محمد سعيد:
من الانتقادات التي ما فتئ يُواجه بها الفكر المسيحي، ذلك الانتقاد الذي ينطلق بقليل أو كثير من سوء النية، ومفاده أن انتماءنا الحقيقي هو للجماعة أكبر من الهوية الدينية. مقتضى هذه الفكرة أن الدعوة لاسترجاع المسلوب في إطار المقومات الدينية، هي دعوة غير ذات معنى في أحسن الأحوال، ودعوة “انقسامية” في أسوئها، وسبب ذلك أن الدفاع عن المكون المسيحي به تمييز بين مكونات المجتمع المغربي، ويتناسى أن مجتمعنا موحًد وأن قوته هي في وحدته وتماسكه.
سأبين هنا بأن هذه الانتقادات مخادعة ومغالطة للصواب.
يتخذ الاعتراض الذي ينطلق من فكرة “اتساع أفق الانتماء” أشكالاً مختلفة من بينها أن يذكرنا المعترض، بأننا جميعا ننتمي إلى المغرب، وأنه لا يمكن أن نحل مشاكلنا إلا إذا تضامناً وتعاوناً بصفتنا كذلك. يمكن أيضاً لهذا الاعتراض أن يتخذ لباسا دينيا، فيذكرنا الناقد بأن “لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى”، و بأن معيار التمايز بين الناس ليس هو انتماؤهم الديني بل ما يبذلونه من جهد في السعي إلى التقوى و الورع، و يتخذ هذا الاعتراض شكل الدفاع عن “القيم الوطنية”، عندما يذكرنا بأن ما يجمعنا هو أننا كلنا مغاربة بغض النظر عن اختلافنا، و بأن قوتنا هي دائما في وحدتنا بصفتنا كذلك، يمكن لهذا الاعتراض أيضاً أن يتخذ شكل الدفاع عن قيم المواطنة، و ذلك عندما يذكرنا المعترض بأن ما يحدد كرامتنا وانتماءنا إلى الوطن هو مدى مساهمتنا في تدعيم مقومات المواطنة الإيجابية (اقتراح حلول إيجابية لمشاكل الناس…).
رغم الاختلاف الظاهري بين هذه الأشكال المختلفة من الاعتراضات، فإن هناك أمورا تجمع بينها كلها: فمما يجمع بين هاته الاعتراضات، أنها تتخذ نفس الشكل المنطقي “الدعوة إلى استثناء الهوية المسيحية لأننا كلنا كذا وكذا”، بحيث يمكنك تعويض لفظة “كذا” بهوية يعتبرها المعترض “أهم” أو “أوسع” من الهوية المسيحية؛ مثلاً بقوله “كلنا مسلمون” أو “كلنا مغاربة”، و “كلنا مواطنون”، إلخ.
مما يجمع بين هذه الاعتراضات أيضأ أن أصحابها يصرحون بمنطلق نقدهم (أننا كلنا “كذا”) ولكنهم لا يصرحون بنتائج هذا المنطلق. مثلاً، إذا افترضنا بأننا كلنا ننتمي إلى المغرب، وبأن قوتنا وجودة حياتنا يتوقفان على تعاوننا وتضامننا بصفتنا كذلك، فما هي نتيجة هذا الانتماء (الأفق الأوسع)، وهذه الوحدة المغربية بالنسبة لموضوع تفعيل حرية المعتقد؟ هل نصحح التاريخ المسيحي بالمغرب لممارسة حريتنا الدينية؟
يمكن قياس هذا المثل على كل الاعتراضات الأخرى: ما هي نتائج كوننا مسلمين بالنسبة للمسألة المسيحية؟ ما هي نتيجة كوننا مغاربة؟ هل الانتماء للمغرب يعني أن لا نؤمن إلا بما ارتضاه الحاكمون؟ أو نمنع التدين بما يشاء المواطنون؟
وماذا نريد أن نستنتج من فكرة الانتماء إلى الوطن الواحد؟ هل يعني ذلك أن نقصي المسيحيين ومن يعتقدون بخلاف الإسلام؟ ما هي نتائج الانتماء إلى هذه الرقعة الجغرافية المدعوة بالمغرب؟
مشكلة نظرية “كلنا كذا” هو أنها تصرح بمنطقها، ولكنها لا تصرح بالنتائج التي ترتبها على هذا المنطق، مما يجمع بين كل هذه الاعتراضات أيضاً، أنها تفترض عن خطأ أن ما تنطلق منه يتعارض مع الدعوة إلى استرجاع المسلوب المسيحي، فمن يسلب منك هويتك الدينية يسلب منك وجودك، فالانتماء للمسيحية لا يعني كوننا فوق البشر أو دونهم، بل يؤكد مساهمتنا الحضارية المتميزة في التاريخ؛ وانتماؤنا العقدي بصفتنا مسيحيين يؤكد على تفرد وتميز مساهمة الثقافة المسيحية في شمال إفريقيا.
خلاصة: نظرية “كلنا كذا”، إذن، نظرية مخادعة بقدر ما تتجنب عدم التصريح بنتائجها، ومغالطة بقدر ما تفترض أن الدعوة إلى استرجاع الحقوق المسلوبة تتناقض مع بدايتها.
*محمد سعيد: عضو المكتب التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث الإنسانية، باحث في العلوم الإنسانية، مقيم بواشنطن.