعلقة بمنازعات المسيحيين في مسائل الأحوال الشخصية التي تختص بنظرها محاكم الأسرة، إلا بعد أن يقدم المدعى طلباً لتسوية النزاع إلى لجنة تسوية المنازعات الأسرية، قبل إقامة الدعوى وانتهاء المواعيد القانونية المحددة بالقانون، على أن تتشكل تلك اللجان من رجال الدين الذين تختارهم كل طائفة، بالإضافة لقانونيين وإخصائيين اجتماعيين".
الكنائس المستبعدة... ليسوا مسيحيين ولا يجوز الزواج منهم
اقتصرت لجنة إعداد وصياغة القانون الجديد على الكنائس المصرية الثلاثة الكبرى، واستبعدت عدد غير قليل من الطوائف المسيحية التي لا تعترف بها الكنائس الثلاثة، ومنهم طائفتي السريان والروم الأرثوذكس.
وقد تقدمت الكنائس الممثلة للطائفتين برؤيتها حول مشروع القانون الجديد لوزارة العدل، رغم عدم وجود خلافات جوهرية بين ما قدموه وبين رؤية الكنيسة الأرثوذكسية، كما حضر عدد من ممثليهما بعض اجتماعات لجنة إعداد القانون، وذلك بعد أن أعلنت الكنيستان رفضهما مسبقا - قبل سنوات - لأي قانون لم تشاركا في إعداده، ولا يحافظ على خصوصيتهما الدينية في مسائل الأحوال الشخصية، وقد توافقت الطوائف الخمسة على مشروع القانون بشكله الحالي، والذي لم يصدر - حتى الآن - أي إعلان رسمي عن مواده من قبل الدولة، ولم يطرح لحوار مجتمعي. وقد تقدمت الكنيسة الأسقفية برؤيتها حول مسودة القانون للحكومة، وذلك على اثر خلافاتها القانونية مع الكنيسة الإنجيلية حول مدى تبعيتها لها، فيما تم الاتفاق على أن تخضع الطوائف الصغيرة كالكلدان والروم الكاثوليك والكنيسة الأسقفية لأحكام عائلاتهم الكنسية الأصلية في القانون.
وبينما تم استبعاد كنائس "الأدفنتست السبتيين"، و"شهود يهوه"" والمورمون" من أعمال اللجنة، بل واعتبرتهم غير مسيحيين - طبقاً لتصريحات مصادر كنسية لرصيف22- بقوة القانون الجديد، فقد رفض ممثلو الكنائس الأربعة التعقيب على قرارات استبعادهم من اللجنة، رغم أنهم يحملون الديانة المسيحية في أوراقهم الرسمية، وتعترف الدولة بهم كمسيحيين، وسط حالة من الترقب لمواقفهم حال إصدار القانون بشكل رسمي.
فيما ناشد بعضهم رئيس الجمهورية التدخل، اعتراضا على بنود مشروع القانون، وفي هذا الإطار يقول المستشار يوسف طلعت الممثل القانوني للكنيسة الإنجيلية لرصيف22، إن السبتيين وشهود يهوه، والمورمون "ليسوا مسيحيين، باتفاق جميع الكنائس المصرية على ذلك، حيث نختلف معهم في العقيدة والإيمان، ولا يجوز الزواج منهم، وقد تم إدراج ذلك في مشروع القانون الجديد. وعليهم أن يلجأوا للقوانين المعمول بها طبقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية في قوانين الزواج والطلاق والمواريث وغيرها".
مؤخراً، وفي ظل كثرة المناشدات بإحالة القانون لمجلس النواب تمهيداً لإقراره، بعد سنوات طويلة من الحوار والعمل الشاق، أوصى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال اجتماعه بالمستشار عمر مروان وزير العدل، بضرورة إجراء حوار مجتمعي واسع حول مشروع القانون عقب الانتهاء من صياغته الأولية، قبل عرضه على مجلس النواب لمناقشته وإصداره، وهو ما عدته منظمات مدنية وحقوقية خطوة إيجابية خصوصاً مع تعارض القانون في صورته المقترحة مع مطالب مسيحيين مصريين بتيسير الإجراءات في مسائل الطلاق تحديداً والتي ينزع مشروع القانون المصاغ حالياً إلى تضييق نطاقها وزيادة عدد القيود المفروضة على المسيحيين فيها. وتأمل المنظمات المدنية والحقوقية في أن تسهم مسألة طرح القانون للحوار المجتمعي في تعرف الشارع المسيحي على بنود القانون بشكل رسمي، ومناقشتها، والتعبير عن عن آرائه بشأنها، وأن يسعى لتعديل ما يشغله بها.
رصيف 22